الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

الأمر الأوّل : فی تحریر محلّ النزاع ومقام التشاحّ

الأمر الأوّل : فی تحریر محلّ النزاع ومقام التشاحّ

‏ ‏

‏أی ما یمکن أن یقع مورد البحث عند الأعلام ـ رضی الله عنهم ـ من بدو‏‎ ‎‏حدوثها. وکان ذلک بین العامّة والخاصّة، معنوناً فی کتبهم الاُصولیّة، ولایحضرنی‏‎ ‎‏الآن تأریخ البحث، مع قلّة جدواه.‏

وعلی کلّ تقدیر :‏ لاشبهة فی أنّه إذا کان شیء واجباً، وکان فی وجوده‏‎ ‎‏الخارجیّ، محتاجاً إلی المبادئ الخاصّة والمقدّمات المعیّنة؛ من الشرائط، والعلل،‏‎ ‎‏ورفع الموانع وهکذا، وکان هذا واضحاً عند العقل، فالعقل یدرک لابدّیة ذلک؛ قضاءً‏‎ ‎‏لحقّ امتناع المعلول بدون علّته، فبعد إدراک العلّیة، وتشخیص العلّة، یدرک لزوم ذاک‏‎ ‎‏عند إرادة إیجاد الواجب وذی المقدّمة. وهذا لایعقل أن یقع مورد النفی، حتّیٰ یبحث‏‎ ‎‏عنه عاقل.‏

وأیضاً :‏ لیس البحث حول أنّ الإرادة المتعلّقة بالواجب والوجوب الثابت‏‎ ‎‏لذی المقدّمة، یترشّح بنفسه إلی المقدّمات الدخیلة فی تحقّقه؛ لأنّ معنی ذلک کون‏‎ ‎‏المقدّمات داخلة فی أجزاء الواجب، وهو خلف.‏

‏ولایقول أحد : بأنّ هذا الترشّح قهریّ؛ لعدم إمکان تعلّق الشیء ـ بعد‏‎ ‎‏الإضافة إلیٰ شیء آخر ـ بشیءٍ ثانٍ؛ لأنّه قد تشخّص بذلک المضاف، فالإرادة‏‎ ‎‏المتعلّقة بالبعث إلی الصلاة، لاتتجاوز عنها إلیٰ مقدّماتها الخارجة عن ماهیّتها قهراً.‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 3
‏ولا یمکن اختیاراً أیضاً إلاّ بإرجاعها إلیٰ أجزائها فی الماهیّة مثلاً.‏

‏ولا أیضاً فی أنّ المولیٰ والآمر بعد إدراک اللابدّیة العقلیّة، هل یوجب المقدّمة‏‎ ‎‏إیجاباً إنشائیّاً، کما یوجب ذی المقدّمة؟ لأنّه کثیراً ما یحتاج الواجب إلیٰ مقدّمات،‏‎ ‎‏ولایکون لإیجابها فی الأخبار والآثار أثر، فلا معنیٰ لإلزام الشرع بایجاب المقدّمة‏‎ ‎‏بعد إیجاب ذی المقدّمة.‏

‏ولا أیضاً فی أنّ الوجوب الثابت بنحو الحقیقة، یسند حقیقة إلی المقدّمة، أم‏‎ ‎‏مجازاً، فیکون البحث لغویّاً.‏

‏ولایعقل أن یکون البحث فی أصل الملازمة بین إرادة الشیء وإرادة‏‎ ‎‏المقدّمات، التی هی ملازمة طبیعیّة تکوینیّة؛ لأنّ المقدّمات کثیراً ما تکون مذهولاً‏‎ ‎‏عنها. مع أنّ إرادة المقدّمة، لیست معلولة إرادة ذی المقدّمة ومخلوقتها، بل هی‏‎ ‎‏مخلوقة النفس ومعلولتها، کإرادة ذی المقدّمة.‏

‏نعم، هی من مبادئ تلک الإرادة، ولکن مجرّد کونها من مبادئ إرادة المقدّمة،‏‎ ‎‏لایستلزم تحقّق الإرادة التشریعیّة فی نفس المولیٰ قهراً علیه.‏

فتحصّل :‏ أنّ الوجوب والإیجاب، لیس بمجرّد درک التوقّف الثابت فی نفس‏‎ ‎‏الآمر ولو کان عالماً بالمقدّمات علی الإطلاق، کما فی المولی الحقیقیّ والشرع‏‎ ‎‏الواقعیّ؛ فإنّه أمر اعتباریّ إنشائیّ متقوّم بالإظهار.‏

‏ولا أیضاً فی أنّ المولیٰ هل له طلب نفسانیّ من العبد بالنسبة إلی المقدّمات؛‏‎ ‎‏وعنوان «ما یتوقف علیه الواجب»؟ لأنّ هذا بحسب الثبوت غیر قابل للإنکار؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الآمر المتوجّه العالم بجمیع المقدّمات، والطالب لشیء طلباً جدیّاً،‏‎ ‎‏والشائق إلیه شوقاً عالیاً، یطلب ـ بحسب الطبع النفسانیّ؛ وبحسب الارتکاز‏‎ ‎‏الوجدانیّ، ولأجل العشق للمطلوب الأعلیٰ ـ طلباً نفسانیّاً؛ أی یکون ذا علاقة‏‎ ‎‏بذلک، وذا محبّة ، واشتیاق إلیه، ولکنّه لیس إرادة؛ فإنّها صفة فعّالة للنفس، ومخلوق‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 4
‏صادر منها؛ علیٰ ما تقرّر منّا فی محلّه‏‎[1]‎‏، وفی هذا الکتاب‏‎[2]‎‏، ولا یکون من اللوازم‏‎ ‎‏لتلک الإرادة کسائر اللوازم.‏

‏بل الذی یمکن أن یقع محلّ النفی والإثبات : هو أنّ الآمر بعد الأمر بالشیء،‏‎ ‎‏وبعد درک اللابدّیة القهریّة، وبعد ثبوت الشوق إلیها طبعاً، فهل یرید ذلک کما أراد‏‎ ‎‏الواجب الأصلیّ وذا المقدّمة، أم لا؟‏

أو یقال :‏ هل إبراز الطلب لشیء وإنشاء الإرادة التشریعیّة، قرینة عقلائیّة‏‎ ‎‏وکاشف عرفیّ عن حصول تلک الإرادة منه لتلک المقدّمات ـ بعد إمکان ذلک ـ أم‏‎ ‎‏لا؟ فمن أوجب استظهر ذلک، ومن أنکر اقتنع بمقتضی الصناعة بعد فقدالدلیل‏‎ ‎‏اللفظیّ علیها. وممّا ذکرناه یظهر مواضع الخلط والاشتباه فی کلمات القوم‏‎[3]‎‏؛ حتّی‏‎ ‎‏الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ‏‎[4]‎‏.‏

‏ومن العجب : ماتوهّمه القوم: «من أن البحث هنا حول ترشّح الإرادة قهراً‏‎ ‎‏عن إرادة ذی المقدّمة»‏‎[5]‎‏!!‏

‏وأنت خبیر : بأنّ ذلک یرجع إلیٰ کون الإرادة الثابتة مخلوقة الإرادة الاُولیٰ،‏‎ ‎‏وهذا واضح المنع.‏

‏وهکذا ما أفاده الوالد ـ مدّظلّه : «من جعل الملازمة بین إرادة الواجب،‏‎ ‎‏وإرادة ما یراه المولیٰ مقدّمة، موردَ البحث»‏‎[6]‎‏!!‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 5
‏ضرورة أنّ الکلام حول ما إذا کان المولیٰ فرضاً عالماً بالمقدّمة، وعالماً‏‎ ‎‏بالتوقّف، وشائقاً نحوه، فإنّه هل یمکن هنا القول بالوجوب، أم لا، أو یمکن أن یقال:‏‎ ‎‏بأنّه یرید ذلک زائداً علی الشوق والاشتیاق، أم لا؟‏

‏ولو کان الوجوب والإرادة قهریّ الوجود بعد تلک الإرادة ـ لأنّها لیست إلاّ‏‎ ‎‏الشوق المؤکّد، وهو حاصل ـ فلایبقیٰ مورد للنزاع، ویصیر القول بوجوب المقدّمة‏‎ ‎‏قطعیّاً؛ لأنّ الشوق والمیل الطبیعیّ قطعیّ ووجدانیّ.‏

فتحصّل :‏ أنّ مقدّمة الواجب لیس مورد البحث وجوبها بالمعنی الاعتباریّ‏‎ ‎‏الإنشائیّ، فإنّه ممنوع قطعاً، إلاّ فی مقدّمات أوجبها الشرع بألفاظ الإیجاب، بل‏‎ ‎‏المراد هو حصول الإرادة التشریعیّة فی نفس المولیٰ، کالإرادة التشریعیّة الموجودة‏‎ ‎‏فی نفسه بالنسبة إلیٰ ذیالمقدّمة، فیکون ـ علی هذا ـ ماهو محطّ البحث: أنّ الإرادة‏‎ ‎‏المتعلّقة بطبیعة، أو إیجاب أمر، هل تتعقّبه إرادة اُخریٰ متعلّقة بمقدّماتها، أم لا؟‏

وإن شئت قلت:‏ هل مقدّمة الواجب تکون مرادة بإرادة تشریعیّة اُخریٰ، أم لا؟‏

‏وأمّا التعبیر بـ «الوجوب» فهو غلط؛ لأنّ الوجوب والإیجاب فرع الإنشاء‏‎ ‎‏والإبراز، ولا معنی لإرادة اللزوم العقلیّ منه؛ لأنّه أمر مفروغ عنه، کما هو الواضح.‏

ولایخفیٰ:‏ أنّ الفرق بین الإرادتین؛ هو أنّ الاُولیٰ لیست من مبادئها الوجودیّة‏‎ ‎‏إرادة، بخلاف الثانیة وهی الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة، فإنّها من مبادئها الإرادة الاُولی‏‎ ‎‏المتعلّقة بإیجاب کذا، ولیست المبادئ الموجودة فی النفس، موجبة لإجبارها علیٰ‏‎ ‎‏خلقها، حتّیٰ یقال باضطرارها إلیه؛ لما تقرّر منّا: من أنّ النفس مختارة فی ذلک ولو‏‎ ‎‏حصلت مبادئها التی توهّمها القوم مبادئ لها‏‎[7]‎‏.‏

‏ضرورة أنّ مع الشوق الأکید لها، لا مانع من عدم تجمّع النفس علیٰ إبداعها؛‏‎ ‎‏لملاحظة مصالح اُخر، ومنها الثمرات المترتّبة علی القول بالوجوب فی باب‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 6
‏المقدّمة، فإنّه یمکن أن لاتتصدّیٰ لإیجادها؛ بلحاظ أن لا یترتّب تلک الثمرات‏‎ ‎‏علیها، فافهم واغتنم، وکن من الشاکرین.‏

‏ثمّ إنّ العنوان الجامع هو عنوان «ما یتوقّف علیه الواجب» فلو التزم أحد‏‎ ‎‏بوجوب المقدّمة، فلایقول: بأنّ ما یراه المولیٰ مقدّمة هو الواجب، أو مایراه العبد‏‎ ‎‏مقدّمة هو اللاّزم؛ لاختلاف تشخیص المولیٰ وعبده فیما هو الموقوف علیه أحیاناً.‏‎ ‎‏وحیث إنّ البحث لایختصّ بالمولی الحقیقیّ الواقف علیٰ کلّ الاُمور، فلابدّ من‏‎ ‎‏اعتبار عنوان جامع یشمل ماهو الموقوف علیه واقعاً، ویشترک فیه جمیع الموالی،‏‎ ‎‏وهو هذا کما لایخفیٰ.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 7

  • )) القواعد الحکمیة، للمؤلّف  قدس سره (مفقودة).
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 40 ـ 41 .
  • )) نهایة الأفکار 1 : 258، نهایة الاُصول : 153، محاضرات فی اُصول الفقه 2 : 293 .
  • )) مناهج الوصول 1 : 323 ـ 327 ، تهذیب الاُصول 1 : 198 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 214، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 262، منتهی الاُصول 1 : 275 .
  • )) مناهج الوصول 1 : 326، تهذیب الاُصول 1 : 198 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 52 وما بعدها .