الأمر الأوّل : فی تحریر محلّ النزاع ومقام التشاحّ
أی ما یمکن أن یقع مورد البحث عند الأعلام ـ رضی الله عنهم ـ من بدو حدوثها. وکان ذلک بین العامّة والخاصّة، معنوناً فی کتبهم الاُصولیّة، ولایحضرنی الآن تأریخ البحث، مع قلّة جدواه.
وعلی کلّ تقدیر : لاشبهة فی أنّه إذا کان شیء واجباً، وکان فی وجوده الخارجیّ، محتاجاً إلی المبادئ الخاصّة والمقدّمات المعیّنة؛ من الشرائط، والعلل، ورفع الموانع وهکذا، وکان هذا واضحاً عند العقل، فالعقل یدرک لابدّیة ذلک؛ قضاءً لحقّ امتناع المعلول بدون علّته، فبعد إدراک العلّیة، وتشخیص العلّة، یدرک لزوم ذاک عند إرادة إیجاد الواجب وذی المقدّمة. وهذا لایعقل أن یقع مورد النفی، حتّیٰ یبحث عنه عاقل.
وأیضاً : لیس البحث حول أنّ الإرادة المتعلّقة بالواجب والوجوب الثابت لذی المقدّمة، یترشّح بنفسه إلی المقدّمات الدخیلة فی تحقّقه؛ لأنّ معنی ذلک کون المقدّمات داخلة فی أجزاء الواجب، وهو خلف.
ولایقول أحد : بأنّ هذا الترشّح قهریّ؛ لعدم إمکان تعلّق الشیء ـ بعد الإضافة إلیٰ شیء آخر ـ بشیءٍ ثانٍ؛ لأنّه قد تشخّص بذلک المضاف، فالإرادة المتعلّقة بالبعث إلی الصلاة، لاتتجاوز عنها إلیٰ مقدّماتها الخارجة عن ماهیّتها قهراً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 3
ولا یمکن اختیاراً أیضاً إلاّ بإرجاعها إلیٰ أجزائها فی الماهیّة مثلاً.
ولا أیضاً فی أنّ المولیٰ والآمر بعد إدراک اللابدّیة العقلیّة، هل یوجب المقدّمة إیجاباً إنشائیّاً، کما یوجب ذی المقدّمة؟ لأنّه کثیراً ما یحتاج الواجب إلیٰ مقدّمات، ولایکون لإیجابها فی الأخبار والآثار أثر، فلا معنیٰ لإلزام الشرع بایجاب المقدّمة بعد إیجاب ذی المقدّمة.
ولا أیضاً فی أنّ الوجوب الثابت بنحو الحقیقة، یسند حقیقة إلی المقدّمة، أم مجازاً، فیکون البحث لغویّاً.
ولایعقل أن یکون البحث فی أصل الملازمة بین إرادة الشیء وإرادة المقدّمات، التی هی ملازمة طبیعیّة تکوینیّة؛ لأنّ المقدّمات کثیراً ما تکون مذهولاً عنها. مع أنّ إرادة المقدّمة، لیست معلولة إرادة ذی المقدّمة ومخلوقتها، بل هی مخلوقة النفس ومعلولتها، کإرادة ذی المقدّمة.
نعم، هی من مبادئ تلک الإرادة، ولکن مجرّد کونها من مبادئ إرادة المقدّمة، لایستلزم تحقّق الإرادة التشریعیّة فی نفس المولیٰ قهراً علیه.
فتحصّل : أنّ الوجوب والإیجاب، لیس بمجرّد درک التوقّف الثابت فی نفس الآمر ولو کان عالماً بالمقدّمات علی الإطلاق، کما فی المولی الحقیقیّ والشرع الواقعیّ؛ فإنّه أمر اعتباریّ إنشائیّ متقوّم بالإظهار.
ولا أیضاً فی أنّ المولیٰ هل له طلب نفسانیّ من العبد بالنسبة إلی المقدّمات؛ وعنوان «ما یتوقف علیه الواجب»؟ لأنّ هذا بحسب الثبوت غیر قابل للإنکار؛ ضرورة أنّ الآمر المتوجّه العالم بجمیع المقدّمات، والطالب لشیء طلباً جدیّاً، والشائق إلیه شوقاً عالیاً، یطلب ـ بحسب الطبع النفسانیّ؛ وبحسب الارتکاز الوجدانیّ، ولأجل العشق للمطلوب الأعلیٰ ـ طلباً نفسانیّاً؛ أی یکون ذا علاقة بذلک، وذا محبّة ، واشتیاق إلیه، ولکنّه لیس إرادة؛ فإنّها صفة فعّالة للنفس، ومخلوق
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 4
صادر منها؛ علیٰ ما تقرّر منّا فی محلّه، وفی هذا الکتاب، ولا یکون من اللوازم لتلک الإرادة کسائر اللوازم.
بل الذی یمکن أن یقع محلّ النفی والإثبات : هو أنّ الآمر بعد الأمر بالشیء، وبعد درک اللابدّیة القهریّة، وبعد ثبوت الشوق إلیها طبعاً، فهل یرید ذلک کما أراد الواجب الأصلیّ وذا المقدّمة، أم لا؟
أو یقال : هل إبراز الطلب لشیء وإنشاء الإرادة التشریعیّة، قرینة عقلائیّة وکاشف عرفیّ عن حصول تلک الإرادة منه لتلک المقدّمات ـ بعد إمکان ذلک ـ أم لا؟ فمن أوجب استظهر ذلک، ومن أنکر اقتنع بمقتضی الصناعة بعد فقدالدلیل اللفظیّ علیها. وممّا ذکرناه یظهر مواضع الخلط والاشتباه فی کلمات القوم؛ حتّی الوالد المحقّق ـ مدّظلّه .
ومن العجب : ماتوهّمه القوم: «من أن البحث هنا حول ترشّح الإرادة قهراً عن إرادة ذی المقدّمة»!!
وأنت خبیر : بأنّ ذلک یرجع إلیٰ کون الإرادة الثابتة مخلوقة الإرادة الاُولیٰ، وهذا واضح المنع.
وهکذا ما أفاده الوالد ـ مدّظلّه : «من جعل الملازمة بین إرادة الواجب، وإرادة ما یراه المولیٰ مقدّمة، موردَ البحث»!!
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 5
ضرورة أنّ الکلام حول ما إذا کان المولیٰ فرضاً عالماً بالمقدّمة، وعالماً بالتوقّف، وشائقاً نحوه، فإنّه هل یمکن هنا القول بالوجوب، أم لا، أو یمکن أن یقال: بأنّه یرید ذلک زائداً علی الشوق والاشتیاق، أم لا؟
ولو کان الوجوب والإرادة قهریّ الوجود بعد تلک الإرادة ـ لأنّها لیست إلاّ الشوق المؤکّد، وهو حاصل ـ فلایبقیٰ مورد للنزاع، ویصیر القول بوجوب المقدّمة قطعیّاً؛ لأنّ الشوق والمیل الطبیعیّ قطعیّ ووجدانیّ.
فتحصّل : أنّ مقدّمة الواجب لیس مورد البحث وجوبها بالمعنی الاعتباریّ الإنشائیّ، فإنّه ممنوع قطعاً، إلاّ فی مقدّمات أوجبها الشرع بألفاظ الإیجاب، بل المراد هو حصول الإرادة التشریعیّة فی نفس المولیٰ، کالإرادة التشریعیّة الموجودة فی نفسه بالنسبة إلیٰ ذیالمقدّمة، فیکون ـ علی هذا ـ ماهو محطّ البحث: أنّ الإرادة المتعلّقة بطبیعة، أو إیجاب أمر، هل تتعقّبه إرادة اُخریٰ متعلّقة بمقدّماتها، أم لا؟
وإن شئت قلت: هل مقدّمة الواجب تکون مرادة بإرادة تشریعیّة اُخریٰ، أم لا؟
وأمّا التعبیر بـ «الوجوب» فهو غلط؛ لأنّ الوجوب والإیجاب فرع الإنشاء والإبراز، ولا معنی لإرادة اللزوم العقلیّ منه؛ لأنّه أمر مفروغ عنه، کما هو الواضح.
ولایخفیٰ: أنّ الفرق بین الإرادتین؛ هو أنّ الاُولیٰ لیست من مبادئها الوجودیّة إرادة، بخلاف الثانیة وهی الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة، فإنّها من مبادئها الإرادة الاُولی المتعلّقة بإیجاب کذا، ولیست المبادئ الموجودة فی النفس، موجبة لإجبارها علیٰ خلقها، حتّیٰ یقال باضطرارها إلیه؛ لما تقرّر منّا: من أنّ النفس مختارة فی ذلک ولو حصلت مبادئها التی توهّمها القوم مبادئ لها.
ضرورة أنّ مع الشوق الأکید لها، لا مانع من عدم تجمّع النفس علیٰ إبداعها؛ لملاحظة مصالح اُخر، ومنها الثمرات المترتّبة علی القول بالوجوب فی باب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 6
المقدّمة، فإنّه یمکن أن لاتتصدّیٰ لإیجادها؛ بلحاظ أن لا یترتّب تلک الثمرات علیها، فافهم واغتنم، وکن من الشاکرین.
ثمّ إنّ العنوان الجامع هو عنوان «ما یتوقّف علیه الواجب» فلو التزم أحد بوجوب المقدّمة، فلایقول: بأنّ ما یراه المولیٰ مقدّمة هو الواجب، أو مایراه العبد مقدّمة هو اللاّزم؛ لاختلاف تشخیص المولیٰ وعبده فیما هو الموقوف علیه أحیاناً. وحیث إنّ البحث لایختصّ بالمولی الحقیقیّ الواقف علیٰ کلّ الاُمور، فلابدّ من اعتبار عنوان جامع یشمل ماهو الموقوف علیه واقعاً، ویشترک فیه جمیع الموالی، وهو هذا کما لایخفیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 7