الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

الأمر السادس : حول جریان شبهة الشرط المتأخّر فی المتقدّم

الأمر السادس : حول جریان شبهة الشرط المتأخّر فی المتقدّم

‏ ‏

‏مقتضیٰ ما تحرّر منّا فی ملاک بحث المقدّمة‏‎[1]‎‏؛ عدم الفرق بین المقدّمات‏‎ ‎‏المتقدّمة زماناً، کالمعدّات، وبین الاُمور الدخیلة فی تحصّل المأمور به المقارنة معه‏‎ ‎‏زماناً، وبین ماهو المتأخّر عنه زماناً الدخیلة فی تحقّقه خارجاً. وحیث لاشبهة فی‏‎ ‎‏الاُولیٰ والثانیة، تصل النوبة إلی الشبهة العقلیّة فی الثالثة الآتیة من ذی قبل إن شاء‏‎ ‎‏الله تعالیٰ‏‎[2]‎‏.‏

إن قلت :‏ تقدّم العلل الناقصة علی المعلول، وانحفاظها إلیٰ حال استجماع‏‎ ‎‏شرائط التأثیر، ممّا لابأس به، کما هو المتراءیٰ فی جمیع العلل الزمانیّة، وأمّا تقدّم‏‎ ‎‏تلک العلّة وفناؤها، فهو أیضاً غیر ممکن؛ لأنّ فرض کونها علّة ناقصة، یناقض‏‎ ‎‏إمکان تحقّق المعلول عند عدمها.‏

قلت :‏ هذا ما یظهر من «الکفایة»‏‎[3]‎‏ حیث أجری الشبهة العقلیّة بالنسبة إلی‏‎ ‎‏المقدّمة المتقدّمة زماناً. واستشکل جلّ من تأخّر عنه: بأنّ الوجدان فی المعدّات‏‎ ‎‏علی خلافه‏‎[4]‎‏، غافلین عن أنّ مقصود «الکفایة» لیس ماهو الظاهر فساده، بل‏‎ ‎‏مقصوده هو أنّ فرض العلّة الناقصة؛ وانعدامها حین تحقّق الأثر، ممّا لایجتمعان‏‎ ‎‏عقلاً؛ وذلک مثل العقد المتصرّم بالنسبة إلیٰ تحقّق المعلول، وهو المعنی الإنشائیّ‏‎ ‎‏والملکیّة الإنشائیّة، فإنّه کیف یعقل حصول الاُمور المتأخّرة تأخّراً علّیاً، مع عدم‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 30
‏وجود العلّة التامّة؟!‏

وتوهّم :‏ أنّ آدم ‏‏علیه السلام‏‏ معدّ بالنسبة إلی النبیّ الأعظم ومعدوم، غیر نافع؛ لأنّ‏‎ ‎‏الالتزام ببقاء أثر المعدّ الأوّل مع المعدّ الآخر، یکفی لرفع الشبهة، کما هو کذلک فی‏‎ ‎‏المعدّات المترتّبة، ولکن لایمکن الالتزام بذلک هنا؛ ضرورة أنّ الألفاظ المعتبرة فی‏‎ ‎‏الإیجاب والحروف، اللاّزم استعمالها فی تحقّق الأمر الإنشائیّ، لیست ذات أثر‏‎ ‎‏محفوظ فی التأخّر بالضرورة، حتّیٰ یقال: بأنّ الحرف الأخیر والحرف الأوّل،‏‎ ‎‏کالأب والجدّ بالنسبة إلی الملکیّة والابن.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ الأمر هنا لیس کالأمر فی صدور الفعل من الفاعل، فإنّ‏‎ ‎‏القدرة والعلم من شرائط تحقّق الفعل، ولکن الإرادة هی العلّة التی إلیها یستند الفعل،‏‎ ‎‏ویعتبر بقاء القدرة والعلم حین تأثیر الإرادة.‏

‏وأمّا الحرف الأخیر من ألفاظ الإیجاب، فلیس علّة حصول الملکیّة‏‎ ‎‏الإنشائیّة، بل الملکیّة تستند إلیٰ ألفاظ الإیجاب بأجمعها، فلاینبغی الخلط بین‏‎ ‎‏ذوات المعدّات، وبین آثارها اللاّزمة فی حصول المستعدّ فی ظرفه، فعلیه کما‏‎ ‎‏یشکل الأمر فی المقدّمة المتأخّرة، یشکل الأمر فی المقدّمة المتقدّمة زماناً.‏

‏ولایصحّ أن یقاس ذلک بالصّلاة؛ فإنّ الصلاة لیست معتبرة علّة؛ حتّیٰ یقال:‏‎ ‎‏بأنّ تصرّم أجزائها ینافی اعتبار العلّیة للمجموع، بل الصلاة نفس المأمور بها، فإذا‏‎ ‎‏تحقّق الجزء الأخیر فقد تحقّق المرکّب الاعتباریّ فیسقط أمره، لا أنّها علّة‏‎ ‎‏للسقوط، کما مضیٰ فی بحث الإجزاء‏‎[5]‎‏.‏

‏نعم، إذا لاحظنا أنّها علّة المعراج وسبب التقرّب، فیشکل بأنّ المعلول ـ وهو‏‎ ‎‏التقرّب ـ إمّا یحصل بالجزء الأخیر، وهو معلوم العدم، أو یحصل تدریجاً.‏

‏وأمّا إمکان حصول ذلک مستنداً إلی التکبیرة إلی السلام، ومع ذلک عند تحقّقه‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 31
‏لایکون للتکبیرة وجود إلاّ بنحو التموّج الهوائیّ، فهو ممّا لایمکن الالتزام به عقلاً.‏

‏نعم، یتوجّه إلیٰ «الکفایة» : أنّ البحث هنا حول أنّ الوجوب المتعلّق بذی‏‎ ‎‏المقدّمة، یستلزم وجوباً آخر، أم لا، وهذه المسألة ومسألة بیع الفضولیّ وأمثالها،‏‎ ‎‏خارجة عن الجهة المبحوث عنها فی المقام، ولایکون فی الواجبات الشرعیّة، إلاّ‏‎ ‎‏وتکون المقدّمات المتقدّمة علیها زماناً، باقیة بآثارها حال الإتیان بالمرکّب، فیکون‏‎ ‎‏الشرائط المعتبرة فی تحقّقه صحیحاً، حاصلة عند الإتیان به، وقد مضیٰ أنّ جمیع‏‎ ‎‏المقدّمات الوجودیّة والأجزاء الخارجیّة بذاتها ، الداخلیة بآثارها ـ وهو التقیّد‏‎ ‎‏المعتبر فی المرکّب ـ داخلة فی حریم النزاع ومحطّ البحث‏‎[6]‎‏.‏

‏وأمّا حلّ هذه المعضلة، فهو هیّن بعد المراجعة إلیٰ أوسعیّة الاُمور الاعتباریّة‏‎ ‎‏من هذه التوهّمات الباردة؛ وأنّ العقود لیست عللاً واقعیةً للمعالیل الاعتباریّة، بل‏‎ ‎‏هی موضوعات أو اعتبار العلل. وأمّا مسألة صحّة بیع الفضولیّ المفروض لحوق‏‎ ‎‏الإجازة به من الأوّل فهی عندنا ممنوعة أوّلاً، ویأتی ماهو حلّ أمثال هذه الشبهة‏‎[7]‎‎ ‎‏ثانیاً إن شاء الله تعالیٰ.‏

فبالجملة تحصّل :‏ أنّ أساس الشبهة، مأخوذ من مقایسة التکوین بالتشریع‏‎ ‎‏والاعتبار هنا؛ ضرورة أنّه فی التکوین لایعقل کون العلّة متصرّمة الوجود ومتقضّیة‏‎ ‎‏الذات، والمعلولِ آنیَّ الوجود ودفعیّ التحقّق، ولکن فی الاعتباریات لیست علّیة‏‎ ‎‏ومعلولیّة إلاّ اعتباراً، ومعنیٰ ذلک عدم المنع عقلاً من الوحدة العرفیّة بین الأجزاء‏‎ ‎‏المتصرّمة، ولذلک اعتبرت الموالاة کما لایخفیٰ.‏

‏وربّما توهّم من أجل هذه الشبهة صاحب «المقالات» : أنّ الإنشاء لیس‏‎ ‎‏إیجاداً، بل الإنشاء هو إبراز مافی الخیال، فیکون المعانی الإنشائیّة موجودات فی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 32
‏النفس، ومظهرات بالألفاظ، فإنّ هذا لایستلزم إشکالاً، بخلاف ما إذا قلنا بالإیجاد،‏‎ ‎‏فإنّ الإیجاد بالمتصرّم بالذات، لایعقل بعد تصرّم الجزء الأوّل عند تحقّق المعلول‏‎ ‎‏الإنشائیّ‏‎[8]‎‏.‏

‏ولکنّک أحطت خبراً : بأنّ اعتبار المبادلة مثلاً قبل الإبراز إن کان بیعاً، فقد‏‎ ‎‏تحقّق ولایحتاج إلی الإبراز، فیکون الوفاء واجباً، وإن لم یکن متحقّقاً فیعلم: أنّه‏‎ ‎‏یتحقّق بالإبراز والاستعمال، وحیث لاسبیل إلی الأوّل یتعیّن الثانی. وما هو‏‎ ‎‏الجواب عنه ما عرفت: من أنّ الإیجاد الاعتباریّ لایقاس بالإیجاد الحقیقیّ.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 33

  • )) تقدّم فی الصفحة 12 ـ 15 .
  • )) یأتی فی الصفحة 36 .
  • )) کفایة الاُصول : 118 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 284، حاشیة کفایة الاُصول، المشکینی 1 : 467، نهایة الدرایة 2 : 35 .
  • )) لاحظ ما تقدّم فی الجزء الثانی : 268 ـ 270 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 12 ـ 15 .
  • )) یأتی فی الصفحة 41 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 325 .