الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

التحقیق فی الجواب عن شبهة الشرط المتأخّر

التحقیق فی الجواب عن شبهة الشرط المتأخّر

‏ ‏

‏إذا أحطت خبراً وعلمت : أنّ هذه الوجوه کلّها، لاتغنی ولا تسمن من جوع،‏‎ ‎‏لاتشفی العلیل، ولا تروی الغلیل، فاعلم: أنّ الاُمور الإضافیّة والمتدرّجات الزمانیة‏‎ ‎‏والحوادث الکونیّة المتصرّمة بذواتها ـ قضّها وقضیضها ـ لها وجهتان، وإلیها ینظر‏‎ ‎‏من مقامین، وبذلک یختلف أحکامها وآثارها العقلیّة والاعتباریّة:‏

‏فإن لاحظناها من اُفق الزمان، وکان اللاحظ زمانیّاً؛ من الحوادث المتقضّیة‏‎ ‎‏بذاتها الداخلة فی أحکام المادّة والمدّة، فلایجد العالم إلاّ حقیقة متصرّمة زائلة‏‎ ‎‏وداثرة، تمام هویّتها بین حالتی الوجود والعدم، وکلّ جزء منه محفوف بالعدمین؛ لا‏‎ ‎‏بقاء للمتقدّم عند المتأخّر، ولا للمتأخّر عند المتقدّم، وهذه هی الحرکة القطعیّة التی‏‎ ‎‏هی اُسّ الحرکة.‏

‏ولتلک الأجزاء والحوادث الزمانیّة صورة جمعیّة فی النفوس البشریّة،‏‎ ‎‏وبلحاظ تلک الصورة، یتوهّم انقسام الزمان والحرکة إلی الأجزاء، ویتخیّل تقسیم‏‎ ‎‏المتدرّج الذاتیّ إلیٰ شیئین، کالأمس والغد، وإلی الشهر والأسبوع، والمتقدّم‏‎ ‎‏والمتأخّر وهکذا، من غیر کون موضوع محمول المتقدّم محفوظاً عند موضوع‏‎ ‎‏مفهوم المتأخّر حسب العین ولکنّهما کالإمکان والوجوب لا خارجیّة لهما، بل‏‎ ‎‏الخارج ظرف الاتصاف.‏

‏وإن لاحظنا أنّ من یلاحظ الأزمنة فارغ عنها، ومن یکون ناظراً إلی‏‎ ‎‏المتدرّجات خارج عن اُفقها وحیطتها، وأنّه علیٰ سطح آخر أعلیٰ وأرفع، وفی‏‎ ‎‏وعاء أوسع وأبسط؛ بحیث تکون تلک المتدرّجات الزمانیّة مجتمعات عنده، وهذه‏‎ ‎‏المتفرّقات الکونیّة مطویّات بیمینه، فلایمکن الحکم بالتقدّم والتأخّر، بل الکلّ عنده‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 44
‏وبالقیاس إلیه، موجودات محصّلة فعلیّة بوجود غیر زمانیّ.‏

‏وأنت إذا کنت فی بئر ناظر منها إلیٰ من یعبر علیها، فتحکم من ذلک المکان‏‎ ‎‏بذهاب واحد، ومجیء آخر، مع أنّک إذا کنت علیٰ سطح تری الکلّ، لاتحکم بذلک‏‎ ‎‏قطعاً، ولیس هذا إلاّ لأنّ الأحکام تختلف بلحاظ أماکن الحاکم.‏

‏وإذا نظرت إلیٰ هذه المسجّلات العصریّة، تجد أنّ المتأخّر موجود عندک‏‎ ‎‏فعلاً؛ فإنّ الخطابة المحفوظة فی الشرائط لها الأجزاء؛ بحیث إذا شرع فی الإفادة‏‎ ‎‏یتقدّم بعضها علیٰ بعض، مع أنّ الکلّ عندک مجتمع وحاضر.‏

‏وبهذا القیاس الباطل من جهات، والمقرّب من جهة واحدة، وبهذا الشمعة سر‏‎ ‎‏فی الآفاق العلویّة، وفوق تلک الآفاق المجرّدة فی الأزمنة المناسبة لها المعبّر عنها‏‎ ‎‏بـ «الدهر» و «السرمد» فلاتجد هناک إلاّ أنّ الکلّ بصورة واحدة جمعیّة، کما أنّ‏‎ ‎‏الحرکة الخارجیّة توجد بصورة واحدة.‏

‏وإذا کان فی نفسک هذا التدرّج الذاتیّ موجوداً جمعاً، فالعالم المتدرّج‏‎ ‎‏بجوهره یکون هکذا عند السمیع البصیر، فالصوم لایکون متقدّماً، ولا العقد، بل هما‏‎ ‎‏مع الأغسال والإجازة عند المقنّن الحقیقیّ ومشرّع الإسلامیّ.‏

‏وحیث إنّ الحاکم بالصحّة فی هذه الدیانة المقدّسة، لیس من الزمانیّات‏‎ ‎‏والواقعیّات تحت أحکام الطبائع، حتّیٰ یکون الأمر کما توهّم، فلا یقاس بالحاکم‏‎ ‎‏الزمانیّ، ومن الخلط بین القوانین العرفیّة التی حاکمها العرف والقوانین الشرعیّة التی‏‎ ‎‏حاکمها الشرع الحقیقیّ، وقعت هذه الالتباسات والاشتباهات، فالمتأخّر لیس إلاّ مع‏‎ ‎‏المتقدّم، فلا إعضال. وبهذا تحفظ الظواهر، وترتفع الشبهة، ولانخرج عن حریم‏‎ ‎‏البحث، فافهم واغتنم جیّداً.‏

فالمحصول من ذلک:‏ أنّ جمیع المقدّمات داخلة فی محطّ النزاع فی بحث‏‎ ‎‏المقدّمة، کما أنّ إشکال الشرط المتأخّر ینحلّ فیالأحکام والوضعیّات والمکلّف به.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 45
نعم، قد عرفت:‏ أنّه مع فعلیّة الحکم ، لایمکن القول بدخول المتأخّر والمتقدّم‏‎ ‎‏فی محطّ البحث؛ للزوم الخلف، ومع الالتزام بصحّة الصوم فعلاً، لایبقیٰ وجوب ذی‏‎ ‎‏المقدّمة، حتّیٰ یترشّح منه إرادة إلی المقدّمة المتأخّرة‏‎[1]‎‏. ولکن یمکن إدراجهما فی‏‎ ‎‏المسألة؛ لما عرفت: أنّ أصل البحوث العلمیّة، یرجع إلیٰ مقام لا تقدّم ولا تأخّر‏‎ ‎‏عنده، فلا مانع من ذلک عقلاً أیضاً.‏

إن قلت :‏ کیف؟! ویلزم بناءً علیه کون الواجب المشروط، واجباً تحصیل‏‎ ‎‏شرطه، وهو ممّا لایلتزم به قطعاً.‏

قلت :‏ نعم، إلاّ أنّه لا نظیر له فی الفقه، ولا مثال له فی الشریعة، ولا یلزم منه‏‎ ‎‏تحصیل شرط الواجب علی الإطلاق؛ لأنّ الوجوب مشروط بما لیس موجوداً فی‏‎ ‎‏الزمان، لا بما هو الموجود فی اُفق آخر حتّیٰ یلزم الانقلاب، فلاتخلط.‏

وإن شئت قلت :‏ الکلام بعد الفراغ عن مرحلة الإثبات، وهی دلالة الدلیل‏‎ ‎‏علیٰ أنّ الحکم فعلیّ ومشروط بالمتقدّم والمتأخّر، أو المأمور به والحکم الوضعیّ‏‎ ‎‏فعلیّ ومشروط بالمتقدّم والمتأخّر، وأمّا لو دلّ الدلیل علیٰ عدم فعلیّة الحکم‏‎ ‎‏فلایلزم تحصیل الشرط؛ لعدم العلم بفعلیّة الحکم، کما هو الظاهر الواضح.‏

‏فإلی الآن بحمد الله وله الشکر، تبیّن حدود ما هی الجهة المبحوث عنها فی‏‎ ‎‏بحث مقدّمة الواجب، واتضح أنّ فعلیّة الحکم وصحّة المأمور به الفعلیّة، لاتنافی‏‎ ‎‏التقیّد بالمتأخّر، ولایلزم منه خروج المتأخّر عن حریم النزاع، وهکذا بالنسبة إلی‏‎ ‎‏المتقدّم.‏

ولو قیل :‏ المعیّة فی لحاظ الشرع الحقیقیّ، لاتستلزم بقاء الإرادة التشریعیّة‏‎ ‎‏بعد الإتیان بذی المقدّمة، فعلیه لایبقیٰ وجه لإرادة المقدّمة بعد انتفاء تلک الإرادة.‏

قلنا :‏ هذا علیٰ رأی من یتوهّم: أنّ الإرادة الثانیة تترشّح عن الاُولیٰ، وتتولّد‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 46
‏منها‏‎[2]‎‏، لا علی الرأی الحقّ: وهو أنّ الثانیة کالاُولیٰ؛ فی أنّ النفس یختار فی‏‎ ‎‏إنشائها، وماهو الفرق بینهما لایستلزم جبر النفس فی جعلها وخلقها؛ وذلک أنّ‏‎ ‎‏الاُولیٰ من مبادئ الثانیة، ولا عکس. وهذه المبدئیّة کمبدئیّة العلم والقدرة، لا‏‎ ‎‏کمبدئیّة العلّة للمعلول، فلاتکن من الغافلین، واشکر واغتنم.‏

إن قلت :‏ الحلّ المزبور یستلزم کون الشرط هو الإجازة بوجودها الدهریّ،‏‎ ‎‏أو الأغسال اللیلیّة بوجودها العلویّ الجمعیّ، وهذا خلاف الظواهر الشرعیّة.‏

قلت :‏ کلاّ؛ فإنّ وجودها الزمانیّ مطویّ، ولا دلیل إلاّ علی أنّ العقد مشروط‏‎ ‎‏بالإجازة، وهو حاصل، وهکذا فی صوم المستحاضة.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 47

  • )) لاحظ ما تقدّم فی الصفحة 36 ـ 38 .
  • )) أجودالتقریرات 1: 214، فوائدالاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی1: 263 و285.