التحقیق فی الجواب عن شبهة الشرط المتأخّر
إذا أحطت خبراً وعلمت : أنّ هذه الوجوه کلّها، لاتغنی ولا تسمن من جوع، لاتشفی العلیل، ولا تروی الغلیل، فاعلم: أنّ الاُمور الإضافیّة والمتدرّجات الزمانیة والحوادث الکونیّة المتصرّمة بذواتها ـ قضّها وقضیضها ـ لها وجهتان، وإلیها ینظر من مقامین، وبذلک یختلف أحکامها وآثارها العقلیّة والاعتباریّة:
فإن لاحظناها من اُفق الزمان، وکان اللاحظ زمانیّاً؛ من الحوادث المتقضّیة بذاتها الداخلة فی أحکام المادّة والمدّة، فلایجد العالم إلاّ حقیقة متصرّمة زائلة وداثرة، تمام هویّتها بین حالتی الوجود والعدم، وکلّ جزء منه محفوف بالعدمین؛ لا بقاء للمتقدّم عند المتأخّر، ولا للمتأخّر عند المتقدّم، وهذه هی الحرکة القطعیّة التی هی اُسّ الحرکة.
ولتلک الأجزاء والحوادث الزمانیّة صورة جمعیّة فی النفوس البشریّة، وبلحاظ تلک الصورة، یتوهّم انقسام الزمان والحرکة إلی الأجزاء، ویتخیّل تقسیم المتدرّج الذاتیّ إلیٰ شیئین، کالأمس والغد، وإلی الشهر والأسبوع، والمتقدّم والمتأخّر وهکذا، من غیر کون موضوع محمول المتقدّم محفوظاً عند موضوع مفهوم المتأخّر حسب العین ولکنّهما کالإمکان والوجوب لا خارجیّة لهما، بل الخارج ظرف الاتصاف.
وإن لاحظنا أنّ من یلاحظ الأزمنة فارغ عنها، ومن یکون ناظراً إلی المتدرّجات خارج عن اُفقها وحیطتها، وأنّه علیٰ سطح آخر أعلیٰ وأرفع، وفی وعاء أوسع وأبسط؛ بحیث تکون تلک المتدرّجات الزمانیّة مجتمعات عنده، وهذه المتفرّقات الکونیّة مطویّات بیمینه، فلایمکن الحکم بالتقدّم والتأخّر، بل الکلّ عنده
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 44
وبالقیاس إلیه، موجودات محصّلة فعلیّة بوجود غیر زمانیّ.
وأنت إذا کنت فی بئر ناظر منها إلیٰ من یعبر علیها، فتحکم من ذلک المکان بذهاب واحد، ومجیء آخر، مع أنّک إذا کنت علیٰ سطح تری الکلّ، لاتحکم بذلک قطعاً، ولیس هذا إلاّ لأنّ الأحکام تختلف بلحاظ أماکن الحاکم.
وإذا نظرت إلیٰ هذه المسجّلات العصریّة، تجد أنّ المتأخّر موجود عندک فعلاً؛ فإنّ الخطابة المحفوظة فی الشرائط لها الأجزاء؛ بحیث إذا شرع فی الإفادة یتقدّم بعضها علیٰ بعض، مع أنّ الکلّ عندک مجتمع وحاضر.
وبهذا القیاس الباطل من جهات، والمقرّب من جهة واحدة، وبهذا الشمعة سر فی الآفاق العلویّة، وفوق تلک الآفاق المجرّدة فی الأزمنة المناسبة لها المعبّر عنها بـ «الدهر» و «السرمد» فلاتجد هناک إلاّ أنّ الکلّ بصورة واحدة جمعیّة، کما أنّ الحرکة الخارجیّة توجد بصورة واحدة.
وإذا کان فی نفسک هذا التدرّج الذاتیّ موجوداً جمعاً، فالعالم المتدرّج بجوهره یکون هکذا عند السمیع البصیر، فالصوم لایکون متقدّماً، ولا العقد، بل هما مع الأغسال والإجازة عند المقنّن الحقیقیّ ومشرّع الإسلامیّ.
وحیث إنّ الحاکم بالصحّة فی هذه الدیانة المقدّسة، لیس من الزمانیّات والواقعیّات تحت أحکام الطبائع، حتّیٰ یکون الأمر کما توهّم، فلا یقاس بالحاکم الزمانیّ، ومن الخلط بین القوانین العرفیّة التی حاکمها العرف والقوانین الشرعیّة التی حاکمها الشرع الحقیقیّ، وقعت هذه الالتباسات والاشتباهات، فالمتأخّر لیس إلاّ مع المتقدّم، فلا إعضال. وبهذا تحفظ الظواهر، وترتفع الشبهة، ولانخرج عن حریم البحث، فافهم واغتنم جیّداً.
فالمحصول من ذلک: أنّ جمیع المقدّمات داخلة فی محطّ النزاع فی بحث المقدّمة، کما أنّ إشکال الشرط المتأخّر ینحلّ فیالأحکام والوضعیّات والمکلّف به.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 45
نعم، قد عرفت: أنّه مع فعلیّة الحکم ، لایمکن القول بدخول المتأخّر والمتقدّم فی محطّ البحث؛ للزوم الخلف، ومع الالتزام بصحّة الصوم فعلاً، لایبقیٰ وجوب ذی المقدّمة، حتّیٰ یترشّح منه إرادة إلی المقدّمة المتأخّرة. ولکن یمکن إدراجهما فی المسألة؛ لما عرفت: أنّ أصل البحوث العلمیّة، یرجع إلیٰ مقام لا تقدّم ولا تأخّر عنده، فلا مانع من ذلک عقلاً أیضاً.
إن قلت : کیف؟! ویلزم بناءً علیه کون الواجب المشروط، واجباً تحصیل شرطه، وهو ممّا لایلتزم به قطعاً.
قلت : نعم، إلاّ أنّه لا نظیر له فی الفقه، ولا مثال له فی الشریعة، ولا یلزم منه تحصیل شرط الواجب علی الإطلاق؛ لأنّ الوجوب مشروط بما لیس موجوداً فی الزمان، لا بما هو الموجود فی اُفق آخر حتّیٰ یلزم الانقلاب، فلاتخلط.
وإن شئت قلت : الکلام بعد الفراغ عن مرحلة الإثبات، وهی دلالة الدلیل علیٰ أنّ الحکم فعلیّ ومشروط بالمتقدّم والمتأخّر، أو المأمور به والحکم الوضعیّ فعلیّ ومشروط بالمتقدّم والمتأخّر، وأمّا لو دلّ الدلیل علیٰ عدم فعلیّة الحکم فلایلزم تحصیل الشرط؛ لعدم العلم بفعلیّة الحکم، کما هو الظاهر الواضح.
فإلی الآن بحمد الله وله الشکر، تبیّن حدود ما هی الجهة المبحوث عنها فی بحث مقدّمة الواجب، واتضح أنّ فعلیّة الحکم وصحّة المأمور به الفعلیّة، لاتنافی التقیّد بالمتأخّر، ولایلزم منه خروج المتأخّر عن حریم النزاع، وهکذا بالنسبة إلی المتقدّم.
ولو قیل : المعیّة فی لحاظ الشرع الحقیقیّ، لاتستلزم بقاء الإرادة التشریعیّة بعد الإتیان بذی المقدّمة، فعلیه لایبقیٰ وجه لإرادة المقدّمة بعد انتفاء تلک الإرادة.
قلنا : هذا علیٰ رأی من یتوهّم: أنّ الإرادة الثانیة تترشّح عن الاُولیٰ، وتتولّد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 46
منها، لا علی الرأی الحقّ: وهو أنّ الثانیة کالاُولیٰ؛ فی أنّ النفس یختار فی إنشائها، وماهو الفرق بینهما لایستلزم جبر النفس فی جعلها وخلقها؛ وذلک أنّ الاُولیٰ من مبادئ الثانیة، ولا عکس. وهذه المبدئیّة کمبدئیّة العلم والقدرة، لا کمبدئیّة العلّة للمعلول، فلاتکن من الغافلین، واشکر واغتنم.
إن قلت : الحلّ المزبور یستلزم کون الشرط هو الإجازة بوجودها الدهریّ، أو الأغسال اللیلیّة بوجودها العلویّ الجمعیّ، وهذا خلاف الظواهر الشرعیّة.
قلت : کلاّ؛ فإنّ وجودها الزمانیّ مطویّ، ولا دلیل إلاّ علی أنّ العقد مشروط بالإجازة، وهو حاصل، وهکذا فی صوم المستحاضة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 47