الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

معنی الوجوبین النفسیّ والغیریّ

معنی الوجوبین النفسیّ والغیریّ

‏ ‏

‏إذا تبیّن لک هذا المجمل فاعلم : أنّ الوجوب النفسیّ والغیریّ، مشترکان فی‏‎ ‎‏أصل الوجوب، وممتازان فی خصوصیّة النفسیّة والغیریّة، فما هو الوجوب وما هی‏‎ ‎‏الجهة المشترکة، فهل هی الحکم وهو الأمر الاعتباریّ العقلائیّ المنتزع من البعث،‏‎ ‎‏کما اختاره الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ‏‎[1]‎‏ فعلیه یکون الوجوب النفسیّ ماهو المبعوث‏‎ ‎‏إلیه بالبعث الذی لایکون فوقه بعث آخر، أو لایکون لأجل المبعوث إلیه الآخر،‏‎ ‎‏والغیریّ ماهو کذلک؟‏

‏أو الوجوب یعتبر من البعث بما أنّه کاشف عن الإرادة الموجودة فی نفس‏‎ ‎‏الآمر، فإذا کان بهذا اللحاظ یعتبر الوجوب، فلایکون المقسم هو الحکم، بل المقسم‏‎ ‎‏أعمّ من الحکم ومن الإرادة البارزة بغیر هیئة البعث. بل لو ظهرت تلک الإرادة‏‎ ‎‏بمظهر آخر، فهو أیضاً ینتزع منه الحکم؟‏

‏بل وإذا اطلع الإنسان علیٰ تلک الإرادة فی نفس المولیٰ، فیعتبر الوجوب‏‎ ‎‏واللزوم، ویجد المعنی القابل للانقسام إلی النفسیّ والغیریّ، لا بشخصه، بل بنوعه،‏‎ ‎‏بل لو اطلع علی مرام المولیٰ ومقصوده، أیضاً یکون الأمر کذلک، ویکون هذا أیضاً‏‎ ‎‏مثل ذاک، ولکن لا بالمعنی الذی اُشیر إلیه؛ وهو المقصود الذاتیّ.‏

‏بل لو اطلع علیٰ مقصود المولیٰ منه؛ أی من العبد، وهذا غیر المقصود‏‎ ‎‏الذاتیّ، فإنّه ـ أی هذا المقصود والمطلوب منه ـ أیضاً نفسیّ. ویمکن أن یکون‏‎ ‎‏غیریّاً بالوجه الذی اُشیر إلیه. وهذا الأخیر ـ أی ماهو مقسم الوجوب النفسی‏‎ ‎‏والغیریّ ـ هذا، لا ذاک.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 134
‏نعم، مفهوم الحکم ربّما لاینتزع إلاّ بعد البعث، ومفهوم الوجوب أوسع منه،‏‎ ‎‏وینتزع من الإرادة الموجودة غیر المظهرة لمانع، ولکن النفسیّة والغیریّة تردان علی‏‎ ‎‏المعنی الأعمّ؛ وهو المطلوب والمقصود المضاف إلی العبد. فعند ذلک یظهر ضعف ما‏‎ ‎‏قیل أو یقال فی هذه المقالة.‏

‏ولمّا کان صدق مقالتنا یظهر من توجیه المتعلّمین إلیٰ مثال، فإنّ فی ذلک‏‎ ‎‏برهاناً وإرشاداً وتنبیهاً للوجدان، فنقول: فی الموالی العرفیّة إذا أراد المولیٰ تأسیس‏‎ ‎‏بناء مسجد، فلا شبهة فی أنّ غرضه الذاتیّ، ربّما ینجرّ إلی الوصول إلیٰ تلک‏‎ ‎‏المقامات التی أشرنا إلیها، ولکنّه ـ تبعاً لغرض تأسیس البناء، واحتیاج البناء إلی‏‎ ‎‏الخدّام والعمّال ـ تارة: یأمر المهندس بإیجاد خریطة المسجد.‏

واُخریٰ :‏ یأمر المعمار برسم هذه الخریطة علی القاع المهیّأة للمسجد.‏

وثالثة :‏ یأمر البنّاء ببناء المسجد.‏

ورابعة :‏ یأمر السائق بجلب موادّ البناء للمسجد.‏

وخامسة :‏ یأمر صانع الطابوق بطبح الطابوق للمسجد.‏

وسادسة :‏ یأمر العمّال بمعاونة البنّاء فی أمر المسجد وبنائه.‏

وسابعة :‏ غیر ذلک.‏

‏فإذا نظرنا إلی المولی البانی لبناء المسجد، فلانجد منه إلاّ الأوامر النفسیّة‏‎ ‎‏متوجّهة إلی الأشخاص المختلفین، وعلیٰ کلّ واحد منهم یجب امتثال الأمر‏‎ ‎‏المتوجّه إلیه؛ لأنّه طلب منه شیئاً وبعثه نحوه، من غیر کون هذا البعث فی هذا‏‎ ‎‏اللحاظ بالنسبة إلیٰ هذا العامل غیریّاً؛ لأنّ الغیریّ هو البعث أو الإرادة المترشّحة أو‏‎ ‎‏المتولّدة منه متوجّهة إلیه علیٰ مقدّمات ماهو المبعوث إلیه.‏

‏ففی المثال المزبور، کان قد أمر صانع الطابوق بصنعة الطابوق، وهذه الصنعة‏‎ ‎‏متوقّفة علیٰ مقدّمات وشرائط وجودیّة، وتلک المقدّمات والشرائط إذا کانت مورد‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 135
‏الإرادة والبعث، یکون من البعث الغیریّ، ولایصحّ عتاب صانع الطابوق بـ «أنّک لِمَ ما‏‎ ‎‏اشتریت التراب حتّیٰ تتمکّن من تسلیم الطابوق» لأنّه أمر غیریّ ومطلوب غیریّ‏‎ ‎‏بالنسبة إلیه، وماهو المطلوب النفسیّ منه ویصحّ العقاب والعتاب علیه، تسلیم‏‎ ‎‏الطابوق وطبخه، وهکذا بالنسبة إلی المهندس والمعمار.‏

‏فالنفسیّة والغیریّة إضافیّتان، فیمکن أن یکون الشیء الواحد نفسیّاً بالنسبة‏‎ ‎‏إلیٰ شخص، وغیریّاً بالنسبة إلیٰ شخص آخر.‏

‏ثمّ إنّه بعدما عرفت ذلک، فإن علمنا من المولیٰ إرادة الخریطة من المهندس...‏‎ ‎‏وهکذا إلیٰ آخر ما مرّ، ولکن لم یظهر تلک الإرادة، فإنّه یصحّ العقوبة علی المرادات‏‎ ‎‏النفسیّة، ولایصحّ علی الغیریّة، وینقسم المراد إلی النفسیّ والغیریّ، وإن لم ینقسم‏‎ ‎‏الوجوب والحکم؛ لتقوّمهما بالظهور بأیّ مظهر کان مثلاً.‏

‏وهکذا إذا کان المولیٰ نائماً، ولکن فهمنا من الخارج تعلّق غرضه ببناء‏‎ ‎‏المسجد، وتعلّق غرضه بالنسبة إلیٰ زید لهندسة المسجد، وإلیٰ عمرو لمعماریّة‏‎ ‎‏المسجد... وهکذا، یجب الاتباع، ویصحّ التقسیم، ویحصل النفسیّ والغیریّ أیضاً،‏‎ ‎‏فافهم واغتنم.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 136

  • )) تهذیب الاُصول 1 : 144 و 242 .