الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

الجهة الخامسة : فی إشکالات الطهارات الثلاث

الجهة الخامسة : فی إشکالات الطهارات الثلاث

‏ ‏

‏قد أشکل الأمر فی الطهارات الثلاث من نواحٍ ثلاث :‏

الناحیة الاُولیٰ :‏ فی أنّها کیف تکون ذوات مثوبات، مع أنّها واجبات غیریّة،‏‎ ‎‏وقد تقرّر: أنّ الوجوب الغیریّ لایثاب علیه، ولایعاقب علیٰ ترکه‏‎[1]‎‏.‏

والجواب والحلّ :‏ أنّ من الممکن دعویٰ أنّها ذوات أوامر نفسیّة استحبابیّة،‏‎ ‎‏ولاتکون المثوبة إلاّ لأجلها ، لا لأجل الأوامر الغیریّة. هذا أوّلاً.‏

وثانیاً :‏ قد عرفت أنّ الثواب إذا کان بعنوان الجعالة، کما هو رأی المتشرّعة،‏‎ ‎‏فلایلزم کون ما یثاب علیه واجباً نفسیّاً؛ ومورد الأمر أصلاً، بل یمکن جعل الثواب‏‎ ‎‏علی التوصّلیات، وعلیٰ بعض الأفعال وإن لم یکن مأموراً به، کما فی مثل جعل‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 168
‏الجعالة فی عقد الجعالة، فإنّ من یردّ عبده الضالّ یستحقّ الأجر من غیر صدور‏‎ ‎‏الأمر من قبل الجاعل، کما لایخفیٰ.‏

وثالثاً :‏ أنّ الثواب ربّما یترتّب علیٰ کیفیّة النیّة، فإذا نوی العبد من الطهارات‏‎ ‎‏الثلاث قصد التوصّل إلی المحبوب النفسیّ، فقد أتیٰ بما یکشف عن حسن‏‎ ‎‏سریرته، وقیامه بالوظائف، وهذا کافٍ عند العقلاء لاستحقاق المثوبة أو التفضّل‏‎ ‎‏علیه. فلو أشکل الأمر فی التیمّم: بأنّه لیس من المستحبّات النفسیّة، فیکون هذا‏‎ ‎‏وجه انحلال الإشکال فیه؛ بناءً علیٰ کون مناط الثواب إبراز قصد الإطاعة ولو للأمر‏‎ ‎‏المتعلّق بذی المقدّمة.‏

‏نعم، یشکل حلّ الإعضال بناءً علیٰ کون الثواب من آثار امتثال الأمر‏‎ ‎‏النفسیّ، ومع ذلک یثاب علی الطهارات الثلاث إذا أتیٰ بها المکلّف امتثالاً للأمر‏‎ ‎‏الغیریّ؛ بناءً علیٰ ثبوته، وثبوت الملازمة وصحّتها، کما نسب إلی المشهور‏‎[2]‎‏.‏

‏وغایة ما یمکن تخیّله هنا : هو أنّ الأمر النفسیّ متعلّق بالطهارة بما هی هی،‏‎ ‎‏والأمر الغیریّ أیضاً متعلّق بما هی مقدّمة بذاتها، لا بعنوان آخر منطبق علیها،‏‎ ‎‏فیجتمع الأمر الندبیّ القربیّ، والوجوبیّ التوصّلی، وحیث لایعقل بقاؤهما علیٰ‏‎ ‎‏حالهما؛ لامتناع اجتماعهما مع وحدة المتعلّق، فلابدّ من تساقطهما، وثبوت الأمر‏‎ ‎‏الواحد القربیّ اللزومیّ، وهذا أمر یحصل من الفعل والانفعال بین الأمرین، کما فی‏‎ ‎‏موارد النذر والاستئجار وغیرهما، فیصحّ الوضوء، ویثاب علیه، وتکون الصحّة‏‎ ‎‏لأجل امتثال الأمر الغیریّ، فینحلّ الإشکال والإعضال.‏

‏وهذا هو الذی یظهر من العلاّمة النائینیّ فی بعض المواقف‏‎[3]‎‏.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 169
وفیه :‏ بعد الغضّ عمّا فیه من الإشکالات، یلزم کون ثواب الأمر الواجبیّ‏‎ ‎‏والمستحبّی واحداً، وهذا خلاف المفروض، بعد الغضّ عن أنّ المفروض ترتّب‏‎ ‎‏الثواب علی الأمر الغیریّ، لا النفسیّ القربیّ الوجوبیّ، فلاینحلّ به الإشکال فی‏‎ ‎‏مفروض المسألة.‏

‏وأمّا الإشکالات التی ترد علیه فهی کثیرة، وإجمالها: أنّ الأمر النفسیّ‏‎ ‎‏لایتعلّق بالذات الخالیة عن قید القربة؛ لما تقرّر من إمکان ذلک فی محلّه‏‎[4]‎‏؛ وأنّ‏‎ ‎‏الأمر الغیریّ یتعلّق بما هو الموقوف علیه، لا بما هو الذات، فلایتّحد المتّعلقان حتیٰ‏‎ ‎‏یسقط الأمران ولو تعلّق الأمر النفسیّ بعنوان «الوضوء» ولکن الأمر الغیریّ یتعلّق‏‎ ‎‏بعنوان «الوضوء القربیّ» لأنّه هو المقدّمة، لا الذات، فلایدعو إلاّ إلیٰ ماهو الشرط.‏

الناحیة الثانیة :‏ قد اشتهر جواز إتیان الطهارات الثلاث للأمر الغیریّ، مع أنّه‏‎ ‎‏قد تقرّر: أنّ الأمر الغیریّ توصّلی، لا تعبّدی، فکیف یمکن تصحیح تلک الطهارات‏‎ ‎‏المأتیّ بها لأجل الأوامر الغیریّة المتعلّقة بها‏‎[5]‎‏؟!‏

‏وأمّا ما أتیٰ به «الکفایة»: «من أنّ الأمر الغیریّ یتعلّق بما هی عبادة، ویدعو‏‎ ‎‏إلی الإتیان بالطهارات امتثالاً لأمرها»‏‎[6]‎‏ فهو مضافاً إلی الخلف ـ وهو أنّ المشهور‏‎ ‎‏قالوا بصحّة الوضوء المأتیّ به للأمر الغیریّ، مع الغفلة عن الأوامر النفسیّة ـ أنّ الأمر‏‎ ‎‏الغیریّ إذا تعلّق بالوضوء القربیّ، فإن انبعث المکلّف نحو الوضوء بالأمر النفسیّ،‏‎ ‎‏فهو خلف؛ لأنّ المفروض انبعاثه بالأمر الغیریّ.‏

‏وإن انبعث بالأمر الغیریّ نحو الوضوء، فلایعقل کون الأمر النفسیّ داعیاً إیّاه‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 170
‏2نحوه؛ ضرورة أنّ الحرکة التی تحصل فی عضلات العبد، لایمکن أن تکون‏‎ ‎‏مستندة إلی الأمر النفسیّ لأجل الأمر الغیریّ، بل هو یتحرّک بالأمر الغیریّ، ویکون‏‎ ‎‏الأمر النفسیّ مخطوراً بباله، لا باعثاً إیّاه نحو الوضوء والغسل والتیمّم.‏

‏والعجب أنّ الأصحاب المتأخّرین، غفلوا عن هذه النکتة، حتّی الوالد المحقّق‏‎ ‎‏ـ مدّظلّه وتوهّم صحّة ما فی «الکفایة»‏‎[7]‎‏!! مع أنّه واضح الفساد؛ بداهة أنّ المکلّف‏‎ ‎‏لو کان ینبعث عن الأمر، فلاینبعث إلاّ عن الأمر الواحد، أو المجموع عرضاً، لا‏‎ ‎‏طولاً، وفیما نحن فیه أرادوا إثبات انبعاثه عن الأمرین الطولیّین، وهذا واضح المنع.‏

‏وأمّا طولیّة الأمرین فواضحة؛ لأنّ الأمر الغیریّ یدعو إلی الوضوء المأمور به‏‎ ‎‏بالأمر الموجود بالحمل الشائع، والأمر النفسیّ یدعو إلی الوضوء المقیّد امتثاله‏‎ ‎‏بامتثال الأمر المتعلّق به، ولکنّه أمر بالعنوان المأخوذ فی المتعلّق، لا بالحمل الشائع،‏‎ ‎‏فلاینبغی الخلط بین المسألتین : الطولیّة، والعرضیّة.‏

والذی هو الجواب :‏ أنّ الأمر لایکون تعبّدیاً، ولا توصّلیاً، بل التعبّدیة‏‎ ‎‏والتوصلیّة من أوصاف المتعلّقات، کما تحرّر تفصیله هناک‏‎[8]‎‏. وأمّا مناط التعبّدیة‏‎ ‎‏والتوصلیّة، فهو یعلم من الشرع أحیاناً، ومن العرف نوعاً. وقد عرفت منّا: أنّ‏‎ ‎‏العابدین للأوثان والأصنام کانوا مشرکین فی العبادة، مع عدم وجود أمر فی البین،‏‎ ‎‏وقد نهی الشرع الأقدس عن عبادتهم للأوثان‏‎[9]‎‏.‏

‏فالأفعال التی تصلح للعبودیّة، أو تکون صالحة من قبل الشرع لأن یؤتیٰ بها‏‎ ‎‏عبادة، لیست متعلّقة للأمر العبادیّ، بل الأمر یدعو الناس إلی الإتیان بها للتقرّب بها‏‎ ‎‏منه تعالیٰ، وتکون الأوامر الشرعیّة کواشف عن تلک الصلاحیة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 171
‏وفیما نحن فیه استکشفنا صلاحیة الطهارات الثلاث لذلک من الإجماع‏‎ ‎‏والأدلّة الخاصّة مثلاً، فإذا انبعث العبد من الأمر الغیریّ نحوها، فلایکون هذا‏‎ ‎‏الانبعاث مضرّاً بعبادیّتها، إن لم یکن مؤکّداً لها، وکانبعاث تارک الصلاة من أمر الآمر‏‎ ‎‏بالمعروف نحوها، فإنّه لایضرّ بعبادیّتها، وإلاّ یلزم کونه أمراً بالمنکر، لا بالمعروف‏‎ ‎‏کما لایخفیٰ.‏

‏فلو کانت عبادیّة الطهارات الثلاث بالأوامر الغیریّة، یلزم الإشکال المزبور،‏‎ ‎‏وإلاّ فلا إشکال من رأس.‏

‏ثمّ إنّ هنا أجوبة اُخریٰ حلاًّ للإعضال السابق، لا خیر فی التعرّض لها، ولکن‏‎ ‎‏نشیر إلیها إجمالاً:‏

الأوّل :‏ ما عرفت من العلاّمة النائینیّ فی الناحیة الاُولیٰ من الفعل والانفعال‏‎ ‎‏المتخیّلین بین الأمر النفسیّ والغیریّ‏‎[10]‎‏، وقد عرفت ما فیه بما لا مزید علیه‏‎[11]‎‏، مع‏‎ ‎‏أنّه لا بأس بالالتزام بسقوط الأمرین: النفسیّ، والغیریّ، وإبقاء المطلوبیّة الذاتیّة‏‎ ‎‏الکافیة للعبادیّة.‏

والثانی :‏ أیضاً منه، وهو من الغرائب؛ ظنّاً أنّ المقدّمات الداخلیّة والخارجیّة،‏‎ ‎‏مورد الأوامر الضمنیّة النفسیّة‏‎[12]‎‏، وقد مرّ ما فیه بناءً ومبنی؛ وأنّ الأوامر الضمنیّة ممّا‏‎ ‎‏لا أساس لها حتّیٰ فی الداخلیّة، فضلاً عن الخارجیّة‏‎[13]‎‏.‏

والثالث :‏ أنّ الأمر الغیریّ إذا کان باعثاً نحو الشیء، ویکون المکلّف منبعثاً به‏‎ ‎‏نحو المقدّمة، یکون عبادیّاً؛ لأنّ المراد من العبادیّة لیست إلاّ الامتثال، فإذن یحصل‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 172
‏المطلوب؛ وهی صحّة الطهارات الثلاث عبادةً.‏

‏وهذا هو الذی ربّما یکون أقوی الأجوبة فی المسألة، بعد عدم وجود برهان‏‎ ‎‏علیٰ میزان التعبّدیة والتوصلیّة، حتّیٰ یقال: بقیام الإجماع علیٰ توصلیّة الأوامر‏‎ ‎‏الغیریّة، بل المکلّف إذا أتیٰ للأمر الغیریّ ـ بمعنی أنّه انبعث نحوها به ـ فقد أتیٰ بما‏‎ ‎‏هو العبادة والتقرّب به إلی الله تعالیٰ.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ عبادیّة الشیء کما تکون بکشف الشرع المقدّس صلاحیة‏‎ ‎‏الفعل للتعبّدیة وإن لم یکن أمر فی البین، یمکن أن تکون لأجل الانبعاث والامتثال،‏‎ ‎‏کما هو کذلک عند العرف والعقلاء.‏

وهنا شقّ ثالث :‏ وهو تطبیق عنوان حسن عقلیّ أو عقلائیّ علیه، والإتیان به،‏‎ ‎‏کما فیما نحن فیه إذا أتیٰ بها لأجل المطلوب الأعلیٰ والمحبوب الذاتیّ المتقوّم به،‏‎ ‎‏وإن لم یکن هناک أمر غیریّ من رأس.‏

والرابع :‏ ما أفاده العلاّمة الأراکی ‏‏رحمه الله‏‏: «وهو أنّ الإرادة الغیریّة تنبسط علیٰ‏‎ ‎‏ذوات هذه الأفعال، وعلیٰ قید الدعوة، فإذا انبسطت علی المجموع المرکّب من‏‎ ‎‏الأمر الذهنیّ والحرکات الخارجیّة یأخذ کلٌّ نصیبه، ویصیر واجباً ضمنیّاً. إلاّ أنّ‏‎ ‎‏الإرادة المنحلّة إلی الإرادتین، تکون علی الانحلال الطولیّ، لا العرضیّ؛ وذلک‏‎ ‎‏بطولیّة متعلّقهما، حیث إنّ نسبة قصد الدعوة إلی الأجزاء الخارجیّة، نسبة العرض‏‎ ‎‏إلی الموضوع، فیکون الانبعاث نحو الخارج من الأمر المتعلّق به، والانبعاث من‏‎ ‎‏الانبعاث عن هذا الأمر من الأمر الغیریّ، وماهو مصحّح عبادیّة الذوات الخارجیّة‏‎ ‎‏هو الأمر الأوّل، وماهو الموصوف بالوجوب الغیریّ هو المجموع المرکّب»‏‎[14]‎‏.‏

‏وأنت بعدما أحطت خبراًبما أسمعناک حول مقالة «الکفایة» من الامتناع العقلیّ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 173
‏فی الانبعاث الطولیّ، لا الإرادة الطولیّة‏‎[15]‎‏، تعرف أنّه لاینحلّ بذلک تلک المعضلة.‏

وإجماله :‏ أنّ المکلّف بحسب اللبّ والواقع، یکون متحرّکاً نحو الوضوء‏‎ ‎‏بالأمر الغیریّ، ویخطر بباله الأمر المتعلّق بذوات الأفعال، ولایکون تحرّکه نحو‏‎ ‎‏الأفعال لأجل الأمر الغیریّ، وإلاّ لو کان الأمر الغیریّ محرّکاً إیّاه، لکان یتحرّک من‏‎ ‎‏غیر الحاجة إلیٰ تصوّر الأمر الغیریّ.‏

فبالجملة :‏ لو کان التحرّک أحیاناً مستنداً إلی الأمر، لا إلی المبادئ النفسانیّة،‏‎ ‎‏فما هو المحرّک هو الأمر الغیریّ، ولایعقل التحریک إلی التحرّک من التحریک الآخر؛‏‎ ‎‏فإنّ التحرّک الذی یحصل له فی الخارج، لایکون إلاّ واحداً، وهو معلول الأمر‏‎ ‎‏الغیریّ، لا النفسیّ الندبیّ.‏

‏نعم، لو أمکن کون المکلّف متحرّکاً بتحرکین، کان لما قیل وجه، ولکنّه‏‎ ‎‏ممتنع بالضرورة.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 174

  • )) تقدّم فی الصفحة 158 ـ 161 .
  • )) معالم الدین: 57، مطارح الأنظار: 83 / السطر 11.
  • )) أجود التقریرات 1 : 177 ـ 178 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 229 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 126 ـ 133 .
  • )) مطارح الأنظار: 70 ـ 71، کفایة الاُصول : 139، فوائد الاُصول تقریرات المحقّق النائینی الکاظمی 1 : 226.
  • )) کفایة الاُصول : 140 .
  • )) مناهج الوصول 1 : 383 ـ 385، تهذیب الاُصول 1 : 254 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 118 ـ 133 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 112 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 169 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 170 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 175، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 228.
  • )) تقدّم فی الصفحة 26 ـ 27 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 381.
  • )) تقدّم فی الصفحة 170 ـ 171 .