الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

بحث وتحقیق

بحث وتحقیق

‏ ‏

‏یستظهر من تقریرات جدّی العلاّمة ‏‏قدس سره‏‏: أنّ الشیخ ‏‏رحمه الله‏‏ یرید من التقیید المزبور‏‎ ‎‏أمراً آخر: وهو أنّ امتثال الأمر الغیریّ، لایحصل إلاّ فیما إذا قصد التوصّل به إلی‏‎ ‎‏الواجب النفسیّ‏‎[1]‎‏، فما هو معروض الوجوب لیس المقدّمة المطلقة، وإن کان بها‏‎ ‎‏یحصل الغرض؛ وهو التمکّن من الواجب، ولکنّها لاتوصف بالوجوب الغیریّ إلاّ إذا‏‎ ‎‏قصد بها التوصّل إلی الواجب؛ لأنّ الموصوف بالوجوب هو المعنی الذی یصدر عن‏‎ ‎‏اختیار.‏

‏وربّما یتوجّه إلیه : أنّ امتثال الأمر لایتقوّم إلاّ بقصد الأمر المزبور، فامتثال‏‎ ‎‏الأمر النفسیّ، لایکون إلاّ إذا کان الانبعاث من ذلک الأمر، وامتثال الأمر الغیریّ،‏‎ ‎‏لایکون إلاّ إذا کان الانبعاث من الأمر الغیریّ.‏

‏وهذا المعنیٰ لایمکن إلاّ فیمن کان متوجّهاً إلی الأمر النفسیّ؛ لأنّ تصوّر‏‎ ‎‏الأمر الغیریّ، لایعقل إلاّ مع تصوّر الأمر النفسیّ، فیحصل فی نفسه قصد امتثال الأمر‏‎ ‎‏الغیریّ؛ لأجل التوصّل به إلی النفسیّ، ولکنّ ذلک لایمنع من اتصاف الفعل المقدّمی‏‎ ‎‏بصفة الوجوب؛ إذا أتیٰ به لا لأجل التوصّل‏‎[2]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّه بعد التوجّه إلیٰ أنّ معنیٰ وجوب الشیء: هو أنّ الشرع بعث‏‎ ‎‏المکلّف نحو إیجاده، وخاطبه بذلک إلزاماً ، فإذا أتیٰ به عن اختیار، یکون هو‏‎ ‎‏الواجب ولو کان توصّلیّاً.‏

‏وأمّا إذا اتفق صدوره منه، فهو وإن کان یحصل به الغرض؛ وهو الغسل مثلاً،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 189
‏ولکنّه لایوصف بالوجوب.‏

‏وحیث إنّ الأمر الغیریّ التوصّلی، متقوّم فی اللحاظ بلحاظ الأمر النفسیّ،‏‎ ‎‏فقهراً یحصل قصد التوصّل به إلی الواجب، فما هو معروض الوجوب هو المقدّمة‏‎ ‎‏بقصد التوصّل، وماهو یورث تمکّنه من الواجب أعمّ من ذلک.‏

‏فتحصّل من هذا التقریب البدیع: أنّ ما هو الموصوف بالوجوب، ومعروض‏‎ ‎‏هذه الصفة، غیر ما هو معروض المطلوب وموصوف هذه الصفة، فإنّ للمولیٰ بعد‏‎ ‎‏الأمر بالصلاة ـ بناءً علیٰ وجود الملازمة ـ شیئین :‏

أحدهما :‏ ماهو مطلوبه ومحبوبه.‏

وثانیهما :‏ ماهو مأموره ومورد تشریعه.‏

أمّا الأوّل :‏ فهی مطلق المقدّمة؛ لأنّه بها یتمکّن من الواجب النفسیّ، وهذه‏‎ ‎‏الملازمة ممّا لاتکاد تنکر عند منکری الملازمة فی الفرض الثانی.‏

وأمّا الثانی :‏ فهی المقدّمة بقصد التوصّل؛ أی المقدّمة التی تصدر عن اختیار،‏‎ ‎‏لأنّ معنیٰ إیجابه، هو بعث العبد بصرف قدرته فی ناحیة الوجود والإیجاد، فیکون‏‎ ‎‏المطلوب التشریعیّ هو المعنی المصدریّ، وإن کان المطلوب التکوینیّ هو الوجود‏‎ ‎‏والمعنی الاسم المصدریّ.‏

‏فإذا اعتبر صدوره عن اختیار فی اتصافه بالوجوب؛ حتّیٰ فی التوصّلیّات‏‎ ‎‏النفسیّة، فإذا کان الواجب غیریّاً، فهو کالمتضایفین بالنسبة إلی الواجب النفسیّ،‏‎ ‎‏فلاینفکّ تصوّره عن تصوّر ذاک، فیکون معروض الوجوب هی المقدّمة بشرط قصد‏‎ ‎‏التوصّل بها إلی الواجب النفسیّ، فافهم واغتنم.‏

‏وممّا ذکرناه وحرّرناه، یظهر مواقف النظر فی کلمات القوم والأعلام فی‏‎ ‎‏المقام، من غیر الحاجة إلی التشبّث ببعض المقدّمات التی قرّرها بعض المدقّقین من‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 190
‏المحشّین‏‎[3]‎‏، مع ما فیها من الإشکال أو الإشکالات.‏

‏ولایرد علیٰ مقالة الشیخ ‏‏رحمه الله‏‏ إلاّ ما نذکره فی الآتی: من أنّ المحبوب هی‏‎ ‎‏الموصلة، لا المطلقة، والمشروع أیضاً تابع المحبوب‏‎[4]‎‏، فانتظر.‏

‏وسیظهر فی أصل المسألة: أنّ إیجاب الشیء تأسیساً وشرعاً، لایعقل إلاّ فیما‏‎ ‎‏إذا کان المطلوب هو وجوده الصادر عن اختیار، وإلاّ فلو کان مطلوب المولیٰ أصل‏‎ ‎‏وجوده بأیّ نحو اتفق، فلا معنیٰ لإیجابه التشریعیّ، بل الأمر هنا یرجع إلی الإرشاد‏‎ ‎‏إلی المطلوبیّة المطلقة، ولذلک لایعقل تشریع المقدّمة وإیجابها، فافهم واغتنم.‏

والذی هو التحقیق :‏ أنّ الامتثال متقوّم بالالتفات والانبعاث من الأمر، وأمّا‏‎ ‎‏اتصاف الفعل بالوجوب، فلایتقوّم بذلک، فلو صدّقنا أنّ الوجوب یقتضی اختیاریّة‏‎ ‎‏الفعل، والغیریّةَ تقتضی قصد التوصّل قهراً، ولکن لایستلزم ذلک الالتفات والتوجّه،‏‎ ‎‏فلو توضّأ أحد للأمر النفسیّ الاستحبابیّ غافلاً عن الأمر الغیریّ، أو معتقداً عدمه،‏‎ ‎‏ثمّ تبیّن بعد ذلک وجود ذلک الأمر الغیریّ، فإنّه یستکشف اتصاف العمل بالوجوب‏‎ ‎‏بالضرورة، فلاینبغی الخلط بین ماهو شرط اتصاف الفعل بـ «الوجوب» وبین ماهو‏‎ ‎‏شرط اتصاف المکلّف بـ «الممتثل والمطیع».‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 191

  • )) مطارح الأنظار : 72 / السطر 21 .
  • )) کفایة الاُصول : 143 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 133 .
  • )) یأتی فی الصفحة 205 ـ 206 .