المسلک الثانی : مانسب إلی المشهور
وهو وجوب ذات المقدّمة المطلقة ، واختاره «الکفایة» وبعض آخر؛ وذلک لأجل أنّ مناط الوجوب هو التوقّف، وهذا سبب لعروض الوجوب علی المقدّمة، ویکون واسطة فی الثبوت، کوساطة الغایات لإیجاب الواجبات النفسیّة.
أقول أوّلاً : إنّ الواجب لو کان مطلق المقدّمة بملاک التوقّف، فلایکون ذاتها؛ لأنّ الإرادة التشریعیّة الشأنیّة، لیست فی الأدلّة الشرعیّة إلاّ ما شذّ، فلا معنیٰ للمقایسة بینها وبین الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة بملاک المصالح والغایات المترتّبة علیه. فإذا کان دلیل هذا الوجوب هو العقل ودرکه، فلابدّ وأن یلاحظه، ولاریب أنّ العقل لایدرک إلاّ وجوب عنوان «الموقوف علیه» لا ذاته؛ وهو الوضوء، والغسل، والستر مثلاً.
مع أنّ المکلِّف والمکلَّف ربّما یختلفان فیما هو الموقوف علیه، فیکون شیء عند المولیٰ موقوفاً، ولایکون موقوفاً علیه عند المکلَّف وبالعکس، وعند ذلک لایطّلع العبد علیٰ ما یراه المولیٰ موقوفاً علیه، فلابدّ وأن یکون الواجب أمراً معلوماً عند الکلّ؛ وهو «الموقوف علیه» وأمّا مصداقه فهو تابع لدرک المکلّفین فی المقدّمات العقلیّة والعرفیّة والعادیّة.
نعم، یمکن الالتزام بذلک فی خصوص المقدّمات الشرعیّة، ولکنّه لا معنی للتفکیک بینها؛ فیقال: بأنّ معروض الوجوب فی تلک المقدّمات عنوان «الموقوف علیه» وفی هذه المقدّمات ذواتها، بل العقل یدرک الکلّ علیٰ نسق واحد.
ولعمری، إنّ القائل بالمقدّمة المطلقة لو کان یرید ذلک، لکان کلامه أقرب إلیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 193
اُفق الاعتبار والدقّة، وأبعد عن الإشکالات والموهنات؛ فإنّه بناءً علی القول بوجوب ذات المقدّمة، یلزم الوجوبات الکثیرة غیر المتناهیة أحیاناً؛ لأنّ جمیع الحرکات والمعدّات السابقة علیٰ صلاة الظهر من یوم الخمیس، مقدّمة إعدادیّة لها، فیلزم کون الکلّ مورد الإرادات التشریعیّة، مع أنّ ضرورة العقول قاضیة بعدم انقداح تلک الکثرات فی النفوس، وإن کان یمکن فی ناحیة المولی الحقیقیّ عزّ اسمه.
وأمّا بناءً علیٰ ما مرّ فیمکن أن یقال: بأنّ الإرادة الثانیة تعلّقت بعنوان «الموقوف علیه» وتنحلّ حسب مصادیقه، ولایلزم تکثّرها التکوینیّ حتّیٰ یستبعد ذلک.
وأیضاً : إذا کان الواجب هو عنوان «الموقوف علیه» لا ذات المقدّمة، لایلزم الوهن الآخر علیه: وهو أنّ فی الدخول فی الأرض المغصوبة، مع عدم قصد إنقاذ الغریق، یلزم کون الدخول واجباً؛ لأنّه الموقوف علیه واقعاً، وهذا الوجوب لایجتمع مع الحرام، فلابدّ من علاج المزاحمة:
إمّا بدعویٰ : أنّ ذلک لیس محرّماً، وهو واضح الفساد.
أو بدعویٰ : أنّه لیس واجباً، فیلزم تخصیص حکم العقل بالملازمة.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ الملازمة المدّعاة هی العرفیّة العقلائیّة، وهی قابلة للتخصیص.
ولکن هذه الشبهة علی القول : بأنّ الواجب هو عنوان «الموقوف علیه» تندفع بالالتزام بأنّ الدخول محرّم، والواجبَ عنوان «الموقوف علیه» فلایلزم اجتماع الحرام والواجب، فإن کان بقصد التوصّل فهو له عذر، وإلاّ فلایعذر فی ارتکابه المحرّم.
وأیضاً: فیما إذا کان للشیء مقدّمات عدیدة عَرْضیّة محرّمة، ومباحة، یلزم أن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 194
یترشّح الإرادات المقدّمیة إلیٰ کلّ واحدة منها، وهذا غیر لازم بحکم العقل القائل بالملازمة، بل لابدّ من اختصاص الإرادة بالمحلّلة، وفیالمحلّلات بما هوالجامع بینها.
وأمّا إخراج المقدّمة المحرّمة عن حریم النزاع، فسیأتی توضیح فساده إن شاء الله تعالیٰ.
والعجب من «الکفایة» حیث أرجع الواجبات التخییریّة إلی الواجب الواحد؛ معلّلاً: «بأنّ الواحد لایصدر إلاّ عن الواحد، فالحکم فی الواجبات المخیّرة لما هو الجامع بینها»!! ولم یتنبّه هنا إلیٰ هذه المسألة. مع أنّ ما ذکره هناک غیر تامّ، وفساد تعلیله ـ لأهله ـ واضح، وعذره أنّه لم یکن وارداً فی هذا المیدان، فافهم وتأمّل جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 195