الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

مختارنا فی متعلّق الوجوب ؛ وأنّه المقدّمة الموصلة بالفعل

مختارنا فی متعلّق الوجوب ؛ وأنّه المقدّمة الموصلة بالفعل

‏ ‏

والذی یظهر لی :‏ أنّ ماهو معروض الوجوب لیس الموصلة، حتّیٰ یقال: بأنّ‏‎ ‎‏الواجب من قبل الشرع، له الإطلاق من حیث الترتّب الفعلیّ وعدمه، وأنّ الإرادة‏‎ ‎‏التشریعیّة الثانیة تعلّقت بالعنوان المزبور، کما تعلّقت الإرادة التشریعیّة الاُولیٰ‏‎ ‎‏بعنوان المطلوب بالأصالة، من غیر مدخلیّة إرادة الآمر فی التعلّق، وإلاّ یلزم أن‏‎ ‎‏لایکون واجباً بدون إرادته، وهو خلف.‏

‏بل ماهو معروضه هی الموصلة بالفعل، فلایکون خطاب تشریعیّ بالنسبة إلی‏‎ ‎‏الموصلة بالنسبة إلی الکافر؛ بناءً علیٰ تعلّق الخطاب النفسیّ به، وبالنسبة إلی‏‎ ‎‏العاصی ومن لاینبعث نحو المأمور به، بخلاف الخطاب النفسیّ، فإنّه ـ حسبما تقرّر‏‎ ‎‏فی محلّه ـ متعلّق بالکافر والعاصی‏‎[1]‎‏؛ لأنّه عند عدمه لایستلزم صحّة العقوبة إلاّ‏‎ ‎‏علیٰ بعض الوجوه السابقة.‏

‏فعلیٰ هذا، فرق بین الخطابین: الغیریّ، والنفسیّ، فإنّ الأوّل یختصّ بالمطیع‏‎ ‎‏ومن یرید الواجب النفسیّ؛ وذلک لأنّه کما لا معنیٰ لتشریع مطلق المقدّمة، لأنّ ماهو‏‎ ‎‏مورد طلبه وحبّه هی الموصلة، کذلک لامعنی لتشریع مطلق الموصلة، بل مطلوبه‏‎ ‎‏هی الموصلة بالحمل الشائع، وإلاّ تلزم اللغویّة؛ لعدم وجه لخطابه بالنسبة إلیٰ ما‏‎ ‎‏لایکون موصلاً بالفعل، ممّا لایترتّب علیه الأثر الذی یترتّب علی الخطاب النفسیّ.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 206
إن قلت :‏ هذه مقالة «المعالم» و «الفصول» فتتوجّه إلیهما إشکالاتهما، ولو‏‎ ‎‏اندفع ما یتوجّه إلی الثانی، فکیف یمکن حلّ معضلة الأوّل؟!‏

قلت :‏ أمّا حلّ ما یتوجّه إلی الثانی، فسیأتی من ذی قبل‏‎[2]‎‏. وأمّا حلّ‏‎ ‎‏المعضلة الاُولیٰ فقد مرّ تفصیله‏‎[3]‎‏، وذکرنا فی البحث السابق، إمکان کون إرادة‏‎ ‎‏العامل، شرطاً لوجوب المقدّمة، واستظهرنا ذلک من الکتاب العزیز‏‎[4]‎‏.‏

‏هذا، ولکنّا لسنا نرید أن نقول هنا : بأنّها قید الهیئة، ولا نقول: بأنّ إرادة‏‎ ‎‏المکلّف والعامل قید المادّة، حتّیٰ یکون معروض الوجوب هی الموصلة بالقوّة‏‎ ‎‏أیضاً، بل إرادة العامل والمکلّف معرّفة لحدود إرادة الآمر والشرع، ویستکشف‏‎ ‎‏اتصاف الموصلة بالوجوب عند إرادة العامل؛ وترتّب العمل والفعل علیه، لعدم ملاک‏‎ ‎‏للأعمّ، ولاختصاص مناط الترشّح بهذا الصورة.‏

إن قلت :‏ هذه هی القضیّة الحینیّة التی فررتم منها فی هذه المسائل؛ لأنّ معنیٰ‏‎ ‎‏ذلک هو أنّ ترشّح الإرادة الثانیة، یکون حین إرادة العامل المکلّف به.‏

قلت :‏ قد تذکّرنا هناک: أنّ انعقاد القضیّة الحینیّة بالنسبة إلیٰ قید الإیصال، غیر‏‎ ‎‏جائز؛ لأنّ للإیصال مدخلیةً فی الحکم وفی القضیّة، فیکون هو الموضوع حقیقة، لا‏‎ ‎‏ظرفاً وحیناً‏‎[5]‎‏.‏

وهنا نقول :‏ بأنّ ماهو المناط هو الإیصال بالفعل، لا عنوان «الموصلة» سواء‏‎ ‎‏تحقّق الواجب النفسیّ، أم لم یتحقّق، فإذا أخذنا قید إرادة المکلّف، فلایکون ذلک إلاّ‏‎ ‎‏لمعرّفیة أنّ مناط الوجوب، أضیق من السابق.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 207
‏وهذا نظیر ما إذا قال المولیٰ: «أکرم العالم العادل» وکان نظره من أخذ العدل،‏‎ ‎‏إلیٰ بیان أنّ مناط وجوب إکرام العالم قاصر؛ ولایشمل کلّ العلماء، لبعض جهات‏‎ ‎‏اُخر، ولا مدخلیّة للعدل فی الحکم، بل اُخذ العدل للمعرّفیة، فلاتکون القیود کلّها‏‎ ‎‏للمدخلیّة الملاکیّة، فلاتخلط.‏

فتحصّل إلی الآن :‏ أنّ ما أفاده القوم فی معروض الوجوب، کلّه خالٍ من‏‎ ‎‏التحصیل، وما هو المعروض والواجب علیٰ تقدیر الملازمة ـ عقلیّة کانت، أو‏‎ ‎‏عقلائیّة ـ هی الموصلة بالفعل، وإن شئت فسمّها «المقدّمة المنتهیة إلی الواجب»‏‎ ‎‏وهذا البیان لمعرّفیة ضیق المناط والملاک عند العقل، ولسنا بصدد تعریف معروض‏‎ ‎‏التشریع الإلهیّ بعنوانه الذاتیّ.‏

فبالجملة :‏ من الممکن دعویٰ ظهور قوله تعالیٰ: ‏‏«‏إذَا قُمْتُمْ إلیٰ الصَّلٰوةِ‎ ‎فَاغْسِلُوا...‏»‏‎[6]‎‏ فی أنّ مصبّ الهیئة الغیریّة حین القیام وإرادة الصلاة، هو الوضوء‏‎ ‎‏والغسل، لا مطلقاً. وأمّا استظهار أنّ مصبّ الوجوب الغیریّ، ذات المقدّمة، لا‏‎ ‎‏عنوان «الموصلة والمنتهیة» فهو فی غیر محلّه؛ لأنّه فی مورد خاصّ، والعقل یأبیٰ‏‎ ‎‏عنه، کما عرفت‏‎[7]‎‏.‏

إن قلت :‏ لو کانت الإرادة الثانیة، مختصّة بصورة إرادة المکلّف إتیان الفعل،‏‎ ‎‏فهی تکون لاغیة.‏

قلت :‏ هذا هو إشکال یأتی فی أصل المسألة والملازمة، ولک أن تقول:‏‎ ‎‏بکفایة الفرار من اللغویّة أنّ المقدّمة إذا کانت واجبة بحسب الشرع، فصورة کونها‏‎ ‎‏محرّمة ذاتاً، تستلزم التهافت والتضادّ، فإذا قلنا بعدم حرمتها؛ لأجل عدم إمکان‏‎ ‎‏اجتماعها مع وجوبها، فلایلزم التجرّی فی بعض الصور، وهذا کافٍ. وتفصیل‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 208
‏المسألة یأتی من ذی قبل إن شاء الله تعالیٰ‏‎[8]‎‏.‏

إن قلت :‏ من یقول بالموصلة، لایرد إلاّ ماهو الموصل بالحمل الشائع؛ أی‏‎ ‎‏یختصّ معروض الوجوب بالموصلة بالفعل.‏

قلت :‏ هذا خلاف ما بنوا علیه؛ من أنّ وجوب المقدّمة إطلاقاً واشتراطاً، تابع‏‎ ‎‏لذی المقدّمة‏‎[9]‎‏، فإنّه علیٰ رأینا لایکون کذلک، فإنّ وجوب ذی المقدّمة، أعمّ من‏‎ ‎‏صورة إرادة العامل إتیان العمل وعدمه، بخلاف وجوب المقدّمة، فإنّه لایترشّح إلاّ‏‎ ‎‏حین إرادة الإتیان، من غیر کون الإرادة المزبورة قید الهیئة، أو المادّة.‏

فبالجملة :‏ القائل بالمقدّمة المطلقة یقول: بأنّ معروض الوجوب هی‏‎ ‎‏الموقوف علیها، سواء کان توقّفاً تامّاً، أو ناقصاً؛ لأنّ ملاکه هو التمکّن، وهذا حاصل‏‎ ‎‏فی الصورتین، والقائل بالموصلة یقول: بأنّ معروضه هی الموصلة؛ أی أنّ الخطاب‏‎ ‎‏ینادی: «بأنّ الصلاة واجبة، والموصلَ إلیها واجب غیریّ، من غیر النظر إلیٰ حال‏‎ ‎‏المکلّفین من إتیان المکلّف به وعدمه» .‏

‏وأمّا نحن فنقول : باختصاص الملازمة بصورة إرادة إتیان ذی المقدّمة، من‏‎ ‎‏غیر کون هذه الإرادة دخیلة، بل هی معرّفة لضیق مصبّ الإرادة والملاک والمناط،‏‎ ‎‏علی الوجه الماضی تفصیله، فلاتخلط.‏

لایقال:‏ بناءً علیٰ هذا لو دخل الأرض المغصوبة، ثمّ أراد إنقاذ الغریق،‏‎ ‎‏یکون الدخول محرّماً، ولایکون معذوراً؛ لأنّ إرادة ذی المقدّمة حصلت بعد‏‎ ‎‏الإتیان بالمقدّمة.‏

لأنّا نقول :‏ بعدما عرفت أنّ الإرادة المزبورة، لیست إلاّ معرّفة وکاشفة،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 209
‏فلایفرّق بین کونها موجودة قبل الدخول، أو بعده، فإنّه إذا تبیّن أنّه یرید الإنقاذ‏‎ ‎‏یعلم: أنّ الدخول کان معروض الوجوب الغیریّ، أو یکون عنوان «الموصلة بالفعل»‏‎ ‎‏معروضه، کما هو الحقّ، لا الدخول، فیکون علیٰ هذا معذوراً فی ارتکاب المحرّم،‏‎ ‎‏لا أنّ الدخول یوصف بـ «المحرّم» لما تقرّر فی محلّه: من عدم سقوط الأحکام‏‎ ‎‏الشرعیّة عند التزاحم، فلاتکن من الغافلین‏‎[10]‎‏.‏

‏وسیأتی زیادة توضیح عند ذکر المحاذیر العقلیّة للمقدّمة الموصلة‏‎[11]‎‏.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 210

  • )) یأتی فی الصفحة 439 ـ 443 .
  • )) یأتی فی الصفحة 216 وما بعدها .
  • )) تقدّم فی الصفحة 182 ـ 183 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 183 ـ 188 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 201 .
  • )) المائدة (5) : 6 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 192 ـ 195 .
  • )) یأتی فی الصفحة 213 ـ 215 .
  • )) کفایة الاُصول : 125 و142، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1: 285، نهایة الاُصول : 191 .
  • )) لاحظ الصفحة 461 .
  • )) یأتی فی الصفحة 215 ـ 228 .