مختارنا فی متعلّق الوجوب ؛ وأنّه المقدّمة الموصلة بالفعل
والذی یظهر لی : أنّ ماهو معروض الوجوب لیس الموصلة، حتّیٰ یقال: بأنّ الواجب من قبل الشرع، له الإطلاق من حیث الترتّب الفعلیّ وعدمه، وأنّ الإرادة التشریعیّة الثانیة تعلّقت بالعنوان المزبور، کما تعلّقت الإرادة التشریعیّة الاُولیٰ بعنوان المطلوب بالأصالة، من غیر مدخلیّة إرادة الآمر فی التعلّق، وإلاّ یلزم أن لایکون واجباً بدون إرادته، وهو خلف.
بل ماهو معروضه هی الموصلة بالفعل، فلایکون خطاب تشریعیّ بالنسبة إلی الموصلة بالنسبة إلی الکافر؛ بناءً علیٰ تعلّق الخطاب النفسیّ به، وبالنسبة إلی العاصی ومن لاینبعث نحو المأمور به، بخلاف الخطاب النفسیّ، فإنّه ـ حسبما تقرّر فی محلّه ـ متعلّق بالکافر والعاصی؛ لأنّه عند عدمه لایستلزم صحّة العقوبة إلاّ علیٰ بعض الوجوه السابقة.
فعلیٰ هذا، فرق بین الخطابین: الغیریّ، والنفسیّ، فإنّ الأوّل یختصّ بالمطیع ومن یرید الواجب النفسیّ؛ وذلک لأنّه کما لا معنیٰ لتشریع مطلق المقدّمة، لأنّ ماهو مورد طلبه وحبّه هی الموصلة، کذلک لامعنی لتشریع مطلق الموصلة، بل مطلوبه هی الموصلة بالحمل الشائع، وإلاّ تلزم اللغویّة؛ لعدم وجه لخطابه بالنسبة إلیٰ ما لایکون موصلاً بالفعل، ممّا لایترتّب علیه الأثر الذی یترتّب علی الخطاب النفسیّ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 206
إن قلت : هذه مقالة «المعالم» و «الفصول» فتتوجّه إلیهما إشکالاتهما، ولو اندفع ما یتوجّه إلی الثانی، فکیف یمکن حلّ معضلة الأوّل؟!
قلت : أمّا حلّ ما یتوجّه إلی الثانی، فسیأتی من ذی قبل. وأمّا حلّ المعضلة الاُولیٰ فقد مرّ تفصیله، وذکرنا فی البحث السابق، إمکان کون إرادة العامل، شرطاً لوجوب المقدّمة، واستظهرنا ذلک من الکتاب العزیز.
هذا، ولکنّا لسنا نرید أن نقول هنا : بأنّها قید الهیئة، ولا نقول: بأنّ إرادة المکلّف والعامل قید المادّة، حتّیٰ یکون معروض الوجوب هی الموصلة بالقوّة أیضاً، بل إرادة العامل والمکلّف معرّفة لحدود إرادة الآمر والشرع، ویستکشف اتصاف الموصلة بالوجوب عند إرادة العامل؛ وترتّب العمل والفعل علیه، لعدم ملاک للأعمّ، ولاختصاص مناط الترشّح بهذا الصورة.
إن قلت : هذه هی القضیّة الحینیّة التی فررتم منها فی هذه المسائل؛ لأنّ معنیٰ ذلک هو أنّ ترشّح الإرادة الثانیة، یکون حین إرادة العامل المکلّف به.
قلت : قد تذکّرنا هناک: أنّ انعقاد القضیّة الحینیّة بالنسبة إلیٰ قید الإیصال، غیر جائز؛ لأنّ للإیصال مدخلیةً فی الحکم وفی القضیّة، فیکون هو الموضوع حقیقة، لا ظرفاً وحیناً.
وهنا نقول : بأنّ ماهو المناط هو الإیصال بالفعل، لا عنوان «الموصلة» سواء تحقّق الواجب النفسیّ، أم لم یتحقّق، فإذا أخذنا قید إرادة المکلّف، فلایکون ذلک إلاّ لمعرّفیة أنّ مناط الوجوب، أضیق من السابق.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 207
وهذا نظیر ما إذا قال المولیٰ: «أکرم العالم العادل» وکان نظره من أخذ العدل، إلیٰ بیان أنّ مناط وجوب إکرام العالم قاصر؛ ولایشمل کلّ العلماء، لبعض جهات اُخر، ولا مدخلیّة للعدل فی الحکم، بل اُخذ العدل للمعرّفیة، فلاتکون القیود کلّها للمدخلیّة الملاکیّة، فلاتخلط.
فتحصّل إلی الآن : أنّ ما أفاده القوم فی معروض الوجوب، کلّه خالٍ من التحصیل، وما هو المعروض والواجب علیٰ تقدیر الملازمة ـ عقلیّة کانت، أو عقلائیّة ـ هی الموصلة بالفعل، وإن شئت فسمّها «المقدّمة المنتهیة إلی الواجب» وهذا البیان لمعرّفیة ضیق المناط والملاک عند العقل، ولسنا بصدد تعریف معروض التشریع الإلهیّ بعنوانه الذاتیّ.
فبالجملة : من الممکن دعویٰ ظهور قوله تعالیٰ: «إذَا قُمْتُمْ إلیٰ الصَّلٰوةِ فَاغْسِلُوا...» فی أنّ مصبّ الهیئة الغیریّة حین القیام وإرادة الصلاة، هو الوضوء والغسل، لا مطلقاً. وأمّا استظهار أنّ مصبّ الوجوب الغیریّ، ذات المقدّمة، لا عنوان «الموصلة والمنتهیة» فهو فی غیر محلّه؛ لأنّه فی مورد خاصّ، والعقل یأبیٰ عنه، کما عرفت.
إن قلت : لو کانت الإرادة الثانیة، مختصّة بصورة إرادة المکلّف إتیان الفعل، فهی تکون لاغیة.
قلت : هذا هو إشکال یأتی فی أصل المسألة والملازمة، ولک أن تقول: بکفایة الفرار من اللغویّة أنّ المقدّمة إذا کانت واجبة بحسب الشرع، فصورة کونها محرّمة ذاتاً، تستلزم التهافت والتضادّ، فإذا قلنا بعدم حرمتها؛ لأجل عدم إمکان اجتماعها مع وجوبها، فلایلزم التجرّی فی بعض الصور، وهذا کافٍ. وتفصیل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 208
المسألة یأتی من ذی قبل إن شاء الله تعالیٰ.
إن قلت : من یقول بالموصلة، لایرد إلاّ ماهو الموصل بالحمل الشائع؛ أی یختصّ معروض الوجوب بالموصلة بالفعل.
قلت : هذا خلاف ما بنوا علیه؛ من أنّ وجوب المقدّمة إطلاقاً واشتراطاً، تابع لذی المقدّمة، فإنّه علیٰ رأینا لایکون کذلک، فإنّ وجوب ذی المقدّمة، أعمّ من صورة إرادة العامل إتیان العمل وعدمه، بخلاف وجوب المقدّمة، فإنّه لایترشّح إلاّ حین إرادة الإتیان، من غیر کون الإرادة المزبورة قید الهیئة، أو المادّة.
فبالجملة : القائل بالمقدّمة المطلقة یقول: بأنّ معروض الوجوب هی الموقوف علیها، سواء کان توقّفاً تامّاً، أو ناقصاً؛ لأنّ ملاکه هو التمکّن، وهذا حاصل فی الصورتین، والقائل بالموصلة یقول: بأنّ معروضه هی الموصلة؛ أی أنّ الخطاب ینادی: «بأنّ الصلاة واجبة، والموصلَ إلیها واجب غیریّ، من غیر النظر إلیٰ حال المکلّفین من إتیان المکلّف به وعدمه» .
وأمّا نحن فنقول : باختصاص الملازمة بصورة إرادة إتیان ذی المقدّمة، من غیر کون هذه الإرادة دخیلة، بل هی معرّفة لضیق مصبّ الإرادة والملاک والمناط، علی الوجه الماضی تفصیله، فلاتخلط.
لایقال: بناءً علیٰ هذا لو دخل الأرض المغصوبة، ثمّ أراد إنقاذ الغریق، یکون الدخول محرّماً، ولایکون معذوراً؛ لأنّ إرادة ذی المقدّمة حصلت بعد الإتیان بالمقدّمة.
لأنّا نقول : بعدما عرفت أنّ الإرادة المزبورة، لیست إلاّ معرّفة وکاشفة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 209
فلایفرّق بین کونها موجودة قبل الدخول، أو بعده، فإنّه إذا تبیّن أنّه یرید الإنقاذ یعلم: أنّ الدخول کان معروض الوجوب الغیریّ، أو یکون عنوان «الموصلة بالفعل» معروضه، کما هو الحقّ، لا الدخول، فیکون علیٰ هذا معذوراً فی ارتکاب المحرّم، لا أنّ الدخول یوصف بـ «المحرّم» لما تقرّر فی محلّه: من عدم سقوط الأحکام الشرعیّة عند التزاحم، فلاتکن من الغافلین.
وسیأتی زیادة توضیح عند ذکر المحاذیر العقلیّة للمقدّمة الموصلة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 210