الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

المبحث الأوّل : حول الأدلّة المستدلّ بها علیٰ وجوب الموصلة

المبحث الأوّل : حول الأدلّة المستدلّ بها علیٰ وجوب الموصلة

‏ ‏

‏غیر ما مرّ من الدلیل الوحید الفرید‏‎[1]‎‏:‏

منها :‏ ما نسب إلیٰ «الفصول»: «من أنّ للآمر أن یصرّح بعدم إرادة غیر‏‎ ‎‏الموصلة، وهذا کاشف عن عدم وجود الملاک فی المطلقة، وله أن یصرّح بإرادته‏‎ ‎‏الموصلة لاغیر، فیکون فیها الملاک والمناط»‏‎[2]‎‏.‏

‏وقد أورد علیه صاحب «الکفایة» : «أنّ فیما أفاده جزافاً صرفاً؛ لعدم جواز‏‎ ‎‏تصریحه بذلک بعد کون الملاک هو التمکّن، وهو حاصل فی الموصلة وغیرها»‏‎[3]‎‏.‏

والحقّ :‏ أنّ ما أورده علیه غیر لائق للصدور منه؛ ضرورة أنّ العقول کلّها‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 210
‏علیٰ أنّ المطلوب والمحبوب، لیس الأعمّ، فلو کان المعروض أعمّ، فلابدّ وأن یکون‏‎ ‎‏لاقتضاء البرهان، لا الوجدان.‏

‏ولکن مع ذلک لایتمّ استدلال «الفصول» :‏

‏أمّا تصریحه : «بأنّ الواجب هی الموصلة»‏‎[4]‎‏ فلا منع لإمکانه.‏

‏وأمّا تصریحه : «بأنّ غیر الموصلة غیر مرادة، وأنّه لایرید المطلقة»‏‎[5]‎‏ فهو‏‎ ‎‏لازم أعمّ من أصل إرادة المقدّمة، ومن إرادة المقدّمة الموصلة، ولعلّه إذا صرّح بعدم‏‎ ‎‏إرادته غیر الموصلة، فهو لأجل عدم إرادة مطلق المقدّمة؛ موصلة کانت، أو غیر‏‎ ‎‏موصلة، فلابدّ من ضمّ أمر آخر إلیه حتّیٰ یتمّ الاستدلال، وهو التصریح بالموصلة،‏‎ ‎‏ونفی المطلقة معاً، حتّیٰ یستکشف.‏

‏وهذا فی الحقیقة لیس دلیلاً علیٰ حدة؛ لأنّ منشأ صحّة الاستدلال المزبور،‏‎ ‎‏ما مرّ من الوجدان والبرهان علی الموصلة.‏

ومنها :‏ أنّ الوجدان شاهد علیٰ أنّ الإنسان إذا اشتاق إلیٰ شیء، فیشتاق إلیٰ‏‎ ‎‏مقدّماته التی توصله إلیٰ ما أراده واشتاق إلیه، فلایشتاق إلی الطبیب إلاّ فی صورة‏‎ ‎‏تنتهی إلی التداوی، لا لزیارة البیت ونحوه‏‎[6]‎‏.‏

‏وأورد علیه فی «الکفایة» : «بأنّ الغایة من الإیجاب لیست إلاّ التمکّن،‏‎ ‎‏وهو حاصل»‏‎[7]‎‏.‏

والذی یظهر لی :‏ أنّ أدلّة «الفصول» واهیة؛ لرجوعها إلیٰ أمر واحد،‏‎ ‎‏ومناقشات «الکفایة» أوهن منها؛ لرجوعها إلیٰ شیء فارد: وهو أنّ الموصلة لیست‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 211
‏مقدورة، وما هو المقدور هی المطلقة؛ فإنّ المکلّف بالمقدّمة الاُولیٰ یتمکّن من‏‎ ‎‏الثانیة، وبالثانیة من الثالثة، فما هو معروض الوجوب، ما یحصل منه تمکّنه بالنسبة‏‎ ‎‏إلیٰ ذی المقدّمة، فلاتکون الموصلة من الأوّل معروض الوجوب، فما هو من الأوّل‏‎ ‎‏مورد تعلّق الإرادة الثانیة، هی المقدّمة الاُولیٰ، وهی بوحدتها لیست موصلة، وکان‏‎ ‎‏فی ذهنه الشریف ذلک، فناقش فی الوجدانیّات.‏

وأنت خبیر :‏ بأنّ القدرة علی المکلّف به، موجودة من الأوّل بالقدرة علیٰ‏‎ ‎‏مقدّماته الکثیرة، وهذه القدرة هی مصحّحة التکلیف بالنسبة إلی المعلول، من دون‏‎ ‎‏علّته وأسبابه وعلله وشرائطه، فإنّها کلّها لیست مورد التکلیف.‏

مثلاً :‏ إذا علمنا بأنّ الدخول فی دار زید، یلازم الإکراه علیٰ شرب الخمر،‏‎ ‎‏فهل یتمکّن عاقل من تجویز ذلک؛ مستدلاًّ: بأنّ ماهو مورد القدرة هی المقدّمة‏‎ ‎‏المطلقة، وهی لیست محرّمة، وماهو المحرّم هو الشرب، وهو لیس مقدوراً مثلاً؛‏‎ ‎‏لأنّه مکره علیه، فیکون معذوراً فی الارتکاب؟!‏

فإذن تبیّن :‏ أنّ ماهو ملاک التکلیف بذی المقدّمة، هی القدرة علی المقدّمة،‏‎ ‎‏والقدرة علیها حاصلة. وکان ینبغی أن نذکر ذلک من المحاذیر فی المسألة، ولکنّه‏‎ ‎‏لکونه أکثر نفعاً ذکرناه هنا.‏

ومنها :‏ ما نسب إلی السیّد الیزدیّ صاحب «العروة» ‏‏قدس سره‏‏: «وهو أنّ العقل‏‎ ‎‏یرخّص فی تحریم المقدّمة غیر الموصلة، مع أنّه یستحیل تحریم مطلق المقدّمة‏‎ ‎‏الأعمّ من الموصلة وغیرها، وهذا دلیل علیٰ أنّ الواجب هی الموصلة لاغیر»‏‎[8]‎‏.‏

‏وقد أورد علیه صاحب «الکفایة»: «بأنّ المقدّمات غیر المباحة خارجة من‏‎ ‎‏محلّ البحث، فعدم اتصاف المحرّمة بالوجوب الغیریّ؛ لأجل وجود المانع، لا لعدم‏‎ ‎‏المقتضی، فتحریم المقدّمة غیر الموصلة، لا یدلّ علیٰ أنّ الموصلة واجبة، بل للشرع‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 212
‏تحریم بعض الموصلات، وهذا دلیل علیٰ أنّ محلّ البحث هی المقدّمات المباحة‏‎[9]‎‏.‏

فبالجملة :‏ لایکون عدم اتصاف غیر الموصلة بالوجوب الغیریّ فی‏‎ ‎‏المفروض من المسألة؛ لأجل أنّ ملاک الوجوب هو التوصّل، بل ملاک الوجوب هو‏‎ ‎‏التمکّن، وفی هذا الفرض لاتوصف بالوجوب الغیریّ؛ لوجود المانع وهی الحرمة .‏

أقول :‏ هذا غیر وجیه؛ لأنّ معروض الوجوب لیس عین معروض الحرمة،‏‎ ‎‏حتّیٰ تمنع الحرمة عن عروض الوجوب؛ ضرورة أنّ ما أوجبه الشرع هو عنوان‏‎ ‎‏«الموصلة» مثلاً، وما حرّمه هو عنوان «الدخول فی الأرض المغصوبة» سواء کانت‏‎ ‎‏المطلقة، أو الموصلة المنحصرة، أو غیر المنحصرة، فإذا قلنا: بأنّ تعدّد العنوان کافٍ‏‎ ‎‏للالتزام بالحکمین المتنافیین، فلایلزم خروج المحرّمة عن محلّ النزاع.‏

‏هذا، ولو فرضنا أنّ الشرع حرّم عین العنوان المزبور، فإن قلنا: بأنّ الملازمة‏‎ ‎‏المدّعاة هی العقلیّة، فلا فرق عند العقل فی الکشف بین سبق الحرمة وعدمه؛ لأنّ‏‎ ‎‏للعقل کشف الوجوب الغیریّ علیٰ وجه یستکشف انتهاء أمد التحریم فی خصوص‏‎ ‎‏تلک المقدّمة.‏

وإن قلنا :‏ بأنّها عقلائـیّة، فلخروج المقدّمات المحرّمة عن حریم النزاع وجه،‏‎ ‎‏وقد مرّ بعض الکلام حول هذه المسألة‏‎[10]‎‏، فراجع.‏

‏فعلیٰ هذا، إذا حرّم الشرع المقدّمات غیر الموصلة بحسب الواقع، لاسبیل‏‎ ‎‏للعقل إلیٰ أن یکشف الوجوب الغیریّ المزاحم لها، فیعلم منه: أنّ الوجوب الغیریّ‏‎ ‎‏منحصر بالموصلة.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ ما یمکن أن یکون محرّماً إمّا یکون غیر ماهو معروض‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 213
‏الوجوب الغیریّ عنواناً، فلا تزاحم؛ لما تقرّر فی محلّه من إمکان الاجتماع‏‎[11]‎‏.‏

‏ولو کان عینه؛ بأن یکون المحرّم عین ما هو معروض الوجوب؛ إمّا لأجل‏‎ ‎‏اقتضاء لسان الدلیل فی الفرض ذلک، أو لأجل امتناع الاجتماع، فحینئذٍ نقول: إذا‏‎ ‎‏کانت الملازمة المدّعاة عقلیّة؛ وأنّ ملاک الوجوب هو التمکّن، أو التوقّف والتوصّل،‏‎ ‎‏أو الانتهاء کما جعلناه الملاک، فلا یعقل عدم ترشّح الوجوب إلیٰ ماهو أخصّ منه؛‏‎ ‎‏لأنّه من قبیل تخصیص الحکم العقلیّ، وعند ذلک لابدّ من الالتزام بارتفاع المانع؛‏‎ ‎‏وهی الحرمة، وهذا هو ینکشف بحکم العقل.‏

‏وإذا کانت الملازمة المدّعاة عقلائیّة، فلابأس بتخصیص مصبّ العروض؛‏‎ ‎‏وإخراج المقدّمات المحرّمة عن حریم النزاع ، کما لایخفیٰ.‏

‏فتحریم الشرع المقدّمات غیر الموصلة، أو تحریمه الموصلة المعیّنة من‏‎ ‎‏الموصلات المتعدّدة، مع کون الملاک هو التمکّن أو التوصّل، غیر ممکن عقلاً. ولو‏‎ ‎‏صحّ ذلک فهو دلیل علیٰ عدم ثبوت الملازمة رأساً، کما یأتی.‏

‏فعلیٰ ما تقرّر انقدح: أنّ ما اشتهر بینهم من خروج المقدّمات المحرّمة عن‏‎ ‎‏حریم النزاع‏‎[12]‎‏، غیر صحیح.‏

‏ثمّ بناءً علیٰ هذا، فهل یتمّ استدلال صاحب «العروة»؟ کلاّ؛ ضرورة أنّ ملاک‏‎ ‎‏الوجوب إن کان التمکّن، فیکشف عدم الحرمة بالنسبة إلیٰ غیر الموصلة.‏

‏وإن کان التوصّل، فیکشف أیضاً عدمها بالنسبة إلیٰ إحدی الموصلات.‏

‏وإن کان الانتهاء إلی الواجب؛ وهو التوصّل بالفعل، فیکشف عدم الحرمة فیما‏‎ ‎‏کانت محرّمة تلک الموصلة المنحصرة، فإنّ ماهو الموصل بالفعل لیس إلاّ واحداً،‏‎ ‎‏ولا یتعدّد. فینقلب النزاع إلیٰ ماهو الملاک، فلایکون ما ذکره وأفاده دلیلاً مستقلاًّ؛‏‎ ‎


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 214
‏لأنّه ‏‏قدس سره‏‏ کأنّه أخذ المدّعیٰ فی الدلیل؛ لما قال: «یجوز تحریم غیر الموصلة؛ لأنّ‏‎ ‎‏الملاک هو التوصّل» وهذا هو أوّل الکلام، فلاتخلط.‏

‏ثمّ إنّ من صاحب «الکفایة» یستظهر إشکال آخر‏‎[13]‎‏ منشأه بعض المحاذیر‏‎ ‎‏الآتیة للموصلة، فتفصیله هناک.‏

‏ولنا فی تقریب الإشکال الآخر بیان آخر: وهو أنّ تحریم المقدّمات غیر‏‎ ‎‏الموصلة، یستلزم عدم وجوب الموصلة؛ وذلک لأنّ الموصلة هی المرکّبة من‏‎ ‎‏المطلقة، وتکون المطلقة إحدیٰ أجزائها، فإذا کانت هی محرّمة شرعاً، فیستلزم‏‎ ‎‏عجز العبد عن الموصلة، فیسری عجزه إلی الواجب النفسیّ، فإذا سقط الوجوب‏‎ ‎‏النفسیّ، فلا وجوب غیریّ حتّیٰ یعرض الموصلة، فمن تحریم المطلقة یکشف عدم‏‎ ‎‏عروض الوجوب الغیریّ علی الموصلة.‏

والجواب :‏ أنّ الجزء الأوّل من أجزاء المقدّمة الموصلة، یشکّ فی تعقّبه‏‎ ‎‏بسائر الأجزاء، فیشکّ فی حرمته؛ لأنّه من الشبهة الموضوعیّة للمقدّمة المطلقة،‏‎ ‎‏فیجوز أن یبتدر ویبادر إلیه، فإن أتیٰ ببقیّة الأجزاء بحسب الواقع، فقد اتصف‏‎ ‎‏بالموصلة، فلایکون محرّماً، وإلاّ فقد انکشف أنّه قد ارتکب المحرّم، ولکنّه معذور،‏‎ ‎‏فتحریم المطلقة لایستلزم عدم جواز صرف العبد قدرته فی الموصلة، فافهم واغتنم.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 215

  • )) تقدّم فی الصفحة 205 ـ 206 .
  • )) الفصول الغرویّة : 86 / السطر 19 .
  • )) کفایة الاُصول : 148 .
  • )) الفصول الغرویّة : 81 / السطر 4 ـ 6 .
  • )) الفصول الغرویّة : 87 / السطر 12 ـ 17 .
  • )) الفصول الغرویّة : 86 / السطر 23 .
  • )) کفایة الاُصول : 149 ـ 150 .
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 2 : 420 .
  • )) کفایة الاُصول : 147 ـ 148 و 150 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 194 ـ 195 .
  • )) یأتی فی الجزء الرابع : 199 وما بعدها .
  • )) کفایة الاُصول : 159، أجود التقریرات 1 : 248 ـ 250، نهایة الأفکار 1 : 356 .
  • )) کفایة الاُصول : 150 .