الفصل السادس فی مقدّمة الواجب

الأمر الثالث عشر : فی مقتضی الاُصول العملیّة عند الشکّ فی وجوب المقدّمة

الأمر الثالث عشر : فی مقتضی الاُصول العملیّة عند الشکّ فی وجوب المقدّمة

‏ ‏

‏لو فرضنا قصور الأدلّة الاجتهادیّة الآتیة عن إثبات أحد طرفی هذه المسألة؛‏‎ ‎‏من الملازمة وعدمها، فقضیّة الاُصول العملیّة ماذا؟‏

‏والکلام هنا حول مسلکین :‏

أحدهما :‏ ما إذا کانت الملازمة المدّعاة عقلیّة صِرْفة، ویکون المقدّمة من‏‎ ‎‏لوازم ذی المقدّمة قهراً، کسائر اللوازم التی لایتخلّلها الجعل الاستقلالیّ.‏

ثانیهما :‏ ما إذا کانت الملازمة المدّعاة عقلائیّة، ولایکون بینما التلازم‏‎ ‎‏الطبیعیّ قطعاً؛ بحیث کان یترشّح وجوب المقدّمة وإرادتها وجمیع خصوصیّاتها‏‎ ‎‏الفعلیّة والشأنیّة من ذی المقدّمة ترشّحاً طبیعیّاً، کسائر المعالیل بالنسبة إلی العلل‏‎ ‎‏الطبیعیّة، أو لو کانت اختیاریّة لکان یجب عقلاً إیجاد تلک الإرادة التبعیّة، ویسلب‏‎ ‎‏الاختیار من المولیٰ بعد إیجاد الواجب النفسیّ.‏

‏أمّا علی المسلک الأوّل الذی هوظاهرالأصحاب، وقد بیّنا فیمحلّه امتناعه‏‎[1]‎‏،‏‎ ‎‏وسیأتی زیادة توضیح حوله‏‎[2]‎‏، فالبحث فی المسألتین: الاُصولیّة، والفقهیّة:‏

‏أمّا فی المسألة الاُصولیّة، فحیث إنّ الملازمة کسائر العناوین ذات ماهیّة،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 261
‏ووجود، فإذا نظرنا إلیها مع قطع النظر عن تحقّقها الخارجیّ تبعاً لتحقّق طرفیها، فلا‏‎ ‎‏أثر شرعیّ یترتّب علیٰ نفس التعبّد بعدمها.‏

‏مع أنّ هذا العدم لا حالة سابقة له؛ لاحتمال وجود الملازمة فی الأزل،‏‎ ‎‏فإجراء البراءة والاستصحاب الموضوعیّین، لافائدة فیه کما هو الظاهر.‏

‏وإذا نظرنا إلیٰ تحقّقها التبعیّ، فیمکن أن یتوهّم: أنّ مع وجود الحالة السابقة‏‎ ‎‏له أنّه ذو أثر؛ ضرورة أنّ التعبّد بعدمها إلیٰ زمان وجود الطرف ـ وهو ذو المقدّمة ـ‏‎ ‎‏یقتضی عدم وجوب المقدّمة؛ لأنّه من قبیل استصحاب أعدام الموضوعات لسلب‏‎ ‎‏أحکامها، وهذا هو استصحاب جارٍ عند الکلّ وإن ناقش فیه الوالد ـ مدّظلّه ‏‎[3]‎‏.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ التعبّد بعدم الملازمة، لیس من التعبّد بعدم الموضوع؛‏‎ ‎‏لأنّ وجوب المقدّمة موضوعه المقدّمة، لا الملازمة، فهو من قبیل التعبّد بعدم العلّة‏‎ ‎‏لانتفاء المعلول.‏

‏والذی هو المهمّ : أنّ المثبت من الاستصحاب عندنا حجّة، فالإشکال ینحصر‏‎ ‎‏بعدم جریانه الذاتیّ رأساً، فلا وجه للاُصول العملیّة من البراءة والاستصحاب، ولا‏‎ ‎‏لاستصحاب العدم المحمولیّ، ولا النعتیّ، فإنّه أظهر فساداً، کما هو الظاهر.‏

‏وأمّا فی المسألة الثانیة وهی الفرعیّة، فاجراء البراءة والاستصحاب‏‎ ‎‏الحکمیّین، محلّ الخلاف والإشکال.‏

‏وقد یشکل ذلک أوّلاً: بأنّه لا ثمرة فی نفی الوجوب الشرعیّ بعد اللابدّیة‏‎ ‎‏العقلیّة‏‎[4]‎‏.‏

وفیه :‏ ما قد عرفت من الآثار الممکنة علیٰ وجوبها الشرعیّ؛ من حرمة أخذ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 262
‏الاُجرة، وغیر ذلک ممّا یمکن‏‎[5]‎‏، وإن کان فقهاً مورد المناقشة، إلاّ أنّه لایضرّ إذا کان‏‎ ‎‏لأحد من الفقهاء اختیاره، کما لایخفیٰ.‏

ویشکل ثانیاً :‏ بأنّ البراءة الشرعیّة تحتاج إلی الامتنان، ولا عقاب علی‏‎ ‎‏المقدّمة حتّیٰ یکون فی رفع الوجوب امتنان‏‎[6]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ الامتنان لاینحصر بالعقاب، فإذا کان یرتفع الوجوب، یجوز ترتیب‏‎ ‎‏الآثار السابقة علیه؛ من حلّیة أخذ الاُجرة، وعدم ثبوت الضمان وهکذا.‏

وربّما یشکل ثالثاً :‏ بأنّ مع فرض وجوب ذی المقدّمة، یکون المقدّمة واجبة‏‎ ‎‏علیٰ تقدیر الملازمة، ومع الشکّ فی الملازمة یشکّ فی إمکان التعبّد، فلابدّ من إحراز‏‎ ‎‏إمکان التعبّد أوّلاً، حتّیٰ یمکن التعبّد بعدم الوجوب ثانیاً.‏

وفیه :‏ أنّ عدم الإحراز کافٍ، ومن الدلیل الاجتهادیّ المنطبق علی المورد، أو‏‎ ‎‏من الدلیل الفقاهتیّ، یستکشف الإمکان، کما تحرّر فی أوائل مباحث الظنّ‏‎[7]‎‏، فتأمّل.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ إذا کانت الملازمة مشتبهة بالشبهة الحکمیّة الکلّیة، فلا ضیر‏‎ ‎‏فی التفکیک بین الوجوبین. ولو کانت مشتبهة بالشبهة الموضوعیّة ـ فرضاً لو أمکن ‏‎ ‎‏فالتفکیک غیر جائز؛ لأنّ معناه عدم کلّیة الملازمة، وهو خلف.‏

‏وهنا إشکال رابع من السیّد الاُستاذ البروجردیّ ‏‏قدس سره‏‏.‏

وإجماله :‏ أنّ فی موارد جریان البراءة والاستصحاب الترخیصیّ، لابدّ وأن‏‎ ‎‏یکون المولیٰ راضیاً بترک الواقع عند المخالفة، ویتمکّن من الانصراف عن الواقع.‏

مثلاً :‏ إذا شکّ فی وجوب صلاة الجمعة، فمع جریان الأصلین، لابدّ وأن یصحّ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 263
‏أن یقال: «لو کان واجباً لانصرف عنه، وإلاّ فلایعقل الترخیص فیما یؤدّی إلیٰ خلاف‏‎ ‎‏مرامه بحسب الثبوت».‏

‏وفیما نحن فیه لایکون الأمر هکذا؛ وذلک لأنّ مع فرض الوجوب النفسیّ،‏‎ ‎‏واحتمال الملازمة العقلیّة القهریّة، لایعقل احتمال انصراف الشرع عن الوجوب‏‎ ‎‏الغیریّ؛ لأنّه مساوق لاحتمال التفکیک، وهو غیر معقول؛ ضرورة أنّ الوجوب‏‎ ‎‏الغیریّ، ظلّ الوجوب النفسیّ فی جمیع المراتب؛ من الاقتضاء إلی الشأنیّة والفعلیّة،‏‎ ‎‏فیتنجّز بتنجّزه، والوجوب الغیریّ تابع النفسیّ تبعیّة قهریّة خارجة عن حدود‏‎ ‎‏الاختیار، ولایعقل احتمال عدم الوجوب النفسیّ؛ لأنّه خلف لما فرض وجوبه،‏‎ ‎‏فلایعقل الترخیص، فلابدّ من إیجاب الاحتیاط‏‎[8]‎‏.‏

أقول :‏ نعم، هذا فیما إذا فرضنا العلم بالوجوب النفسیّ، وهو مجرّد فرض.‏‎ ‎‏وأمّا إذا قامت الحجّة علی الوجوب النفسیّ، کما هو المتعارف فی أنواع الواجبات،‏‎ ‎‏فلامنع من الأخذ بإطلاق دلیل الأصلین؛ والالتزام بالتفکیک إثباتاً؛ لأنّ نفی‏‎ ‎‏الوجوب الغیریّ، لایجتمع مع الوجوب النفسیّ الواقعیّ، لا مع الوجوب النفسیّ‏‎ ‎‏القائمة علیه الحجّة، فافهم واغتنم.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 264

  • )) تقدّم فی الصفحة 3 ـ 6 .
  • )) یأتی فی الصفحة 265 ـ 267 .
  • )) لاحظ الاستصحاب ، الإمام الخمینی قدس سره : 169 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 300 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 254 ـ 256 .
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 2 : 435 .
  • )) لاحظ نهایة الدرایة 2 : 169، ویأتی فی الجزء السادس : 222 ـ 224 .
  • )) نهایة الاُصول : 197 .