الأمر الثالث عشر : فی مقتضی الاُصول العملیّة عند الشکّ فی وجوب المقدّمة
لو فرضنا قصور الأدلّة الاجتهادیّة الآتیة عن إثبات أحد طرفی هذه المسألة؛ من الملازمة وعدمها، فقضیّة الاُصول العملیّة ماذا؟
والکلام هنا حول مسلکین :
أحدهما : ما إذا کانت الملازمة المدّعاة عقلیّة صِرْفة، ویکون المقدّمة من لوازم ذی المقدّمة قهراً، کسائر اللوازم التی لایتخلّلها الجعل الاستقلالیّ.
ثانیهما : ما إذا کانت الملازمة المدّعاة عقلائیّة، ولایکون بینما التلازم الطبیعیّ قطعاً؛ بحیث کان یترشّح وجوب المقدّمة وإرادتها وجمیع خصوصیّاتها الفعلیّة والشأنیّة من ذی المقدّمة ترشّحاً طبیعیّاً، کسائر المعالیل بالنسبة إلی العلل الطبیعیّة، أو لو کانت اختیاریّة لکان یجب عقلاً إیجاد تلک الإرادة التبعیّة، ویسلب الاختیار من المولیٰ بعد إیجاد الواجب النفسیّ.
أمّا علی المسلک الأوّل الذی هوظاهرالأصحاب، وقد بیّنا فیمحلّه امتناعه، وسیأتی زیادة توضیح حوله، فالبحث فی المسألتین: الاُصولیّة، والفقهیّة:
أمّا فی المسألة الاُصولیّة، فحیث إنّ الملازمة کسائر العناوین ذات ماهیّة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 261
ووجود، فإذا نظرنا إلیها مع قطع النظر عن تحقّقها الخارجیّ تبعاً لتحقّق طرفیها، فلا أثر شرعیّ یترتّب علیٰ نفس التعبّد بعدمها.
مع أنّ هذا العدم لا حالة سابقة له؛ لاحتمال وجود الملازمة فی الأزل، فإجراء البراءة والاستصحاب الموضوعیّین، لافائدة فیه کما هو الظاهر.
وإذا نظرنا إلیٰ تحقّقها التبعیّ، فیمکن أن یتوهّم: أنّ مع وجود الحالة السابقة له أنّه ذو أثر؛ ضرورة أنّ التعبّد بعدمها إلیٰ زمان وجود الطرف ـ وهو ذو المقدّمة ـ یقتضی عدم وجوب المقدّمة؛ لأنّه من قبیل استصحاب أعدام الموضوعات لسلب أحکامها، وهذا هو استصحاب جارٍ عند الکلّ وإن ناقش فیه الوالد ـ مدّظلّه .
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ التعبّد بعدم الملازمة، لیس من التعبّد بعدم الموضوع؛ لأنّ وجوب المقدّمة موضوعه المقدّمة، لا الملازمة، فهو من قبیل التعبّد بعدم العلّة لانتفاء المعلول.
والذی هو المهمّ : أنّ المثبت من الاستصحاب عندنا حجّة، فالإشکال ینحصر بعدم جریانه الذاتیّ رأساً، فلا وجه للاُصول العملیّة من البراءة والاستصحاب، ولا لاستصحاب العدم المحمولیّ، ولا النعتیّ، فإنّه أظهر فساداً، کما هو الظاهر.
وأمّا فی المسألة الثانیة وهی الفرعیّة، فاجراء البراءة والاستصحاب الحکمیّین، محلّ الخلاف والإشکال.
وقد یشکل ذلک أوّلاً: بأنّه لا ثمرة فی نفی الوجوب الشرعیّ بعد اللابدّیة العقلیّة.
وفیه : ما قد عرفت من الآثار الممکنة علیٰ وجوبها الشرعیّ؛ من حرمة أخذ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 262
الاُجرة، وغیر ذلک ممّا یمکن، وإن کان فقهاً مورد المناقشة، إلاّ أنّه لایضرّ إذا کان لأحد من الفقهاء اختیاره، کما لایخفیٰ.
ویشکل ثانیاً : بأنّ البراءة الشرعیّة تحتاج إلی الامتنان، ولا عقاب علی المقدّمة حتّیٰ یکون فی رفع الوجوب امتنان.
وفیه : أنّ الامتنان لاینحصر بالعقاب، فإذا کان یرتفع الوجوب، یجوز ترتیب الآثار السابقة علیه؛ من حلّیة أخذ الاُجرة، وعدم ثبوت الضمان وهکذا.
وربّما یشکل ثالثاً : بأنّ مع فرض وجوب ذی المقدّمة، یکون المقدّمة واجبة علیٰ تقدیر الملازمة، ومع الشکّ فی الملازمة یشکّ فی إمکان التعبّد، فلابدّ من إحراز إمکان التعبّد أوّلاً، حتّیٰ یمکن التعبّد بعدم الوجوب ثانیاً.
وفیه : أنّ عدم الإحراز کافٍ، ومن الدلیل الاجتهادیّ المنطبق علی المورد، أو من الدلیل الفقاهتیّ، یستکشف الإمکان، کما تحرّر فی أوائل مباحث الظنّ، فتأمّل.
وبعبارة اُخریٰ : إذا کانت الملازمة مشتبهة بالشبهة الحکمیّة الکلّیة، فلا ضیر فی التفکیک بین الوجوبین. ولو کانت مشتبهة بالشبهة الموضوعیّة ـ فرضاً لو أمکن فالتفکیک غیر جائز؛ لأنّ معناه عدم کلّیة الملازمة، وهو خلف.
وهنا إشکال رابع من السیّد الاُستاذ البروجردیّ قدس سره.
وإجماله : أنّ فی موارد جریان البراءة والاستصحاب الترخیصیّ، لابدّ وأن یکون المولیٰ راضیاً بترک الواقع عند المخالفة، ویتمکّن من الانصراف عن الواقع.
مثلاً : إذا شکّ فی وجوب صلاة الجمعة، فمع جریان الأصلین، لابدّ وأن یصحّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 263
أن یقال: «لو کان واجباً لانصرف عنه، وإلاّ فلایعقل الترخیص فیما یؤدّی إلیٰ خلاف مرامه بحسب الثبوت».
وفیما نحن فیه لایکون الأمر هکذا؛ وذلک لأنّ مع فرض الوجوب النفسیّ، واحتمال الملازمة العقلیّة القهریّة، لایعقل احتمال انصراف الشرع عن الوجوب الغیریّ؛ لأنّه مساوق لاحتمال التفکیک، وهو غیر معقول؛ ضرورة أنّ الوجوب الغیریّ، ظلّ الوجوب النفسیّ فی جمیع المراتب؛ من الاقتضاء إلی الشأنیّة والفعلیّة، فیتنجّز بتنجّزه، والوجوب الغیریّ تابع النفسیّ تبعیّة قهریّة خارجة عن حدود الاختیار، ولایعقل احتمال عدم الوجوب النفسیّ؛ لأنّه خلف لما فرض وجوبه، فلایعقل الترخیص، فلابدّ من إیجاب الاحتیاط.
أقول : نعم، هذا فیما إذا فرضنا العلم بالوجوب النفسیّ، وهو مجرّد فرض. وأمّا إذا قامت الحجّة علی الوجوب النفسیّ، کما هو المتعارف فی أنواع الواجبات، فلامنع من الأخذ بإطلاق دلیل الأصلین؛ والالتزام بالتفکیک إثباتاً؛ لأنّ نفی الوجوب الغیریّ، لایجتمع مع الوجوب النفسیّ الواقعیّ، لا مع الوجوب النفسیّ القائمة علیه الحجّة، فافهم واغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 264