هل هذه المسألة لفظیّة أو عقلیّة ؟
وقبل الخوض فیما یستدعیه البحث عن أصل المسألة من الاُمور التالیة، لابأس بالإشارة إلیٰ مقدّمة: وهی أنّ هذه المسألة هل هی عقلیّة أم لفظیّة؟
وعلیٰ کلّ تقدیر : هل هی اُصولیّة، أم لغویّة، أم تکون من المبادئ الأحکامیّة، أو التصدیقیّة ؟
أقول : إن کان ملاک عقلیّة المسألة، وجود الأدلّة العقلیّة فی طیّ البراهین القائمة علیها، فهی عقلیّة. وإن کان مناطها عدم الاستدلال بالأدلّة اللفظیّة فهی لفظیّة؛ لما یأتی من الاستدلالات المختلفة فی المسألة نفیاً وإثباتاً.
وإن کان سبب عقلیّة المسألة عنوان الباب، فهی لفظیّة؛ لعدم منصوصیّة لفظة «الاقتضاء» فی العقلیّة، بخلاف لفظ «الأمر».
وأمّا ما قد یقال : بأنّ المسألة عقلیّة؛ لعدم النظر إلی الأمر الصادر فی الشریعة، بل النظر إلی الوجوب الثابت فیها، سواء کان ثابتاً باللّفظ، أو الإجماع، أو العقل، وأنّ عنوانها فی طیّ المباحث غالبیّ، کما عن العلاّمة النائینیّ وجماعة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 295
اُخریٰ، فهی مخدوشة؛ وذلک لأنّ الوجوب الثابت بالإجماع والعقل، إن کان هو المعنی الثبوتیّ ـ وهو الشوق النفسانیّ ـ فهو لیس من الوجوب الاعتباریّ الذی هو المستلزم أحیاناً للنهی.
وإن کان ذلک الوجوب هو الوجوب الإنشائیّ القانونیّ المجعول علی الکلّ، فهو لابدّ وأن یکون فی قالب لفظیّ أو غیر لفظیّ یشبه اللفظیّ.
فبالجملة : یتقوّم الوجوب بالإنشاء والإبراز، وأمّا لزوم تبعیّة المولیٰ فی ملاکات أحکامه أحیاناً، فهو أجنبیّ عن هذه المسألة عنواناً؛ لما أنّه لیس من الوجوب رأساً.
نعم، المرام اللاّزم استیفاؤه، کالأمر فی الاقتضاء واللاّاقتضاء، کما یأتی إن شاء الله تعالیٰ.
ثمّ إنّه لابدّ من جامع بین الوجوب والندب فی تحریر البحث، وذلک الجامع هو الأمر. وأمّا الوجوب والندب الثابتان بالعقل والإجماع، فلا جامع لهما، وتصیر النتیجة حینئذٍ أخصّ، کما لایخفیٰ.
هذا مع أنّ حرمة الضدّ المقصود إثباتها ثمرةً لهذه المسألة، لاتترتّب علی الوجوب المتعلّق بالشیء عند جمع؛ لإمکان أن یتوهّم أنّ الحرمة تستظهر من النهی الناشئ من الأمر، فلو قال المولیٰ: «تجب الإزالة من المسجد» فلایستفاد منه إلاّ عدم وجوب ضدّها، وأمّا حرمة ضدّها فهی تتوقّف علی النهی، والنهی لایکون إلاّ باعتبار الأمر.
فتحصّل منّا إلیٰ هنا : أنّ ما تعارف فی عصرنا من توهّم أنّ المسألة إمّا عقلیّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 296
أو لفظیّة، غیر نقیّ جدّاً، بل هذه المسائل عقلیّة باعتبارٍ، ولفظیّة باعتبارٍ آخر، ولاضیر فی ذلک کما تریٰ.
وإن شئت قلت : إذا نظرنا إلیٰ مقام الثبوت؛ وأنّ الإرادة المتعلّقة بإیجاب شیء، تلازم إرادة تحریم ضدّه ـ من غیر النظر إلی اللّفظ ـ فالمسألة عقلیّة.
وإذا نظرنا إلیٰ مقام الإثبات، وکان المولیٰ أفاد الوجوب بالأمر، فیمکن أن تکون المسألة لفظیّة؛ لأنّ من الممکن دعویٰ دلالة الأمر علی النهی، ودلالة النهی علی الحرمة، فیتوسّط بین حرمة الضدّ وإرادة الوجوب شیء آخر؛ وهو النهی.
وأمّا لو أفاد الوجوب بمادّته وبالمفهوم الاسمیّ، فلا شبهة فی عدم دلالته علی النهی بالضرورة.
فبالجملة : کون الوجوب تارة: یستفاد من اللّفظ، واُخریٰ: من العقل أو الإجماع، لایورث کون المسألة لفظیّة، بل الوجوب لأجل استفادته تارة: من الأمر، واُخریٰ: من مادّة الوجوب، یورث کون المسألة علی الأوّل لفظیّة، وعلی الثانی عقلیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 297