خاتمة : حول تقیید المهمّ بإطاعة أمر الأهم
ربّما یخطر بالبال: أنّ لتصویر الأمر بالمهمّ طریقاً آخر، ومسلکاً بدیعاً، وتقریباً حدیثاً لابدّ من الإشارة إلیه: وهو أنّ من تقیید المهمّ ترتفع غائلة الترتّب؛ من غیر لزوم الغوائل الاُخر، ولکنّ ذلک بأن یکون الدلیل المستکشف، ناظراً إلیٰ حال المکلّف تکویناً؛ لأنّ الفساد ناشئ من عجز العبد عن الجمع، أو عن الامتناع الذاتیّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 512
الثابت بین الضدّین؛ وذلک أن یکون مفاد هذا الدلیل تقیید المهمّ بالاشتغال وإطاعة الأهمّ، وتکون النتیجة نفی المهمّ حال الإطاعة والاشتغال.
فإذا ورد قوله: «إذا اشتغلت بالأهمّ وکنت مطیعاً لأمره، فلیس علیک المهمّ» ویکون العبد ـ بحسب متن الواقع ـ إمّا شاغلاً للأهمّ، فلا مهمّ علیه، وإمّا شاغلاً للمهمّ، فیکون حسب إطلاق أمره مورد الأمر، وإمّا لیس شاغلاً لکلّ من الأهمّ والمهمّ، فیستحقّ العقوبة؛ لأنّه بالنسبة إلیٰ کلّ واحد جامع للشرائط، ولاتکلیف بالجمع بینهما حتّیٰ یکون معذوراً.
وبالجملة : من تقیید المهمّ بعصیان الأهمّ، تأتی الشبهات التی ترجع إلیٰ معنی العصیان وحقیقته، وأمّا من تقییده بإطاعة الأهمّ لاتأتی تلک الشبهات.
إن قلت : حین الاشتغال بالمهمّ، هل یکون أمر الأهمّ فعلیّاً وموجوداً أم لا؟:
فإن کان فعلیّاً، فیلزم الإشکال المزبور المتوجّه إلی الترتّب المعروف.
وان کان ساقطاً فهو المسلک الذی أبدعتموه، وقد مضیٰ.
فعلیٰ کلّ تقدیر : إمّا أن لایتمّ الترتّب بهذا التقریب أیضاً، أو یرجع إلیٰ بعض المسالک السابقة.
قلت : لاشبهة فی عدم توجّه الإشکالات الناشئة من التقیید بالعصیان إلی التقیید بالإطاعة. وأمّا الأمر بالأهمّ ـ وهو فعل الإزالة ـ فهو فعلیّ حال الاشتغال به، ولیس بفعلیّ حال الاشتغال بالمهمّ، وأیضاً هو فعلیّ حال ترک المهمّ.
ولسنا فی مقام إثبات الجمع بین الحکمین الفعلیّین فی زمان واحد، بل النظر إلیٰ أنّ فی حال الابتلاء بالمزاحمة بین التکالیف، یکون الأمر هکذا: وهو أنّ المکلّف مع ترک المهمّ والأهمّ یستحقّ العقوبتین، ومع ترک المهمّ یکون الأهمّ مع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 513
الأمر، وهکذا فی عکسه، سواء کانا فعلیّین فی زمان واحد، أو لم یکونا کذلک.
ولاشبهة أنّه بعد ثبوت الإطلاق لکلّ واحد من الدلیلین، وبعد عدم رجوعهما إلیٰ دلیل واحد باعث نحو الجمع بینهما، تصیر النتیجة علیٰ هذا النحو من التقیید هکذا، ویثبت المطلوب.
فما هو مورد نظر الترتّبی؛ هو إثبات هذه المسألة بشقوقها من غیر النظر إلی التقریب الخاصّ، أو التقیید بنحو معیّن.
وبعبارة اُخریٰ : کما أنّ العقل فی المتساویین، یجد طریق التخلّص من الإشکال، منحصراً بالتقییدین علیٰ وجه یستلزم العقابین عند ترکهما، دون التخییر الشرعیّ، کذلک فیما نحن فیه، العقل یجد طریق التخلّص منحصراً بالتقیید من جانبین، إلاّ أنّ إحراز الأهمیّة من الخارج یستلزم أوّلاً إقدام العبد علی الأهمّ، وأمّا مع اشتغاله بالمهمّ فلایلزم عدم الأمر. کما أنّ مع اشتغاله به یسقط أمر الأهمّ؛ للعجز الطارئ.
فسقوط أمر المهمّ للعجز الموجود، وسقوط أمر الأهمّ للعجز الطارئ، وهذا التعجیز ـ بسوء الاختیار ـ لایعدّ عذراً، فافهم واغتنم، وکن من الشاکرین، وتأمّل جدّاً.
وإن شئت قلت : لایعقل استحقاق العقابین؛ إلاّ مع فرض فعلیّة التکلیفین معاً فی زمان واحد، وهو محال، ولیس هو المهمّ فی مسألة الضدّ وبحث التزاحم، بل المهمّ تصویر الأمر بالمهمّ عند الاشتغال به، وهو مع تقیید المهمّ بعصیان الأهمّ یستلزم المحذور، وأمّا مع تقییده بإطاعة الأهمّ فلایستتبع محذوراً؛ ضرورة أنّ مع الاشتغال بالمهمّ، یکون هو مورد الأمر حسب إطلاق دلیله، ویسقط أمر الأهمّ؛ لعدم معقولیّة بقائه مع العجز.
ولکن جواز العقاب علیه، لیس لأجل فعلیّة التکلیف، بل هو لأجل تعجیزه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 514
بسوء الاختیار، فمع الاشتغال بالمهمّ یستحقّ العقوبة من تلک الجهة.
وبالجملة : هذا النحو من التقیید، أقلّ محذوراً جدّاً من التقیید المعروف فی کلماتهم.
والذی هو الحجر الأساس عندنا: أنّه لا حاجة ـ علیٰ تقدیر إمکان هذا النحو من التصویر ـ إلیٰ تصدیقه؛ لما تقرّر: أنّ التکالیف القانونیّة فعلیّة، ولایشترط القدرة لفعلیتها حین التکلیف، ولا حین الامتثال، فلا داعی إلیٰ هذه المقالة؛ لا فی الأهمّ والمهمّ، ولا فی المتساویین.
وإلیٰ هنا تمّ ما هو المقصود فی هذه المسألة، ونرجو من إخواننا أهلَ الفضل أن یعذرونی لو اُطیل الکلام فیالمقام؛ لأنّه من مزالّ الأقدام، مع کثرة فوائده فی الفقه، وفی حلّ المسائل والمشکلات العلمیّة، والله هو الموفّق.
وقد بقی شیء من البحث، ولکنّ الانصراف عنه أولیٰ وأحسن.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 515