هل یجوز التخییر الشرعیّ بین الأقل اللابشرط وبین الأکثر ؟
وأمّا التخییر الشرعیّ بین الأقلّ اللا بشرط والأکثر، فالمعروف عنهم امتناعه فی التدریجیّات فی الکم المنفصل، کالتسبیحة والتسبیحات، وظاهرهم أنّ الامتناع ناشئ من أنّ النوبة فی مقام الامتثال لا تصل إلیٰ الأکثر؛ لأنّ بوجود الأقلّ یحصل الامتثال دائماً فی المرحلة السابقة، وما کان حاله کذلک لا یعقل تصویر التخییر فیه إلاّ برجوعه إلیٰ وجوب الأقلّ تعیینیاً، وجواز الأکثر أو استحبابه.
وبعبارة اُخری: الامتثال قهریّ وإذا أتیٰ بالتسبیحة فقد أتیٰ بأحد الأطراف، فلا معنیٰ لکون الأکثر موجباً للامتثال.
ولک دعوی الامتناع فی مقام الجعل والتشریع بالذات؛ وذلک لأنّ إیجاب الشیء الواحد لا یعقل مرّتین تأسیساً، وإذا کان الأقلّ واجباً، وموردَ البعث التخییریّ علیٰ النحو المزبور فی الواجب التخییریّ، فکیف یعقل البعث الآخر إلیٰ الأکثر الذی فیه الأقلّ؟! لأنّ معنیٰ کون الأقلّ لا بشرط؛ هو أنّ الأکثر عبارة عن ذلک الأقلّ مع إضافة، فیلزم تعیّن الأقلّ، ویکون مورد البعث الثانی مرّتین.
وهذا محذور ناشئ من أصل الجعل، ویورث امتناع تعلّق الإرادة الثانیة فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 19
البعث الثانی التخییریّ بالأقلّ، ویلزم تعلّقها بالزائد، ویکون الزائد مورد الرخصة من غیر کونه واجباً.
فبالجملة: إذا راجعنا وجداننا نجد فیما إذا نأمر عبدنا بإعطاء زید دیناراً، أو دیناراً ونصفاً، أنّ ما هو مورد البعث تعییناً هو الدینار، والزائد مورد الرخصة، ومطلوب استحبابیّ.
وهنا دقیقة اُخریٰ: وهی أنّ الأقلّ والأکثر أیضاً یتصوّران علیٰ نحوین:
أحدهما: ما کان عنوان الأکثر عین عنوان الأقلّ مع الزیادة، کما فی المثال المزبور، وفی مثل التسبیحة والتسبیحات.
ثانیهما: ما کان الأقلّ والأکثر متّحدین عنواناً، ومختلفین حسب کثرة الأجزاء وقلّتها، کما فی الأقلّ والأکثر الارتباطیّین فی الصلاة وسائر المرکّبات الفانیة فیها الأجزاء، فإنّ الأکثر هی الصلاة، وهکذا الأقلّ، ولکنّ الاختلاف بینهما بحسب أنّ الصلاة فی الأکثر ذات عشرة أجزاء، وفی الأقلّ تسعة أجزاء.
وإذا کان الأمر هکذا، فالإیجاب التخییریّ المتعلّق بالصلاة الکذائیّة، أو الصلاة الکذائیّة، ممکن بحسب مقام الجعل؛ لأنّ بین العنوانین فی عالم العنوان تبایناً، ولا یلزم أن تتعلّق الإرادة الثانیة بعین ما تعلّق به الإرادة الاُولیٰ، ولکن فی مقام الامتثال یقدّم الأقلّ دائماً فی مرحلة الإسقاط، فلا تصل النوبة إلیٰ الثانیة، وعند ذلک لا یمکن أن تترشّح الإرادة المسانخة مع الإرادة الاُولیٰ فی الکیفیّة من المولیٰ، ویمتنع ذلک امتناعاً بالغیر، لا بالذات، فافهم وتدبّر جیّداً.
أقول: قد فرغنا من إمکان تصویر کون الامتثال اختیاریّاً، وأنّه لیس من الاُمور القهریّة ـ وتعرضّنا لذلک فی مباحث الإجزاءـ وعرفت هناک: أنّ الامتثال عقیب الامتثال بمکان من الإمکان، وذکرنا هناک طریقین:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 20
أحدهما: أنّ سقوط الأمر معناه سقوطه عن الباعثیّة الإلزامیّة، وبقاؤه علیٰ باعثیّته الندبیّة حسب القرائن الخارجیّة، وتفصیله فی محلّه.
ثانیهما: أنّ للشرع اعتبار عدم سقوط الأمر؛ بداعی قیام العبد نحو المصداق الأتمّ، ویعتبر للمکلّف اختیار کون المصداق المأتیّ به فرداً ممتثلاً به الأمر، أو عدم کونه کذلک.
فإذا اعتبر المصداق المزبور عدماً أو مستحبیّاً ـ کما فی أخبار الصلاة المعادة: أنّه إن شاء جعلها مستحبّیاً، وإن شاء جعلها فریضة فإذا کان هو بالخیار فی وعاء الاعتبار والادعاء لأغراض اُخر، فلابدّ أن یکون الامتثال تحت اختیاره، فإن اختار امتثال الأمر التخییریّ بالأقلّ فهو، وإن اختار امتثاله بالأکثر فهو مصداق الممتثل به، ویترتّب علیه الآثار، ولا نقصد من «اعتبار التخییر بین الأقلّ والأکثر» إلاّ ذلک.
فبالجملة: إذا حاسبنا حساب الأغراض والتکوین، وحصول الغرض تکویناً بحصول علّته وسببه، فلا تخییر بین الأقلّ والأکثر، وأمّا إذا حاسبنا هذا النحو من الحساب، وتذکّرنا أنّ المسألة من الاعتبار القابل للتوسعة والتضییق؛ حسب الأغراض الاُخر، فلابدّ من الالتزام بصحّته، وترتّب الآثار علیه.
نعم، نحتاج إلیٰ القرینة القائمة علیه؛ وهی تکفّل نفس الدلیل للتخییر ظاهراً، فإنّه ربّما یشهد علیٰ أنّ المولی فی هذا الموقف من الاعتبار، فتدبّر واغتنم، وکن من الشاکرین.
وممّا أومأنا إلیه تبیّن: أنّ للمکلّف اعتبار إفناء الأقلّ بعد الإتیان به، فیأتی بالزائد وجوباً، ویکون المأتیّ به جزء المأمور به والطرف الآخر، وکما صحّ تبدیل الامتثال عقیب الامتثال بوجه، کذلک التخییر هنا ممکن بهذا المعنیٰ، ونتیجة ذلک لزوم الإتیان بالطرف الآخر وجوباً؛ بناءً علیٰ اعتباره، أو جواز ذلک.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 21