الفصل الثامن التعرّض لبعض أنحاء الوجوب

هل یجوز التخییر الشرعیّ بین الأقل اللابشرط وبین الأکثر ؟

هل یجوز التخییر الشرعیّ بین الأقل اللابشرط وبین الأکثر ؟

‏ ‏

‏وأمّا التخییر الشرعیّ بین الأقلّ اللا بشرط والأکثر، فالمعروف عنهم امتناعه‏‎ ‎‏فی التدریجیّات فی الکم المنفصل، کالتسبیحة والتسبیحات، وظاهرهم أنّ الامتناع‏‎ ‎‏ناشئ من أنّ النوبة فی مقام الامتثال لا تصل إلیٰ الأکثر؛ لأنّ بوجود الأقلّ یحصل‏‎ ‎‏الامتثال دائماً فی المرحلة السابقة، وما کان حاله کذلک لا یعقل تصویر التخییر فیه‏‎ ‎‏إلاّ برجوعه إلیٰ وجوب الأقلّ تعیینیاً، وجواز الأکثر أو استحبابه.‏

وبعبارة اُخری:‏ الامتثال قهریّ وإذا أتیٰ بالتسبیحة فقد أتیٰ بأحد الأطراف،‏‎ ‎‏فلا معنیٰ لکون الأکثر موجباً للامتثال‏‎[1]‎‏.‏

‏ولک دعوی الامتناع فی مقام الجعل والتشریع بالذات؛ وذلک لأنّ إیجاب‏‎ ‎‏الشیء الواحد لا یعقل مرّتین تأسیساً، وإذا کان الأقلّ واجباً، وموردَ البعث التخییریّ‏‎ ‎‏علیٰ النحو المزبور فی الواجب التخییریّ، فکیف یعقل البعث الآخر إلیٰ الأکثر الذی‏‎ ‎‏فیه الأقلّ؟! لأنّ معنیٰ کون الأقلّ لا بشرط؛ هو أنّ الأکثر عبارة عن ذلک الأقلّ مع‏‎ ‎‏إضافة، فیلزم تعیّن الأقلّ، ویکون مورد البعث الثانی مرّتین.‏

‏وهذا محذور ناشئ من أصل الجعل، ویورث امتناع تعلّق الإرادة الثانیة فی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 19
‏البعث الثانی التخییریّ بالأقلّ، ویلزم تعلّقها بالزائد، ویکون الزائد مورد الرخصة من‏‎ ‎‏غیر کونه واجباً.‏

فبالجملة:‏ إذا راجعنا وجداننا نجد فیما إذا نأمر عبدنا بإعطاء زید دیناراً، أو‏‎ ‎‏دیناراً ونصفاً، أنّ ما هو مورد البعث تعییناً هو الدینار، والزائد مورد الرخصة،‏‎ ‎‏ومطلوب استحبابیّ.‏

‏وهنا دقیقة اُخریٰ: وهی أنّ الأقلّ والأکثر أیضاً یتصوّران علیٰ نحوین:‏

أحدهما:‏ ما کان عنوان الأکثر عین عنوان الأقلّ مع الزیادة، کما فی المثال‏‎ ‎‏المزبور، وفی مثل التسبیحة والتسبیحات.‏

ثانیهما:‏ ما کان الأقلّ والأکثر متّحدین عنواناً، ومختلفین حسب کثرة الأجزاء‏‎ ‎‏وقلّتها، کما فی الأقلّ والأکثر الارتباطیّین فی الصلاة وسائر المرکّبات الفانیة فیها‏‎ ‎‏الأجزاء، فإنّ الأکثر هی الصلاة، وهکذا الأقلّ، ولکنّ الاختلاف بینهما بحسب أنّ‏‎ ‎‏الصلاة فی الأکثر ذات عشرة أجزاء، وفی الأقلّ تسعة أجزاء.‏

‏وإذا کان الأمر هکذا، فالإیجاب التخییریّ المتعلّق بالصلاة الکذائیّة، أو‏‎ ‎‏الصلاة الکذائیّة، ممکن بحسب مقام الجعل؛ لأنّ بین العنوانین فی عالم العنوان‏‎ ‎‏تبایناً، ولا یلزم أن تتعلّق الإرادة الثانیة بعین ما تعلّق به الإرادة الاُولیٰ، ولکن فی‏‎ ‎‏مقام الامتثال یقدّم الأقلّ دائماً فی مرحلة الإسقاط، فلا تصل النوبة إلیٰ الثانیة، وعند‏‎ ‎‏ذلک لا یمکن أن تترشّح الإرادة المسانخة مع الإرادة الاُولیٰ فی الکیفیّة من المولیٰ،‏‎ ‎‏ویمتنع ذلک امتناعاً بالغیر، لا بالذات، فافهم وتدبّر جیّداً.‏

أقول:‏ قد فرغنا من إمکان تصویر کون الامتثال اختیاریّاً، وأنّه لیس من‏‎ ‎‏الاُمور القهریّة ـ وتعرضّنا لذلک فی مباحث الإجزاء‏‎[2]‎‏ـ وعرفت هناک: أنّ الامتثال‏‎ ‎‏عقیب الامتثال بمکان من الإمکان، وذکرنا هناک طریقین:‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 20
أحدهما:‏ أنّ سقوط الأمر معناه سقوطه عن الباعثیّة الإلزامیّة، وبقاؤه علیٰ‏‎ ‎‏باعثیّته الندبیّة حسب القرائن الخارجیّة، وتفصیله فی محلّه.‏

ثانیهما:‏ أنّ للشرع اعتبار عدم سقوط الأمر؛ بداعی قیام العبد نحو المصداق‏‎ ‎‏الأتمّ، ویعتبر للمکلّف اختیار کون المصداق المأتیّ به فرداً ممتثلاً به الأمر، أو عدم‏‎ ‎‏کونه کذلک.‏

‏فإذا اعتبر المصداق المزبور عدماً أو مستحبیّاً ـ کما فی أخبار الصلاة المعادة:‏‎ ‎‏أنّه إن شاء جعلها مستحبّیاً، وإن شاء جعلها فریضة فإذا کان هو بالخیار فی وعاء‏‎ ‎‏الاعتبار والادعاء لأغراض اُخر، فلابدّ أن یکون الامتثال تحت اختیاره، فإن اختار‏‎ ‎‏امتثال الأمر التخییریّ بالأقلّ فهو، وإن اختار امتثاله بالأکثر فهو مصداق الممتثل به،‏‎ ‎‏ویترتّب علیه الآثار، ولا نقصد من «اعتبار التخییر بین الأقلّ والأکثر» إلاّ ذلک‏‎[3]‎‏.‏

فبالجملة:‏ إذا حاسبنا حساب الأغراض والتکوین، وحصول الغرض تکویناً‏‎ ‎‏بحصول علّته وسببه، فلا تخییر بین الأقلّ والأکثر، وأمّا إذا حاسبنا هذا النحو من‏‎ ‎‏الحساب، وتذکّرنا أنّ المسألة من الاعتبار القابل للتوسعة والتضییق؛ حسب‏‎ ‎‏الأغراض الاُخر، فلابدّ من الالتزام بصحّته، وترتّب الآثار علیه.‏

‏نعم، نحتاج إلیٰ القرینة القائمة علیه؛ وهی تکفّل نفس الدلیل للتخییر ظاهراً،‏‎ ‎‏فإنّه ربّما یشهد علیٰ أنّ المولی فی هذا الموقف من الاعتبار، فتدبّر واغتنم، وکن من‏‎ ‎‏الشاکرین.‏

‏وممّا أومأنا إلیه تبیّن: أنّ للمکلّف اعتبار إفناء الأقلّ بعد الإتیان به، فیأتی‏‎ ‎‏بالزائد وجوباً، ویکون المأتیّ به جزء المأمور به والطرف الآخر، وکما صحّ تبدیل‏‎ ‎‏الامتثال عقیب الامتثال بوجه، کذلک التخییر هنا ممکن بهذا المعنیٰ، ونتیجة ذلک‏‎ ‎‏لزوم الإتیان بالطرف الآخر وجوباً؛ بناءً علیٰ اعتباره، أو جواز ذلک.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 21

  • )) نهایة الدرایة 2: 273، نهایة الأفکار 1: 393، مناهج الوصول 2: 88 ـ 90 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 268 ـ 271 .
  • )) نفس المصدر .