المقدّمة الثالثة : حول اُصولیّة مسألة اجتماع الأمر والنهی وعدمها
هل أنّ هذه المسألة من المسائل الفقهیّة، أم الکلامیّة، أم الاُصولیّة، أم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 126
من المبادئ الأحکامیّة، أو التصدیقیّة، أو لیس بشیء منها؟ وجوه وأقوال، ومنها: أنّها من الکلّ.
الأوّل: أنّها من الفقهیّة؛ لأنّ البحث فی الحقیقة راجع إلیٰ أنّ العمل المنطبق علیه العنوان صحیح ونافذ، أم لا، ومجرّد اختلاف العنوان فی طرح البحث، لا یورث الخروج عن مسائل العلم، کما لا یخفیٰ.
وقیل بخلاف ذلک؛ ضرورة أنّه لو کان الأمر کما حرّر، لکانت جمیع المسائل الاُصولیّة من المسائل الفقهیّة.
نعم، لا بأس بالالتزام بذلک؛ بدعویٰ أنّ المسألة الواحدة لأجل اختلاف الأنظار فیها، تعدّ من المسائل للعلوم الکثیرة؛ حسب کیفیّة الارتباط الحاصل بینها وبین موضوع العلم وسائر مسائله ومباحثه، ثمّ إنّه إذا کانت من المسائل الفقهیّة، فهی ذات وجهین: الصحّة، والفساد، فإذا قیل بالصحّة فلابدّ من الدلیل علیها، ولا یستدلّ لها إلاّ بجواز الاجتماع، وهکذا فی ناحیة الفساد لا یستدلّ إلاّ بعدم الجواز، وهذا یشهد علیٰ تعدّد المسألتین، وإلاّ یلزم کون الدلیل عین المسألة، فلا تخلط.
الثانی: أنّها من المسائل الکلامیّة، وتقریب ذلک بأنّ البحث هنا حول إمکان اجتماع الإرادتین وامتناعه، أو حول قبح ذلک وعدم قبحه، أو أنّه هل یحصل الامتثال بالمجمع أم لا؟ غیر صحیح، ولذلک یتوجّه إلیه ما فی المفصّلات.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 127
نعم، لنا أن نقول: بأنّه یرجع البحث إلیٰ أنّ اجتماع الإرادتین، هل یستلزم التکلیف بالمحال أم لا، أو هل یرجع إلیٰ التکلیف المحال، أم لا؟ وعند ذلک یعدّ من المسائل الکلامیّة، أو هل مثل هذه قبیح من المبدأ الأعلیٰ، أم لا؟ وعلیٰ هذا لایتوجّه إلیه الإشکالات المزبورة علیٰ کونها کلامیّة.
نعم، یتوجّه إلیه ما أفاده جدّی الأعلیٰ قدس سره فی «التقریرات»: من أنّ هذه المسألة أعمّ، ولاتختصّ بالأحکام الشرعیّة والقوانین الإلهیّة، بل المسائل الاُصولیّة مباحث عقلائیّة کلّیة یستنتج منها المسائل الشرعیّة، فالبحث من هذه الجهة عامّ یشترک فیه المبدأ وغیر المبدأ من الموالی العرفیّین، فاغتنم.
الثالث: أنّها من المبادئ الأحکامیّة، والظاهر أنّ المبادئ الأحکامیّة هی المسائل الخاصّة بها الاُصول، ولا تشترک فیها سائر العلوم؛ لأنّ مبادئ العلم بین تصوّریة، وتصدیقیّة، ولا ثالث لهما.
والمراد منها هی المباحث المعنونة فی هذا العلم لکشف الحکم الشرعیّ من طریق العقل، مع دخالة النقل، کالبحث عن وجوب المقدّمة، وحرمة الضدّ، وحیث إنّ علم الاُصول لیس من العلوم المتعارفة کما سیمرّ علیک تحقیقه، فلا منع من ازدیاد المبادئ الاُخر المسمّاة ب «المبادئ الأحکامیّة» فیها.
فما أوردنا علیها فیما سلف: من أنّها إمّا تکون تصوّریة راجعة إلیٰ تصوّر الموضوع والمحمول بحیال ذاتهما، أو تصدیقیّة راجعة إلیٰ الأدلّة والحجج القائمة علیٰ إثبات المحمول للموضوع، والأحکامیّة لیست منهما، ولا ثالث، قابل للدفع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 128
بما اُشیر إلیه؛ ضرورة أنّ البحث عن وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ، لا یعدّ من المبادئ التصوّریة، ولا التصدیقیّة، فلابدّ وأن تکون من المبادئ الأحکامیّة؛ أی المقدّمات التی یستنتج منها الحکم الشرعیّ من الوجوب والحرمة؛ لأجل تعلّق الحکم الآخر بالموضوع الآخر.
وإدراجها فی المسائل الاُصولیّة حسبما سلکه المتأخّرون ممکن، ولکن بناءً علیٰ کون الموضوع علم الاُصول هی الحجّة فی الفقه یشکل الإدراج؛ لأنّه بحث عن الوجوب واللاوجوب، لا عن تعیّنات الحجّة واللاحجّة کما لایخفیٰ، ولاسیّما علیٰ ما فسّروا الحجّة: «من أنّها هی الحجّة بالحمل الأوّلی فقط».
أقول: لو سلّمنا جمیع هذه المقدّمات، فلا نسلّم کونها من المبادئ الأحکامیّة؛ ضرورة أنّ البحث فی هذه المسألة یدور مدار إمکان انحفاظ الإرادتین فی المجمع وعدمه، وهذا لیس من البحث عن الملازمات العقلیّة المستکشف بها الحکم الشرعیّ.
نعم، إن قلنا: بأنّ المقصود أعمّ من المبادئ المنتهیة إلیٰ کشف الحکم الشرعیّ، ومن المبادئ المنتهیة إلیٰ إمکان حفظ الحکم الشرعیّ علیٰ موضوعه، فهو وجیه، إلاّ أنّ لازمه خروج مباحث الظنّ والشکّ عن مسائل العلم؛ لما یبحث فیها عن الإمکان المزبور، فإنّ شبهات ابن قبة ترجع إلیٰ امتناع المحافظة علی الأحکام الواقعیّة فی مرتبة الأحکام الظاهریّة، فهذه المسألة خارجة عن المبادئ الأحکامیّة بالضرورة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 129
الرابع: أنّها من المبادئ التصدیقیّة لعلم الاُصول؛ وذلک لأنّ البحث فی هذه المسألة صغرویّ، ویرجع إلیٰ أنّ عند القول بالامتناع یندرج موضعها فی کبریٰ مسألة التعارض، وعلی القول بالاجتماع یندرج فی کبریٰ مسألة التزاحم، وبالانضام إلی الکبریین المزبورتین تنتج النتیجة الفقهیّة.
ومن العجیب أنّ تلمیذ العلاّمة النائینی ـ عفی عنهما ، اعترض علیه بما هو أجنبیّ عن فصوص کلامه!!
والذی یتوجّه إلیه: أنّ المبادئ التصدیقیّة فی کلّ علم عبارة عن الأدلّة الناهضة علیٰ إثبات الاتحاد بین المحمول والموضوع المعنون علیٰ سبیل التردّد فی أصل العلم.
مثلاً: یعنون فی العلم أنّ الدور مستحیل بذاته، أم لا، فمن یدّعی استحالته الذاتیّة یقیم علیه البرهان، وهو من المبادئ التصدیقیّة، ومن ینکره یقیم أیضاً البرهان علیٰ عدم استحالته الذاتیّة، وهذا البرهان یعدّ من تلک المبادئ.
وأمّا فی المقام فالبحث أجنبیّ عن المبادئ التصدیقیّة، بل هو راجع إلی الفحص عن وجود الموضوع للمسألة الاُصولیّة؛ بناءً علیٰ صغرویّة النزاع، وتکون أشبه بالمبادئ التصوّریة والأدلّة الناهضة علیٰ إثبات هذا الموضوع، لا تعدّ من المبادئ التصدیقیّة للعلم.
وبالجملة: هذه المسألة خارجة عن المبادئ التصوّریة أیضاً، وتکون من قبیل البحوث عن أصالة الوجود فی العلم الأعلیٰ، مع أنّ موضوعه الوجود، وإثبات موضوع العلم فی ذلک العلم لیس من مسائل العلم، ولا من المبادئ التصوّریة، ولا التصدیقیّة، کما تقرّر منّا فی «قواعدنا الحکمیّة» ولذلک أنکرنا فیها کونه موضوعاً،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 130
وجعلنا الموضوع عنوانا قابلاً للانطباق علی الوجود والماهیّة؛ حتّیٰ یکون البحث عن الوجود والماهیّة وأصالتهما، من عوارضه وتبعاته.
الخامس: أنّها من المسائل الاُصولیّة، وعلیٰ ذلک أکثر المتأخّرین، ومنهم الوالد المحقّق ـ مدّظلّه وذلک لوقوعها فی طریق استنباط الحکم الفرعیّ، مثلاً إذا شکّ فی أنّ الصلاة فی المغصوبة صحیحة أم لا، فهی مسألة فقهیّة، فإن کان الجواز ممکناً نحکم بالصحّة، وإلاّ فنحکم بالفساد.
وتوهّم: أنّ المسألة الاُصولیّة لا یعتبر فیها کونها فی طریق الاستنباط بطرفیها، فی محلّه، إلاّ أنّ هذه المسألة یقع الطرفان فی طریقه؛ ضرورة أنّ القول بالفساد من المسائل الفقهیّة، وتترتّب علیه الآثار الشرعیّة، ومستنده الامتناع، والقول بالصحّة مثله.
بل قلّما یتّفق ذلک حتّیٰ فی مثل حجّیة الخبر الواحد والظواهر، فإنّ للفقیه الفتویٰ بعدم الوجوب أو بالوجوب مستنداً إلیٰ عدم حجّیة الخبر الواحد، أو عدم حجّیة الظواهر، فلا تخلط وتأمّل.
أقول: المشهور عنهم «أنّ مسائل الاُصول هی الکبریات الواقعة فی طریق الاستنتاج» ولو کان هذا حقّا لما کانت هذه المسألة منها؛ لعدم وقوعها کبریٰ قیاس الاستنباط.
مثلاً: یقال: «قول زرارة حجّة؛ لأنّه خبر واحد، والخبر الواحد حجّة، فقوله حجّة» وهکذا، وأمّا فیما نحن فیه فلا تنطبق المسألة علیٰ المسألة الفقهیّة وهی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 131
صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة.
نعم، قد مرّ منّا فی تعریف علم الاُصول: أنّه الحجّة علیٰ المسائل الفقهیّة من غیر لزوم کونها کبریٰ، بل لابدّ من کونها ممّا یصحّ الاستناد إلیها لإثبات المحمول فی القضیّة الفقهیّة؛ سواء کانت بالتوسیط، أو بالانطباق.
وتوهّم: أنّها تتقیّد بعدم الانطباق، فیغیر محلّه؛ لأنّ کثیراً منها تنطبق علی المسألة الفقهیّة، وتقع کبری الاستنباط والقیاس، وقد مضیٰ الفرق بین الکبریات الاُصولیّة والقواعد الفقهیّة بما لایقتضی الالتزام بالتقیید المزبور، فراجع وتدبّر.
فعلیٰ هذا، تکون هذه المسألة من المسائل الاُصولیّة علیٰ تعریفنا، لا علیٰ تعریف القوم؛ ضرورة أنّ الفقیه بعد الإفتاء بالصحّة یستند إلیٰ إمکان الاجتماع، وإذا أفتیٰ بالفساد یستند إلیٰ امتناعه.
والذیهو الحقّ: أنّ علم الاُصول لیس من العلوم الحقیقیّة المخصوصة بالأحکام الخاصّة، والمحصورة بالقیود والموازین العلمیّة المحرّرة فی علم المیزان، ولا من العلوم المتعلّقة بالأعیان الخارجیة تعلّقاً طبیعیّاً کالریاضیّات، بل هو من العلوم الاعتباریّة المدوّنة لحال البشر بعد الاجتماع، ولنظام الاُمّة بعد الحضارة والتمدّن، فلا ینتظر منها الانتظامات الخاصّة المعتبرة فی سائر العلوم، ولذلک أنکر بعض أربابه وجود الموضوع له رأساً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 132
وإنّی وإن بحثت عن ذلک فی أوائل الکتاب، وبادرت إلیٰ تعیین الموضوع له کسائر العلوم، ولکنّ الإنصاف أنّها مباحث متشتّتة یجمعها الغرض الوحدانیّ؛ وهو الفرار من التکرار اللازم فی الفقه، ولتوسعة مباحثه ومطالبه دُوّن فی محلّ آخر، وإلاّ کان القدماء یتّکلون علیٰ جلّ هذه المسائل فی الفقه، فلو کان هو علماً آخر وراء الأدلّة علی المسائل الفقهیّة، لما کان وجه للخلط المزبور، فهو فی الحقیقة عبارة عن المبادئ التصدیقیة لمسألة فقهیّة، ومحلّ المبادئ التصدیقیّة هو العلم الذی یستدلّ بها فیه، ولا محلّ آخر له یختصّ به، فتأمّل.
وعلیٰ کلّ تقدیر: الأمر سهل، والمقصود واضح، والإطالة من اللغو المنهیّ عنه، والله الهادی والمعتصَم.
ذنـابـة
قد تبیّن ممّا سلف: أنّ هذه المسالة عقلیّة محضة، ولیست لفظیّة، ولا مشترکة؛ ضرورة أنّ مناط المسألة العقلیّة هو کون البحث حول درک العقل وعدم درکه، من غیر کون الکلام حول الدلالات اللفظیّة، ومنه تبیّن مناط المسألة اللفظیّة.
وإذا تبیّن ذلک فاعلم: أنّ مسائل الاُصول بین ما تکون لفظیّة، کالبحث عن دلالة الأمر علیٰ کذا، والنهی علیٰ کذا، وعدمها، وما تکون عقلیّة ولفظیّة، کالبحث عن أنّ الأمر بالشی یقتضی حرمة ضدّه، فإنّه ربّما یستدلّ باللفظ والدلالات اللفظیّة، وربّما یستدلّ بالعقل، وما تکون عقلیّة صِرْفة، ولعلّ منها مسألة وجوب المقدّمة.
وأمّا مسألتنا هذه فهی منها بلا إشکال؛ لعدم الاستدلال فیها علیٰ دلالة الأمر، أو النهی، أو الشیء الآخر علیٰ إمکان الاجتماع واللا إمکانه. والاستشهاد ببعض
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 133
المسائل الشرعیّة والأخبار الآتیة، لا یورث کونها أعمّ؛ لأنّها تکون مؤیّدة لدرک العقل، ولا یستدلّ بها استقلالاً.
بل لو کان یستدلّ بها، فهو أیضاً لا یوجب کون المسألة لفظیّة، أفما تریٰ أنّه یستدلّ علیٰ حجّیة الاستصحاب بالأخبار، مع أنّ المسألة عقلیّة.
وبالجملة: مع قیام الدلیل العقلیّ علی الإمکان أو علی الامتناع، فهو المتّبع دون غیره.
نعم، إذا لم یثبت الإمکان ولا الامتناع، واقتضیٰ فرضاً بعض الأخبار جواز الاجتماع، فیتعبّد به من غیر إمکان إحراز الإمکان المقابل للامتناع کما تحرّر فی أوائل مباحث الظنّ ولایعدّ أیضاً من الاستدلال علی المسألة بالدلیل اللفظیّ، فتأمّل.
ومن العجیب ما یستظهر من «الکفایة» وغیره من توّهم: أنّ المسألة لیست عقلیّة، وتوهّم أنّ عنوان المسألة حیث یکون «إجتماع الأمر والنهی ولا اجتماعه» وهو غالبیّ، یورث الخروج عن لفظیّة المسألة!!
وأنت تعلم: بأنّ الأمر والنهی متقوّمان بالإنشاء، والإنشاء المقصود فی المقام هو الإنشاء ذو الإطلاق، فلابدّ من کون الأمر والنهی مورد البحث والکلام، ولکنّه لایستلزم لفظیّة المسألة؛ لما تحرّر. والمساس مع اللفظ لا یورث اللفظیّة، کما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 134
هو الواضح.
ومن العجیب توهّم: أنّ المراد من «الأمر والنهی» لمّا کان أعمّ من الثابت بالکتاب والسنّة، فیکون البحث عقلیّاً، مع أنّ الإجماع والعقل ـ کالکتاب والسنّة یکشفان عن الأمر والنهی، ولایکون وراء الأمر والنهی شیء.
وبعبارة اُخریٰ: لا وجود ثبوتیّ للأمر والنهی، بل الأمر والنهی تحقّقهما إثباتیّ وإظهاریّ، ولا شأن آخر لهما.
نعم، للعقل کشف بغض المولیٰ متعلّقاً بالغصب، وحبِّ المولیٰ متعلّقاً بالصلاة، ولو کان یستکشف إطلاقهما فیأتی النزاع؛ وهو إمکان اجتماع الحبّ والبغض فی المجمع واستحالته.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 135