المقصد الثالث فی النواهی

المقدّمة الخامسة : حول توهّمات فی مبنیٰ مسألة الاجتماع والامتناع

المقدّمة الخامسة : حول توهّمات فی مبنیٰ مسألة الاجتماع والامتناع

‏ ‏

وهی کثیرة :

‏ ‏

التوهّم الأوّل :

‏ ‏

‏قد یتوهّم أنّ النزاع موقوف علی القول: بأنّ الأوامر والنواهی تعلّقت‏‎ ‎‏بالطبائع، وأمّا إذا کانت متعلّقة بالأفراد، فلابدّ من الالتزام بالامتناع، وحیث إنّ‏‎ ‎‏التحقیق تعلّق النهی بالأفراد وإن کان الأمر متعلّقاً بالطبیعة ـ لما تقرّر من أنّ النهی‏‎ ‎‏المتعلّق بالطبیعة، ینحلّ إلی النواهی لا یحکم العقلاء بتعدّد الامتثال والعصیان، وهو‏‎ ‎‏لا یعقل مع وحدة النهی، ولا یعقل تعدّد النهی مع وحده المتعلّق، فلابدّ وأن تنحلّ‏‎ ‎‏الطبیعة إلی الأفراد، وتکون مرآةً لها، فیسقط نزاع الامتناع والاجتماع.‏

فبالجملة:‏ مع الالتزام بتعلّقهما بالطبائع، یمکن النزاع فی أنّ الطبائع المتّحدة‏‎ ‎‏وجوداً المختلفة وجوهاً، هل یعقل أن تکون مورد الأمر والنهی؛ لاختلاف الوجوه‏‎ ‎‏والعناوین، أم لا؟.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 158
‏ومع الالتزام بتعلّقهما بالأفراد، أو تعلّق أحدهما بها کالنهی مثلاً، لا معنیٰ‏‎ ‎‏للنزاع؛ ضرورة أنّ معنیٰ تعلّق الأمر بالأفراد، لیس هو أنّ متعلّق الأمر عنوان الفرد؛‏‎ ‎‏لأنّه لأجل ما یری من أنّ الطبیعة لیست قابلة لتعلّق شیء بها؛ لعدم کونها مطلوبةً‏‎ ‎‏ولا مبغوضةً توهّم تعلّقهما بالأفراد، فلو کان مرامه تعلّقه بعناوین الأفراد، فیلزم علیه‏‎ ‎‏ما کان یفرّ منه بوجه أسوأ، کما هو الظاهر.‏

‏ولا أنّ الأوامر والنواهی تتعلّق بالخارج بالحمل الشائع، حتّیٰ یقال: إنّه ظرف‏‎ ‎‏السقوط، لا الثبوت والتعلّق.‏

‏بل القائل بتلک المقالة، یرید أنّ متعلّقهما الطبائع المقارنة مع المشخّصات‏‎ ‎‏وأمارات التشخّص، وما به ظهور آثارها وخواصّها فانیة فی الخارج؛ بمعنیٰ أنّها‏‎ ‎‏مرآة لما هو المطلوب بالذات وإن کان مورد الأمر مطلوباً بالعرض، وهکذا مورد‏‎ ‎‏النهی مبغوض بالعرض، وما هو مبغوض بالذات هو شرب الخمر خارجاً، فعند ذلک‏‎ ‎‏یلزم اتحاد المتعلّق ووحدة مصبّ الأمر والنهی؛ ولو کان من ناحیة واحدة: وهی من‏‎ ‎‏جانب النهی لانحلاله، فضلاً عمّا إذا کان من الطرفین، فإنّه عندئذٍ یلزم وحدة‏‎ ‎‏المتعلّقین من جانبین.‏

‏وهنا تقریب آخر لسقوط النزاع: وهو أنّ قید المندوحة معتبر فی صحّة‏‎ ‎‏النزاع، وعلی القول بتعلّقهما بالأفراد لا معنیٰ لاعتبار المندوحة، فیسقط النزاع.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال: بأن قیدیّة المندوحة محلّ المناقشة والمنع، کما سیمرّ علیک‏‎ ‎‏تفصیله إن شاء الله تعالیٰ‏‎[1]‎‏.‏

أقول:‏ الأصحاب المتأخّرون هنا بین طائفتین، فإنّ السیّد الوالد ـ مدّظلّه ‏‎ ‎‏أفاد: «أنّه عند ذلک یلزم الخروج عن محلّ النزاع؛ فإنّ ما هو محلّ النزاع هو ما إذا‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 159
‏کان متعلّق الأمر والنهی کثیراً ومتّحداً مجمعاً»‏‎[2]‎‏ وسائر المشایخ ـ رحمهم الله تعالیٰ ‏‎ ‎‏أفادوا : أنّ المبنی فاسد؛ ضرورة أنّ الأوامر والنواهی لا تتعلّق إلاّ بالطبائع أو الأفراد‏‎ ‎‏الذاتیّة، دون الملازمات واللوازم الخارجیّة.‏

وأنت خبیر:‏ بأنّ ما أفاده ـ دام ظلّه لیس إشکالاً علیهم، فإنّهم لأجل لزوم‏‎ ‎‏توحّد المتعلّق قالوا: بأنّ المسألة مبنیّة علی القول المزبور، فعدم تأتّی النزاع علیٰ‏‎ ‎‏مبناهم ـ وهو تعلّقها بالأفراد لا یکون إلاّ لعلّة؛ وهی رجوع الأمر والنهی إلی الواحد‏‎ ‎‏فی مرکز الجعل والتقنین. وما أفاده أیضاً لیس إلاّ إنکار الکبری المحرّرة عندهم،‏‎ ‎‏فکأنّهم قائلون بصحّة مقالتهم علیٰ مبناهم.‏

‏وهنا طائفة اُخریٰ مثل العلاّمة الخراسانیّ‏‎[3]‎‏ وبعض آخر‏‎[4]‎‏، لم یقفوا علیٰ‏‎ ‎‏مبنیٰ تعلّق الأمر والنهی بالأفراد، ولو کانوا واقفین علیٰ مرامهم لما قالوا بکفایة تعدّد‏‎ ‎‏الوجه؛ ضرورة أنّ أرباب تلک المقالة اختاروا أنّ جمیع وجوه الشیء تندرج فی‏‎ ‎‏مصبّ الأمر والنهی، فلا ینفع تعدّد الوجه شیئاً.‏

وإن شئت قلت:‏ تعلّق الأمر والنهی بالأفراد ذو وجوه واحتمالات؛ ومنها کون‏‎ ‎‏الطبیعة بما لها من الملازمات واللوازم فی وجودها الخارجیّ، مورد الأمر والنهی،‏‎ ‎‏فیکون المأمور به والمنهیّ عنه الکلّی المقیّد.‏

‏بل لا معنیٰ لتعلّق الأمر والنهی بالأفراد الذاتیّة؛ لأنّ الفرد لا یکون فرداً إلاّ‏‎ ‎‏لأجل الضمائم المقولیّة، وجعل إحدی الحیثیّات مورد الأمر أو النهی، معناه کون‏‎ ‎‏الطبیعة موردهما.‏

مثلاً:‏ إذا قال المولیٰ: «أکرم العلماء» فتعلّق الأمر بإکرام زید العالم لا معنیٰ‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 160
‏له؛ لأنّ مع تعلّقه بزید یکون جمیع الضمائم ـ سواء کانت من المشخّصات، أو‏‎ ‎‏أمارات التشخصّ موردَ الأمر، ولا یکون العلم حینئذٍ إلاّ حیثیّة تعلیلیّة. وکونها‏‎ ‎‏حیثیّة تقیدیّة معناه إنکار کون زید متعلّق الأمر رأساً، ویرجع حینئذٍ إلیٰ أن یکون‏‎ ‎‏الموضوع هو العالم مأخوذاً فیه الذات المبهمة؛ بناءً علیٰ أخذ الذات فی المشتقّ،‏‎ ‎‏وإلاّ فلا تعلّق له بذات لا مبهمة، ولا مشخّصة.‏

‏فعلیٰ هذا، کون الأفراد متعلّقهما لا یرجع إلاّ إلیٰ ما ذکرناه؛ حتّیٰ لا یلزم‏‎ ‎‏المفاسد الواضحة علی القول به.‏

‏ ‏

أقول : هنا بحوث :

أوّلها :‏ من الممکن دعویٰ: أنّ قضیّة القول بتعلّقهما بالطبائع، هو الاجتماع‏‎ ‎‏من غیر وجه للخلاف؛ ضرورة أنّ کلّ واحد من المأمور به والمنهیّ عنه، غیر معانق‏‎ ‎‏فی إحدی المراحل؛ لافی مراحل التصوّر والتصدیق، ولا فی مراحل البعث والزجر‏‎ ‎‏والتقنین، ولا فی مراحل الامتثال والخارج.‏

‏ولا معنیٰ لترکیبهما الاتحادیّ؛ لأجنبیّة هذه المسألة عن الترکیب الاتحادیّ‏‎ ‎‏والانضمامیّ. ولا معنیٰ لسرایة أحدهما إلی الآخر؛ بعد اختلافهما وعدم تعانقهما فی‏‎ ‎‏مرحلة من المراحل.‏

‏ومقتضی القول بتعلّقهما بالأفراد هو النزاع فی الاجتماع والامتناع؛ فإنّ من‏‎ ‎‏الممکن أن یدّعیٰ أنّ معنیٰ تعلّقهما بالأفراد، لیس إلاّ تعلّق الأمر والنهی بحصّة من‏‎ ‎‏الکلّی؛ من غیر کون مابه الحصص داخلاً فی المتعلّق، فتکون هذه الحصّة ذات‏‎ ‎‏وجوه وعناوین‏‎[5]‎‏.‏

ولکنّ الإنصاف:‏ أنّ النزاع باقٍ علیٰ حاله وإن قلنا بتعلّقهما بالطبائع؛ لما‏‎ ‎‏عرفت أنّ أساس البحث فی مسألة الاجتماع والامتناع، حول أنّ التحفّظ علی‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 161
‏الإرادتین فی المجمع مع کون المتعلّقین متلازمین فی الخارج من باب الاتفاق،‏‎ ‎‏ممکن أم لا‏‎[6]‎‏، فلاتخلط، ولاتغفل.‏

ثانیها :‏ أنّ معنیٰ تعلّق الأمر والنهی بالأفراد وإن کان تعلّقهما بالملازمات‏‎ ‎‏واللوازم المقارنة مع الکلّی والطبیعة، ولکن لیس یرجع ذلک إلیٰ تعلّقهما بعناوین‏‎ ‎‏«الصلاة» و«الغصب» بل یرجع إلیٰ تعلّقهما بمعنونات هذه العناوین التی تنتزع من‏‎ ‎‏تلک الطبائع بعد وجودها فی الخارج.‏

مثلاً:‏ إذا أمر المولیٰ بالصلاة فلا یکون أمر الصلاة مراعی بحال المصلّی؛ فإن‏‎ ‎‏صلّیٰ فی الغصب تکون الصلاة الغصبیّة مورد الأمر، وإن صلّیٰ فی المباح تکون‏‎ ‎‏الصلاة المباحة مورد الأمر، بل الصلاه مورد الأمر بملازماتها الخارجیّة الاتفاقیّة،‏‎ ‎‏ولکن لا بعناوینها الخاصّة، بل بالمعنی الجامع، مثل عنوان الأین، والمتیٰ، والوضع‏‎ ‎‏الکلّیات.‏

‏مع أنّه یمکن أن یقال: بأنّ الالتزام بتعلّقهما بتلک العناوین الخاصّة فی جانب‏‎ ‎‏الأمر، غیر ممکن؛ لأنّه یلزم وجوب استیعاب جمیع الأفراد، وتکون الصلاة الغصبیّة‏‎ ‎‏والمباحة واجبة، مع أنّ الواجبة واحدة علی البدل.‏

‏نعم، یمکن دعویٰ: أنّ تعلّقهما بالأفراد یلازم العموم البدلیّ فی جانب الأمر،‏‎ ‎‏ویکون التخییر شرعیّاً، والعمومَ الاستیعابیّ فی جانب النهی، فلا مانع من تعلّقهما‏‎ ‎‏بتلک العناوین بعنوانها، فیلزم وحدة المتعلّق أیضاً، فیسقط النزاع فتأمّل.‏

ثالثها :‏ أنّ قضیّة تعلّق الأمر والنهی بالأفراد، کون الواجب هی الصلاة‏‎ ‎‏المتقیّدة بالعناوین الملازمة، ومنها الغصب، وکون المحرّم هو الغصب الکذائیّ المتقیّد‏‎ ‎‏بالعناوین الملازم معها، ومنها عنوان الصلاة، فیکون الواجب الصلاة الغصبیّة،‏‎ ‎‏والمحرّم الغصب الصلاتیّ.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 162
‏ولایلازم ذلک وحدة المتعلّق؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالصلاة المتقیّدة یکون قیدها‏‎ ‎‏مورد الأمر الضمنیّ أو الغیریّ، وکلاهما بلا أساس‏‎[7]‎‏، والنهی المتعلّق بالغصب‏‎ ‎‏الصلاتیّ یکون القید مورد النهی الضمنیّ أو الغیریّ، فلا یلزم وحدة المتعلّق، ولا‏‎ ‎‏الاندراج فی کبریٰ باب التعارض بالضرورة.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال: قد فرغنا فیماسلف من أنّ وحدة المتعلّق بما هی وحدة‏‎ ‎‏متعلّق الأمر والنهی، لا تکون محالاً، بل بالذات المحالیّة ناشئة من الجهة الاُخریٰ؛‏‎ ‎‏وهی امتناع ترشّح الإرادتین الآمرة والزاجرة مع وحدته، وإذا کانت النسبة بین‏‎ ‎‏المتعلّقین التلازم ولو لأجل جزء المتعلّق، فلا یمکن ترشّحها کما هو الواضح‏‎[8]‎‏.‏

رابعها :‏ من الممکن أن یدّعی القائل بتعلّقهما بالطبائع؛ أنّ الأوامر والنواهی‏‎ ‎‏فی مرحلة الجعل والتقنین متعلّقات بالطبائع، وفی مرحلة الامتثال تسری إلی‏‎ ‎‏الملازمات، وتصیر النتیجة سقوط النزاع أیضاً.‏

‏ویؤیّد ذلک وجوب إتمام الحجّ بعد الشروع فیه، مع أنّه مستحبّ، وحرمة‏‎ ‎‏إبطال الصلاة، فإّنه لولا تعیّن الزمان والمکان بالأمر المتعلّق بالطبیعة، لما کان وجه‏‎ ‎‏لحرمة الإبطال ولإیجاب الإتمام علیٰ خلاف التخییر العقلیّ والشرعیّ الثابت بأصل‏‎ ‎‏الشرع فی الحجّ، فتأمّل.‏

‏فالمحصول ممّا قدّمناه إلیٰ هنا: أنّ فیما فرضناه من تعلّق الأمر والنهی‏‎ ‎‏بالأفراد من الأوّل أو فی ظرف الامتثال، لا یلزم وحدة المتعلّق مع لزوم سقوط‏‎ ‎‏النزاع.‏

‏والذی یسهّل الخطب: أنّ القائل بتعلّقهما بالأفراد لایقول بما سلّمناه؛ للزوم‏‎ ‎‏کون التخییر شرعیّاً، مع سائر الدعاوی الباطلة المخالفة للوجدان، ولایلتزم‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 163
‏بالتفکیک بین متعلّق الأمر والنهی فی هذه الجهة؛ وهی سرایة النهی إلی الملازمات‏‎ ‎‏دون الأمر، فتدبّر.‏

‏ ‏

التوهّم الثانی :

‏ ‏

‏قد یتوهّم أنّ القول بالاجتماع، منوط بالقول بأنّ الأوامر والنواهی متعلّقة‏‎ ‎‏بالطبائع، والقول بالامتناع منوط بتعلّقهما بالأفراد‏‎[9]‎‏.‏

‏وأنت قد أحطت خبراً بخلاف ذلک؛ ضرورة أنّ مع تعلّقهما بالطبائع، وعدم‏‎ ‎‏تداخلهما فی جمیع الأوعیة، یمکن القول بالامتناع؛ لما یمکن دعویٰ: أنّ هذه‏‎ ‎‏الملازمة الاتفاقیّة، تمنع عن بقاء الإرادتین علیٰ قوّتهما.‏

‏نعم، إن کان ملاک النزاع ومناط الخلاف هی السرایة واللاسرایة، أو هو‏‎ ‎‏الترکیب الاتحادیّ والانضمامیّ، فلقائل أن یقول: بأنّ القول بتعلّقهما بالطبائع معناه‏‎ ‎‏عدم السرایة فی جمیع الأوعیة، ومع السرایة فی وعاء من الأوعیة یکون المتعلّق هو‏‎ ‎‏الفرد، ویکون الترکیب اتحادیّاً، ویتعیّن الامتناع، فالاجتماع منوط علی الأوّل،‏‎ ‎‏والامتناع علی الثانی، وحیث إنّ المعروف بین أبناء الاُصول ذلک، فلابدّ من تصحیح‏‎ ‎‏الدعوی المزبورة، فتأمّل جیّداً.‏

وبالجملة:‏ لا یذهب إلی الامتناع إلاّ من سلک سبیل الترکیب الاتحادیّ‏‎ ‎‏والسرایة، ولا معنیٰ لذلک إلاّ برجوع الأمر بالطبیعة إلی الأفراد فی الخارج الذی هو‏‎ ‎‏ظرف السقوط لا الثبوت، فانظر ماذا تریٰ.‏

‏ومن العجب ما قیل: «من أنّ التوهّم المزبور بلا وجه رأساً؛ لأنّ الفرق بین‏‎ ‎‏کون المتعلّق نفس المقولة أو فرداً منها، لا یورث إشکالاً فی مسألة الاجتماع‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 164
‏والامتناع»!!‏‎[10]‎‏ وأنت قد عرفت: أنّ القائل بالفرد لا یرید الأفراد الذاتیّة والحصص‏‎ ‎‏الممتازة‏‎[11]‎‏، فلاتخلط.‏

‏ ‏

التوهّم الثالث :

‏ ‏

‏ما مرّ فی ذیل البحث الأوّل من توهّم تعیّن القول بالاجتماع، وسقوط النزاع‏‎ ‎‏علی القول بتعلّق الأوامر والنواهی بالطبائع، وأمّا النزاع الصحیح فهو مبنیّ علی‏‎ ‎‏القول بتعلّقهما بالأفراد.‏

‏وقد أحطت خبراً بفساد هذا التوهّم أیضاً؛ لإمکان جریان النزاع علی الأوّل‏‎ ‎‏أیضاً، کما أمکن توهّم سقوط النزاع وتعیّن الامتناع وإن قلنا بتعلّقهما بالطبائع؛ لأنّ‏‎ ‎‏من الممکن توهّم التفصیل بین مرحلة الجعل والتقنین، ومرحلة الامتثال والخارج‏‎ ‎‏من غیر لزوم إشکال عقلیّ: وهو أنّ الخارج ظرف السقوط، فکیف یعقل ذلک؟! وقد‏‎ ‎‏مضیٰ کیفیّة تصویره فی المأمور به الذی یکون تدریجیّ الوجود، کالصلاة والحجّ.‏

‏ ‏

التوهّم الرابع :

‏ ‏

‏ربّما یتراءیٰ أنّ قضیّة القول بأصالة الوجود جعلاً صحّة النزاع؛ لإمکان‏‎ ‎‏الوجوه المتعدّدة والعناوین الکثیرة مع وحدة المعنون خارجاً المتعدّد حیثیةً،‏‎ ‎‏ومقتضی القول بأصالة الماهیّة جعلاً سقوط النزاع، وتعیّن القول بالاجتماع؛‏‎ ‎‏لأجنبیّة الماهیّات بعضها عن بعض وتباینها فیالخارج، فإنّ جامع الماهیّات‏‎ ‎‏والمقولات المتعدّدة هو الوجود، وإلاّ فهی بأنفسها متباینات ذهناً وخارجاً، ویتوهّم‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 165
‏اتّحادها عرفاً‏‎[12]‎‏.‏

أقول:‏ نعم، إلاّ أنّ ذلک فی مثل ما إذا کان متعلّق الأمر والنهی المقولات‏‎ ‎‏الحقیقیّة لا الاعتباریّة المجازیّة، کالصلاة، والتصرّف فی مال الغیر، فإنّ إمکان انتزاع‏‎ ‎‏مفهوم «التصرّف فی ملک الغیر» من نفس المقولة المتعلّقة للأمر، یصحّح النزاع،‏‎ ‎‏فضلاً عمّا إذا کان منشأ انتزاع مفهوم «التصرّف» ما لا یندرج تحت المقولة، کما‏‎ ‎‏نحن فیه، فما یظهر من بعض فی المقام‏‎[13]‎‏ لا یخلو من تأسّف تامّ.‏

‏ویؤیّد ذلک: أنّ الجمع بإیجادٍ واحد وجعل فارد یصیر خارجیّاً، ولو کان‏‎ ‎‏متعلّق الأمر والنهی من المقولتین، فلابدّ من اختصاص کلٍّ بجعل علیٰ حِدة، وإذن‏‎ ‎‏یخرج من محلّ النزاع، کما هو الواضح.‏

‏ ‏

التوهّم الخامس :

‏ ‏

‏لا شبهة فی أنّ من شرائط النزاع فی هذه المسألة، فرض ثبوت الإطلاق لکلّ‏‎ ‎‏واحد من الدلیلین، کما یأتی تفصیله فی المقدّمة المتکفّلة لشرائط النزاع‏‎[14]‎‏.‏

‏ومع إنکار الإطلاق لا یبقیٰ محلّ للبحث حول إمکان التحفّظ علی الإرادتین:‏‎ ‎‏الآمرة والزاجرة فی المجمع، وعدم إمکانه؛ فإنّ مبنیٰ ذلک هو اقتضاء کلّ من الأمر‏‎ ‎‏والنهی مع قطع النظر عن الآخر فی مورد الاجتماع للمأمور به والمنهیّ عنه،‏‎ ‎‏وللباعثیّة والزاجریّة بالنسبة إلیٰ متعلّقاتهما. وأمّا إحراز المحبوبیّة والمبغوضیّة‏‎ ‎‏بالنسبة إلیٰ خصوص المجمع إحرازاً عامّاً أو خاصّاً، فهو غیر لازم.‏

‏نعم، قضیّة الإطلاقین علیٰ تقدیر الاجتماع، إحراز المحبوبیّة والمبغوضیّة فی‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 166
‏المجمع إحرازاً ظنّیاً؛ قضاءً لحقّ شمول الدلیل الملازم لوصف المحبوبیّة‏‎ ‎‏والمبغوضیّة بناءً علیٰ إمکانه.‏

‏فاعتبار إحرازهما مع قطع النظر عن الأمر والنهی وإطلاقهما، غیر صحیح،‏‎ ‎‏ولا معنیٰ محصّل له، وهکذا إحراز الملاک والمصلحة والمفسدة، فما نسب إلیٰ ظاهر‏‎ ‎‏«الکفایة»‏‎[15]‎‏ وتبعه الآخرون‏‎[16]‎‏، غیر ملائم لاُفق التحقیق، وغیر مناسب لشأن‏‎ ‎‏الباحث الخبیر.‏

‏نعم، یترتّب علیٰ ثبوت الإطلاقین علی القول بالاجتماع، إحراز الملاک‏‎ ‎‏والمصالح والمفاسد فی المجمع، ولذلک عدّ ذلک من إشکالات القول بالاجتماع؛‏‎ ‎‏وأنّ الشیء الواحد یلزم أن یکون محبوباً ومبغوضاً، وموردَ المصلحة والمفسدة،‏‎ ‎‏فجمیع ما أفاده العلاّمة الخراسانیّ ‏‏رحمه الله‏‏ فی المقدّمة الثامنة والتاسعة‏‎[17]‎‏، خالٍ من‏‎ ‎‏التحصیل، ولا ینبغی الغور فیه.‏

وإن شئت قلت:‏ إن کان النزاع حسب المعروف صغرویّاً، فهذه المسألة متکفّلة‏‎ ‎‏لإحراز صغریٰ باب التعارض والتزاحم، فإنّه علیٰ الامتناع یلزم العلم بکذب‏‎ ‎‏أحدهما، ویقع التعارض بالعرض بین الإطلاقین.‏

‏وعلی الاجتماع، فمع إمکان الجمع فلا یکون من باب التزاحم حسب‏‎ ‎‏المعروف‏‎[18]‎‏، خلافاً للتحقیق الذی مضیٰ منّا: وهو أنّ التزاحم لا یتوقّف علیٰ عدم‏‎ ‎‏إمکان الجمع فی مقام الامتثال‏‎[19]‎‏.‏

‏ومع عدم إمکان الجمع فهو من التزاحم، ولیس من هذه المسألة إلاّ علی‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 167
‏القول بعدم اعتبار المندوحة فی مسألة الاجتماع والامتناع، وستأتی زیادة توضیح‏‎ ‎‏حول هذه الجهة فی بعض البحوث الآتیة إن شاء الله تعالیٰ‏‎[20]‎‏.‏

فبالجملة:‏ بناءً علیٰ صغرویّة النزاع، لا معنیٰ لاعتبار إحراز المصالح‏‎ ‎‏والمفاسد فی الجانبین؛ ضرورة أنّ النزاع متکفّل لتعیین الصغریٰ من البابین، علیٰ‏‎ ‎‏إشکال اُشیر إلیه.‏

‏وأمّا إذا کان النزاع کبرویّاً فالأمر أیضاً کذلک، ولعلّ العلاّمة الخراسانیّ ‏‏رحمه الله‏‎ ‎‏أراد هنا ما أسمعناک، والأمر سهل.‏

وغیر خفیّ:‏ أنّ النزاع لا یلزم أن یکون صحیحاً علیٰ جمیع المذاهب، فإنّ‏‎ ‎‏الأشعری ـ بناءً علیٰ قوله بصحّة الجزاف فی الأمر والنهی الإلهیّین لا یفرّ من القول‏‎ ‎‏بالامتناع مطلقاً، کمامرّ تفصیله فیما سبق‏‎[21]‎‏، فلا تکن من الجاهلین.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 168

  • )) یأتی فی الصفحة 177.
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 381 ـ 382 .
  • )) کفایة الاُصول : 188 .
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 149 .
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 4 : 15 ـ 16.
  • )) تقدّم فی الصفحة 146 ـ 147 و 150 ـ 151 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثالث : 25 ـ 27 و 202 و 270 ـ 271 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 146 ـ 147 و150 ـ 151 و 157 .
  • )) أجودالتقریرات 1:343، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی)الکاظمی2: 416 ـ417.
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 4 : 194 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 158 ـ 161 .
  • )) لاحظ الفصول الغرویة: 125 / السطر 14، و126 / السطر 1.
  • )) نهایة النهایة 1: 224.
  • )) یأتی فی الصفحة 174 .
  • )) کفایة الاُصول : 189 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری: 154، نهایة الأفکار 2 : 436، وقایة الأذهان: 334.
  • )) کفایة الاُصول : 189 ـ 190 .
  • )) منتهی الاُصول 1 : 323، محاضرات فی اُصول الفقه 3 : 227 ـ 228، و4: 174 ـ 175.
  • )) تقدّم فی الجزء الثالث : 400 ـ 402 .
  • )) یأتی فی الصفحة 195 ـ 196 و219 ـ 221 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 114 .