المقصد الثالث فی النواهی

تمحیص الاستدلالات السابقة

تمحیص الاستدلالات السابقة

‏ ‏

أقول:‏ إنّ الذی هو المحرّر منّا فی محلّه؛ أنّ معروض الوجوب الغیریّ لیس‏‎ ‎‏العنوان الذاتیّ، بل معروضه هو العنوان العرضیّ؛ وهو عنوان «الموقوف علیه»‏‎[1]‎‎ ‎‏لأنّ وجوب المقدّمة الذی هو مورد الکلام؛ هو الوجوب العقلیّ المستکشف به‏‎ ‎‏الوجوب الشرعیّ، والأحکام العقلیّة لاتتعلّق إلاّ بالعناوین والحیثیّات التعلیلیّة، دون‏‎ ‎‏الشیء الآخر حتّیٰ تکون تلک الحیثیّات عللاً لعروضها، بل الحیثیّات التعلیلیّة فی‏‎ ‎‏الأحکام العقلیّة عناوین موضوعاتها، فلاتکون صلاة الظهر مورد الوجوب الغیریّ،‏‎ ‎‏فالتمسّک المزبور بالمثال المذکور، فی غیر محلّه حسب الحقّ الذی لا مزید علیه.‏‎ ‎‏هذا فی المثال الثالث.‏

‏وأمّا الاستدلال، فلایتمّ إلاّ علیٰ تمامیّة الوجوب الغیریّ الشرعیّ،‏‎ ‎‏والامتناعیّ إمّا ینکر ذلک، أو یأوِّل کما یأوِّل فی الموارد الاُخر التی تکون النسبة‏‎ ‎‏عموماً من وجه.‏

وغیر خفیّ: ‏أنّ تجویز اجتماع المثلین من سنخ واحد من الأحکام کما فی‏‎ ‎‏المثال المزبور، یلازم تجویز اجتماع الضدّین أیضاً.‏

‏وأمّا المثال الأوّل والثانی، فقد أفاد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فی المقام وفی‏‎ ‎‏غیره: «أنّ ماهو الواجب فی الإجارة وفی النذر هو عنوان آخر؛ وهو عنوان «الوفاء‏‎ ‎‏بالعقد والنذر» ولاتکون العبادة مورد الأمر التوصّلی الإیجابیّ رأساً، فلایلزم کون‏‎ ‎‏الشیء الواحد مورد الأمرین والحکمین: الإیجابیّ، والندبیّ، ولا الشیئین اللّذین‏‎ ‎‏بینهما العموم والخصوص المطلق، بل النسبة تکون من العموم من وجه، وحیث‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 250
‏یجوز الاجتماع فالأمر واضح»‏‎[2]‎‏.‏

أقول:‏ قد عرفت أنّ الاستدلال المزبور یصحّ بناءً علیٰ هذا أیضاً‏‎[3]‎‏؛ لأنّ مع‏‎ ‎‏کون النسبة عموماً من وجه إذا جاز اجتماع الحکمین: الإیجابیّ والندبیّ، فیجوز‏‎ ‎‏اجتماع التحریمیّ والإیجابیّ، والقائل بالامتناع یقع فی کلفة التأویل، وهو یستلزم‏‎ ‎‏المفاسد الاُخر کما لایخفیٰ.‏

‏والذی یتوجّه إلیه ـ مدّظلّه أوّلاً : أنّ الأمر الإجاریّ والنذریّ الباعث نحو‏‎ ‎‏الحجّ الندبیّ والصلاة المأمور بها بالأمر الاستحبابیّ، یکون هو المحرّک، وقد تقرّر‏‎ ‎‏منّا أنّ تحریک المکلّف نحو التحرّک من المحرّک الآخر غیر معقول‏‎[4]‎‏؛ لأنّه لایمکن‏‎ ‎‏أن یتحرّک بالحرکتین وبالشخصین من الحرکة الواحدة فی الزمان الواحد، فعلیٰ هذا‏‎ ‎‏لایبقی الأمر الندبیّ باقیاً علیٰ باعثیّته نحو الطبیعة؛ وإن کان متعلّق الأمر الإجاریّ‏‎ ‎‏عنوان «الوفاء بالعقد» ومتعلّق الأمر النذریّ عنوان «الوفاء بالنذر».‏

وثانیاً:‏ الالتزام بأنّ الوفاء هو الواجب ولاسیّما فی باب العقود، غیر تامّ‏‎ ‎‏إثباتاً؛ لأنّ قضیّة ذلک عدم کفایة استیلاء المتبایعین بعد البیع علیٰ ملکهما صدفةً‏‎ ‎‏فی جواز تصرّفهما فی المبیع والثمن، مع أنّه جائز بالضرورة عند العقلاء وحسب‏‎ ‎‏الأدلّة الشرعیّة.‏

مثلاً:‏ إذا باع کتابه بشیء، ثمّ من باب الاتفاق انتقل الکتاب إلی المشتری،‏‎ ‎‏وانتقل الثمن إلی البائع، فإنّه لایحقّ للبائع أن یمنع من تصرّف المشتری؛ لأنّ ما فی‏‎ ‎‏یده ملکه، ولم یبقَ له حقّ الحبس؛ لأنّ الثمن انتقل إلیه وهو تحت اختیاره.‏

فمنه یعلم:‏ أنّ الواجب لیس أمراً قصدیّاً وهو عنوان «الوفاء بالعقد» بل هو‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 251
‏معنی خارجیّ، وهکذا فی ناحیة النذر، فإنّ الأدلّة ولو اقتضت بحسب الظاهر أنّ‏‎ ‎‏الوفاء واجب، إلاّ أنّ عنوان «الوفاء» کأنّه مغفول عنه، فیکون المنذور متعلّق الأمر‏‎ ‎‏الإیجابیّ، وهکذا فی مثل الحجّ.‏

‏وعندئذٍ یشکل الأمر من ناحیتین:‏

الاُولیٰ :‏ من أنّ الالتزام بکون الواجب هو العنوان الآخر العرضیّ غیر ممکن.‏

الثانیة :‏ أنّ الالتزام بأنّ الواجب ومعروض الأمر الإیجابیّ هو ذات العبادة،‏‎ ‎‏غیر ممکن أیضاً إلاّ بالتداخل، ونتیجة التداخل أن لایحنث فی النذر بترک الصلاة‏‎ ‎‏الواجبة المنذورة؛ لأنّ الأمر النذریّ المندکّ لا أثر لمخالفته وهی الکفّارة، فإنّها فی‏‎ ‎‏الشرع علی الحنث فی النذر، والحنث فی النذر متقوّم بکون المنذور واجباً علیه‏‎ ‎‏بالوجوب الباقی علی حدّه، مع أنّه فی مثل المثال المزبور لا حدّ للوجوب الآتی‏‎ ‎‏من قبل الأمر النذریّ، فتدبّر.‏

وبالجملة :‏ إنّ کلاًّ من المذهبین لایخلوان من المناقشات؛ لا القول بأنّ متعلّق‏‎ ‎‏الأمر الإیجابیّ نفس المنذور، ولا القول بأنّ المتعلّق عنوان آخر؛ وهو «الوفاء»‏‎ ‎‏وستجیء بعض الإشکالات الاُخر المتوجّهة إلیٰ مقالة المشهور.‏

‏أمّا التفصیل بین الحجّ المستأجر علیه، وبین الصلاة المنذورة؛ بأنّ الأمر‏‎ ‎‏الإجاریّ لایتعلّق بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابیّ، بخلاف الأمر النذریّ، فإنّه‏‎ ‎‏یتعلّق بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابیّ، فإنّ الأمر الاستحبابیّ تعلّق بذات‏‎ ‎‏العبادة، والأمر الإجاریّ تعلّق بالعبادة عن الغیر المأمور بها، والأمر النذریّ تعلّق‏‎ ‎‏أیضـاً بذات العبادة‏‎[5]‎‏.‏

‏فهو أفحش فساداً؛ ضرورة أنّ الأمر الاستحبابیّ لایتعلّق بذات العبادة، بل‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 252
‏متعلّقه الطبیعة المقیّدة بإتیانها بعنوان أمرها مثلاً؛ وذلک لما تحرّر فی محلّه‏‎[6]‎‏ ومضی‏‎ ‎‏الإیماء إلیه‏‎[7]‎‏، هذا أوّلاً.‏

وثانیاً:‏ إنّ الأمر النذریّ أیضاً تعلّق بالصلاة المأمور بها، فلایتمّ التفصیل‏‎ ‎‏المتراءیٰ من کلمات العلاّمة النائینیّ ‏‏قدس سره‏‎[8]‎‏.‏

‏والذی هو التحقیق فی المسألة بعد اللتیّا والتی: أنّ المحرّر عندنا فی محلّه‏‎ ‎‏بطلان الإجارة فی العبادات، وما یثبت فیها عندنا ـ حسب الأدلّة ـ هی النیابة عن‏‎ ‎‏الغیر وعقد الاستنابة، وقضیّة العقد الاستنابیّ لزوم قصدها فی الحجّ؛ بناءً علیٰ صحّة‏‎ ‎‏الاستنابة فیه، علیٰ إشکال تفصیله فی کتاب الحجّ إن شاء الله تعالیٰ فما أوجبه‏‎ ‎‏الشرع هو قصد الاستنابة، وإذا قصد الاستنابة فلایکون هناک عندئذٍ أمر استحبابیّ‏‎ ‎‏إلاّ أمر المنوب عنه والحجّ المنوب فیه. هذا فی مثل الحجّ والنیابة.‏

‏وأمّا فی الصلاة المنذورة ، فالذی اخترناه بعد التفصیل الکثیر فی کتاب‏‎ ‎‏الصوم: هو أنّ الشرع لایأمر أمراً إیجابیّاً بشیء، بل المنذورة بعد النذر باقیة علیٰ‏‎ ‎‏حالها ولونها؛ وجوبیّاً کان أو ندبیّاً، عبادیّاً کان أو توصّلیاً، ولکن العقل والعقلاء‏‎ ‎‏یقبّحون التخلّف عن المعاهدة التی أوقعها بینه وبین ربّه بقوله: «لله علیّ کذا وکذا»‏‎ ‎‏والتخلّف عن هذه المعاهدة یوجب الحنث المورث للکفّارة‏‎[9]‎‏.‏

وبعبارة اُخریٰ:‏ إنّ المتخلّف یستحقّ التقبیح العقلائیّ، والعقاب الشرعیّ؛‏‎ ‎‏لأجل ذلک التقبیح، لأنّ الشرع أیضاً ساعدهم علی ذلک، بخلاف سائر المقبّحات‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 253
‏العقلائیّة، وإذا کان الأمر کذلک فیجب بحکم العقل التحرّز من ذلک، کما فی موارد‏‎ ‎‏الأمر والنهی.‏

وإن شئت قلت:‏ إنّ عبادیّة العبادة إن کانت منحصرة بإتیانها بقصدالأمرالمتعلّق‏‎ ‎‏بها، فلایمکن حلّ المشکلة؛ لا علیٰ مذهب المشهور فی باب النذر‏‎[10]‎‏، ولا علیٰ‏‎ ‎‏مذهب السیّد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ‏‎[11]‎‏ لأنّ علی الأوّل یکون متعلّق النذر الصلاة‏‎ ‎‏اللیلیّة المأموربها بالأمرالندبیّ، ولایعقل الانبعاث عن هذا الأمر الندبیّ إلاّ بالانبعاث‏‎ ‎‏عن الأمر الإیجابیّ النذریّ، فإذا انبعث عنه فلایکون الانبعاث نحو الصلاة بأمرها.‏

‏وعلی الثانی یکون متعلّق الأمر النذریّ هو الوفاء،والانبعاث عن هذا الأمر‏‎ ‎‏أیضاً لایجتمع مع الانبعاث عن الأمر الندبیّ.‏

‏وأمّا إذا کانت عبادیّة العبادة غیر منحصرة بذلک، ویکون الأمر کاشفاً ـ لأجل‏‎ ‎‏القید المأخوذ فی متعلّقه ـ عن صحّة التعبّد بالمأمور به، فیصحّ کلّ من المذهبین‏‎ ‎‏والرأیین ثبوتاً، وتکون النتیجة حسب مقام الإثبات، هی الرأی الثانی ومبنی الوالد؛‏‎ ‎‏لأنّه الأوفق بالظواهر فی المقام، والله ولی الأمر.‏

وإن شئت قلت:‏ مسلک المشهور أیضاً لایخلو من بعض المناقشات السابقة،‏‎ ‎‏ومنها عدم تصوّر الحنث؛ لأنّ الأمر الآتی من قبل النذر، یکون مؤکّداً للأمر السابق‏‎ ‎‏المتعلّق بالمنذور من غیر أن یستتبع شیئاً؛ حتّیٰ یحنث فی النذر، ویحتاج إلی‏‎ ‎‏الکفّارة، بخلاف مسلکه ـ مدّظلّه .‏

وغیر خفیّ:‏ أنّ تصحیح العبادة المنذورة، لایمکن بأمرها بعد النذر إذا کان‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 254
‏الأمر النذریّ باعثاً، وتصحیحها علی الوجه المشار إلیه، منوط بأن یکون القید‏‎ ‎‏المأخوذ فی متعلّق أمرها عنواناً کلیّاً، مثل أن یأمر المولیٰ بأن تؤتی الصلاة عبادة،‏‎ ‎‏کما یأمر بأن یؤتیٰ بها مع الستر والطهور، فإنّه عندئذٍ تکون ما به عبادیّة العبادة‏‎ ‎‏تحت اختیار العبد؛ من قصد أمرها، أو غیر ذلک، أو یکون القید المأخوذ ـ ولو کان‏‎ ‎‏عنواناً خاصاً ـ قابلاً لإلغاء الخصوصیّة عرفاً؛ حتّیٰ یتمکّن العبد الناذر من إتیان‏‎ ‎‏المنذور عبادة، من غیر أن تتوقّف العبادیّة علی قصد أمرها، فلیتدبّر جیّداً.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 255

  • )) تقدّم فی الجزء الثالث : 27 و179.
  • )) مناهج الوصول 1 : 168 و2: 141، أنوار الهدایة 2: 130.
  • )) تقدّم فی الصفحة 247 ـ 248.
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی: 144.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 440.
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی: 152.
  • )) تقدّم فی الصفحة 248.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 440.
  • )) تحریرات فی الفقه ، کتاب الصوم، الفصل الثالث من الموقف الأوّل .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 440، محاضرات فی اُصول الفقه 4: 323.
  • )) مناهج الوصول 2 : 141.