الأمر الثالث : فی قلّة ثمرة هذه المسألة
إنّ هذا النزاع ممّا لاینتفع به فی الفقه؛ وذلک لأنّ بناء الأعلام قدیماً وجدیداً علیٰ حمل النواهی المتعلّقة بالعبادات والمعاملات علی الإرشاد إلی الشرطیّة والجزئیّة؛ بناءً علیٰ إمکان کون عدم المنهیّ شرطاً أو جزءً تحلیلیّاً، کما هو التحقیق، أو إلی المانعیّة، وتلک النواهی الإرشادیّة خارجة عن محطّ النزاع؛ لأنّه لا معنیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 292
للنزاع فی استتباعها الحکم الوضعیّ وفی اقتضائها الفساد، بعد البناء إثباتاً علیٰ أنّها ترشد إلیٰ فساد المنهیّ؛ لأجل اشتماله علی المانع، أو لأجل فقدانه الشرط أو الجزء، کما أقرّوا بذلک.
إن قلت : هذا فی النواهی المتعلّقة بخصوصیّات العبادة والمعاملة، دون نفس طبائعهما.
قلت : قلّما یوجد فی الفقه نهی متعلّق بطبیعة معاملة کلّیة، بل النواهی کلّها أو نوعها متعلّقة بخصوصیّات العبادة والمعاملة؛ ضرورة أنّ طبائع العبادات والمعاملات نافذة فی الشرع ومأمور بها، فیکون النهی الوارد راجعاً إلیٰ خصوصیّاتهما زماناً أو مکاناً، أو حالاً وکیفیةً، أو کمّیةً ووصفاً، وما ضاهاها.
نعم، فی مثل القمار یکون هو مورد النهی بطبیعته، اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ المنهیّ هو الأکل بالباطل، فیکون المنهیّ التجارة القماریّة، فتدبّر.
فعلیٰ هذه العویصة لابدّ وأن نقول : بأنّ البحث فرضیّ وهو ما إذا فرضنا أنّ النهی فی مورد یکون تکلیفیّاً، فهل یستتبع فی ذلک المورد حکماً وضعیّاً، أم لا؟
إن قیل : النواهی التنزیهیّة مندرجة فی محطّ البحث، وهی تکلیفیّة، وهذا یکفی لئلاّ یکون البحث فرضیّاً.
قلنا : أوّلاً : إنّ اندراجها فی محیط النزاع مورد الخلاف بینهم؛ معلّلاً بأنّ تلک النواهی محمولة علی الکراهة؛ بمعنی الأقلّ ثواباً.
وثانیاً : إنّ النهی التنزیهیّ الملازم للترخیص، لاینافی الرخصة الوضعیّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 293
المستفادة من تعلّق الأمر بالطبیعة الراجعة إلیٰ جواز الإتیان بأیّ فرد کان من الطبیعة، وسیأتی زیادة توضیح حوله فی الأمر الآتی.
وثالثاً : إنّ قضیّة ما تحرّر منّا فی المسألة السابقة؛ أنّ تلک النواهی ترشد إلی الحزازة، وهذا غیر حملها علی الأقلّ ثواباً وإن کان یرجع إلیه بالنتیجة، فلاتخلط.
فبالجملة : تحصّل فی هذا الأمر أنّ النزاع ولو کان جائزاً، إلاّ أنّه نزاع قلیل نفعه.
بل لنا أن نقول : کان الأولیٰ أن یتکفّلوا للبحث حول أنّ النواهی المتعلّقة بالعبادات، أو المعاملات وسائر المرکّبات الشرعیّة والعرفیّة، هل هی النواهی الإرشادیّة، أم هی النواهی النفسیّة حسب الأصل الأوّلی؟ ثمّ بعد الفراغ منه واختیار کونها النفسیّة، یتنازعون فی دلالة تلک النفسیّات علی الفساد وعدمها، ولایجوز حسب الصناعة إدراج النزاع الأوّل فی مقامات النزاع الثانی. نعم لابأس بجعله من مقدّماته وإن کان هو النزاع النافع.
ولکن الشأن فیه؛ أنّ هذه المسألة وفاقیّة بین أرباب الفضل وأصحاب الفنّ، ولأجله انحصر البحث فی المنازعة الاُولیٰ، والأمر ـ بعد ذلک ـ سهل.
وهم ودفع
ربّما یقال : إنّ النهی الإرشادیّ لایلازم القول بفساد المشتمل علی المنهیّ، وفساد المنهیّ أیضاً؛ لأنّ من الممکن کون النهی إرشاداً إلیٰ قبح المنهیّ، وفی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 294
استلزام قبحه للفساد مناقشة.
وفیه ما لا یخفیٰ ؛ ضرورة أنّ القبح لابدّ وأن یکون لأمر ولجهة تقییدیّة، وهی إن کانت من قبیل الموانع یلزم کون الفساد ناشئاً منها، وإن کانت من قبیل فقدان الشرط والجزء فهکذا.
وبعبارة اُخریٰ : النواهی التحریمیّة النفسیّة الذاتیّة ترشد إلیٰ فساد متعلّقاتها، وهذا النحو من الإرشاد لایستلزم الاندراج فی محیط النزاع، أو الخروج منه کما لایخفیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 295