المقصد الثالث فی النواهی

الأمر الخامس : الأصل فی النهی عن العبادة والمعاملة هو الإرشاد

الأمر الخامس : الأصل فی النهی عن العبادة والمعاملة هو الإرشاد

‏ ‏

بعدما عرفت :‏ أنّ النزاع حول استتباع النهی لحکم وضعیّ وعدمه، وبعدما‏‎ ‎‏علمت : أنّه لا معنیٰ لکون النهی الإرشادیّ ـ الذی فرض أنّه إرشاد إلیٰ جهة‏‎ ‎‏وضعیّة مصبَّ التشاحّ والنفی والإثبات‏‎[1]‎‏، یظهر لزوم البحث هنا حول أنّ الأصل‏‎ ‎‏فی النواهی المتعلّقة بالعبادات والمعاملات، هل هو الإرشادیّة، أو التحریمیّة؟ بعد‏‎ ‎‏الفراغ عن الأصل المحرّر فی بدو بحوث صیغة النهی؛ وأنّ الأصل هناک هو التحریم‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 299
‏التکلیفیّ وتمامیّة الحجّة الشرعیّة والعرفیّة‏‎[2]‎‏، وهذا ممّا لابدّ منه حتّیٰ‏‎ ‎‏لایکون البحث فرضیّاً. ولایجوز إدخاله فی جوهر البحث فی هذا النزاع، خلافاً لما‏‎ ‎‏صنعه الوالد ـ مدّظلّه ‏‎[3]‎‏.‏

‏ومن الغریب ما أفاده الاُستاذ العلاّمة البروجردیّ ‏‏قدس سره‏‏ من : «أنّ محطّ النزاع‏‎ ‎‏فی البحث اللفظیّ هی النواهی الإرشادیّة؛ لاستدلال القوم لإثبات الفساد : بأنّها‏‎ ‎‏تدلّ علیه إذا تعلّق بالعبادات والمعاملات، وأمّا فی النواهی التحریمیّة فیکون البحث‏‎ ‎‏عقلیّاً؛ لرجوع المسألة إلی الاستدلال بالفساد لأجل توسّط الحرمة الشرعیّة»!!‏

‏وقد بالغ فی ذلک حسبما یظهر من التقریرات، وکرّر الأمر حولها‏‎[4]‎‏، وکأنّه‏‎ ‎‏أمر جدیر بالتدبّر.‏

وأنت خبیر بما فیه أوّلاً :‏ من أنّ النزاع الصحیح هو النزاع فی النواهی‏‎ ‎‏التحریمیّة؛ لإمکان کونها مورد الخلاف، بخلاف الإرشادیّة التیهی مورد الاتفاق‏‎[5]‎‏،‏‎ ‎‏ویکون الغرض إرشادها إلی الجهة الوضعیّة. والشاهد علیه: أنّ القوم استدلّوا‏‎ ‎‏ـ حسبما أفاده ـ بتلک النواهی الإرشادیّة علیٰ دلالة النهی علی الفساد‏‎[6]‎‏، وأنّ‏‎ ‎‏«الکفایة» قال: «الثالث: ظاهر لفظ «النهی» وإن کان هو النهی التحریمیّ»‏‎[7]‎‏ انتهیٰ.‏

وثانیاً :‏ قد مضیٰ أنّ مناط لفظیّة البحث والمسألة، کون عنوان المسألة‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 300
‏موضوعاً لفظیّاً، وراجعاً إلیٰ حدود الأوضاع والدلالات‏‎[8]‎‏، ولو کان من الوضع‏‎ ‎‏التعیینیّ الحاصل من کثرة الاستعمالات، أو من الوضع الثانویّ الحاصل للمرکّبات‏‎ ‎‏والجمل؛ لکثرة اشتهار إطلاقها وإرادة المعنی الوضعیّ وراء المعنی التکلیفیّ مثلاً،‏‎ ‎‏فکن علیٰ بصیرة.‏

وإن شئت قلت :‏ توسّط الحرمة لایضرّ بلفظیّة البحث؛ لأنّه یرجع إلی الدلالة‏‎ ‎‏الالتزامیّة. ولو استشکل فیها: بأنّها لیست لفظیّة، یلزم عدم کون المفروض فی کلامه‏‎ ‎‏لفظیّاً من المسألة اللفظیّة أیضاً؛ ضرورة أنّ النهی لو کان یدلّ علی الفساد، فهو‏‎ ‎‏بالالتزام لا المطابقة، فتدبّر.‏

‏إذا تبیّن ذلک فاعلم : أنّ مقتضی الأصل کما هو التحریم فی صیغة النهی،‏‎ ‎‏ومقتضی الأمر کما هو الوجوب فی صیغته، کذلک قضیّة النهی والأمر المتعلّقین‏‎ ‎‏بالمرکّبات العرفیّة والشرعیّة، والمخترعات الإسلامیّة وغیر الإسلامیّة ـ من غیر‏‎ ‎‏فرق بین تعلّق النهی بالمرکّبات، وتعلّقه بالأجزاء والخصوصیّات بخلاف الأمر ـ هو‏‎ ‎‏التحریم والوجوب الوضعیّین؛ والإرشاد إلی الجهة الوضعیّة من الجزئیّة ، أو‏‎ ‎‏الشرطیّة، أو المانعیّة والقاطعیّة. وهذا هو الأصل المفروغ عنه فی العبادات، ولاسیّما‏‎ ‎‏فی المعاملات.‏

‏وإنّما الکلام فی منشأ هذا الأصل الثانویّ، فقد یقال: إنّ وجه الأصل المزبور‏‎ ‎‏ـ البالغ إلیٰ حدّ یمکن دعوی الظهور الوضعیّ لتلک الهیئات من الجمل المستعملة فی‏‎ ‎‏العبادات والمعاملات وما شابهها ـ هو أنّ العناوین المتعلّقة للنهی مختلفة‏‎[9]‎‏:‏

فمنها :‏ ما هو من العناوین الواضحة لغة وعرفاً، کـ «الأکل والشرب».‏

ومنها :‏ ما یکون غیر واضح، ومحتاجاً إلی التوضیح من قبل الأشخاص‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 301
‏المعیّنین لما یترتّب علیها من الآثار المقصودة بالذات؛ والمطلوبة حقیقة وغرضاً‏‎ ‎‏وغایةً، ومن ذلک عنوان المعاجین الطبّیة، فإنّها ممّا لایطلع علیٰ خصوصیّاتها إلاّ‏‎ ‎‏أهلها، فإذا تصدّیٰ أرباب الطبّ وأصحاب الدساتیر للأمر بشیء حول ذلک، والنهی‏‎ ‎‏عنه فی زمان خاصّ، وعن شیء خاصّ، وعن کیفیّة خاصّة، فلاتکون تلک الأوامر‏‎ ‎‏والنواهی نفسیّة؛ لما لا معنیٰ لها، بل المعنیّ بها والمقصود منها ـ حسب القرائن‏‎ ‎‏الکلّیة والجزئیّة ـ إفادة ماهو الموضوع للأثر المرغوب، وإذا کان الآمر والناهی فی‏‎ ‎‏هذا الموقف، فلا معنیٰ لحمل أمره ونهیه علی النفسیّة، بل کلّ ذلک أوامر ونواهٍ‏‎ ‎‏جزئیّة مترشّحة من المأمور به النفسیّ فی باب الواجبات ومن عدم صلاحیة المنهیّ‏‎ ‎‏عنه للتوسّل به إلی السبب المقصود فی باب المعاملات، أو أنّ المنهیّ عنه فاقد‏‎ ‎‏للشرط أو الجزء اللاّزم فی ترتّب الأثر المترقّب منه.‏

وبالجملة :‏ إذا قال: «لاتصلّ فی وبر ما لایؤکل لحمه» أو قال: «صلّ مع‏‎ ‎‏الطهور» فلیس ذلک إلاّ من قبیل الأوامر والنواهی المزبورة.‏

‏والسرّ کلّ السرّ : أنّ صدور الأوامر والنواهی حول المرکّبات یکون قرینة‏‎ ‎‏علیٰ هذا المعنیٰ، وصار ذلک إلی حدّ یمکن دعوی الوضع التعیّنی للجمل المرکّبة‏‎ ‎‏کما لایخفیٰ، والأمر ـ بعد معلومیّة الأصل المفروغ عنه ـ واضح.‏

ومن هنا یظهر :‏ أنّ النهی إذا تعلّق بذات معاملة عرفیّة ـ کالقمار الذی یترتّب‏‎ ‎‏علیه الأثر العرفیّ ـ یکون أیضاً إرشاداً، بخلاف الأمر المتعلّق بذات الصلاة والحجّ،‏‎ ‎‏فإنّه محمول علی الإیجاب النفسیّ؛ لأنّ الأثر المرغوب فیه والمترقّب منه لیس‏‎ ‎‏مورد نظر الآمر حتّیٰ یکون إرشاداً إلی السبب المحصّل وإن کان ذلک الأثر وهو‏‎ ‎«معراج المؤمن»‎[10]‎‏ و ‏«قربان کلّ تقیّ»‎[11]‎‏ مقصوداً أعلیٰ وغرضاً أصلیّاً، ولکن‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 302
‏لاینبغی الخلط بین الأسباب والمسبّبات، وبین الموضوعات والآثار الحاصلة منها.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 303

  • )) تقدّم فی الصفحة 292 ـ 293 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 92 ـ 95 .
  • )) مناهج الوصول 2 : 156 ـ 159 .
  • )) نهایة الاُصول : 283 ـ 287 .
  • )) مطارح الأنظار : 163 / السطر 6 ـ 10، نهایة الاُصول : 283 ـ 287، محاضرات فی اُصول الفقه 5 : 4 ـ 5 .
  • )) مدارک الأحکام 3 : 181 ـ 182، مستمسک العروة الوثقیٰ 5 : 297 .
  • )) کفایة الاُصول : 218 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 292 .
  • )) لاحظ نهایة الاُصول : 283 ـ 284 .
  • )) اعتقادات ، المجلسی : 39 .
  • )) الکافی 3 : 265 / 6، وسائل الشیعة 4: 43، کتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 12، الحدیث 1 و 2 .