المقصد الثالث فی النواهی

أوّلها : فی مفهومهما اللغویّ

أوّلها : فی مفهومهما اللغویّ

‏ ‏

‏فقد نسب إلی الشهرة‏‎[1]‎‏ أنّ «الصحّة» هی التمامیّة، و «الفساد» هو النقصان.‏

‏وأورد علیه: بأنّ المتفاهم العرفیّ من الإطلاقات خلافه؛ لصحّة أن یقال: «ید‏‎ ‎‏ناقصة، وبیت ناقص» وعدم صحّة توصیفهما بالفساد.‏

‏فالأولیٰ أن یقال: إنّ التمامیّة تستعمل بالنسبة إلی الاختلال فی الشیء من‏‎ ‎‏ناحیة کمّیته والمقدار، و «الفساد» یطلق علیه عند الاختلال فی الکیفیّة والمزاج،‏‎ ‎‏فیقال: «البطیخ فاسد»، ولا یقال: «ناقص».‏

‏وبعدما ابتلی بالمخترعات الشرعیّة؛ وأنّ الصلاة الناقصة برکعة توصف‏‎ ‎‏ب«الفساد» مع أنّه من الاختلال بحسب الکمّیة، احتمل الوضع الآخر. وبعدما رأیٰ أنّ‏‎ ‎‏الاحتمال المزبور بعید غایته التزم بالمجازیّة؛ وأنّ من کثرة الاستعمال بلغ إلیٰ حدّ‏‎ ‎‏الحقیقة مثلاً فی الاستعمالات الشرعیّة‏‎[2]‎‏.‏

أقول :‏ وفیه ما لایخفیٰ، أوّلاً: أنّ البیت إذا کان مختلفاً من ناحیة العوارض‏‎ ‎‏یقال: «هو ناقص» کما أنّ الید إذا کانت عوجاء توصف بالنقصان.‏

وثانیاً :‏ أنّ الالتزام بالمجازیّة یورث الخروج عن محطّ النزاع حسبما‏‎ ‎‏تصوّروه فی میزان الاندراج فی محطّ البحث.‏

‏والذی هو الأقرب : أنّ مفهوم الصحّة فی جمیع الموارد واحد؛ سواء کان‏‎ ‎‏مقابلها مفهوم المعیب، أو کان مقابلها مفهوم البطلان، أو الفساد، وهکذا مفهوم‏‎ ‎‏الفاسد واحد؛ سواء کان مقابله السالم، أو کان مقابله الصحیح، وإنّما الاختلاف فی‏‎ ‎‏المصادیق؛ وأنّها ذات عَرْض عریض.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 314
وإجمال الکلام :‏ أنّ کلّ شیء سواء کان من الاُمور الطبیعیّة، أو کان من‏‎ ‎‏الاُمور الاختراعیّة والاعتباریّة، ذو نشأتین: نشأة تقدیر وتدبیر، ونشأة التکوین‏‎ ‎‏والتشخّص والخارج.‏

‏فإذا لوحظ الشیء فی النشأة الاُولیٰ، فیقدّر له الأجزاء والشرائط والأفعال‏‎ ‎‏والآثار والخواصّ والحدود والکیفیّات، وتکون تلک الخصوصیّات داخلة فی طبیعته‏‎ ‎‏النوعیّة، لا بما أنّها أجزاء ذاتیّة، بل بما أنّها حدودها اللاّزمة فی الطبیعة الکاملة‏‎ ‎‏النوعیّة، فإنّ جمیع المقولات والضمائم ممّا تقدّر فی تلک النشأة وهی النشأة‏‎ ‎‏العلمیّة، کما یقدّر المهندس فی النشأة الذهنیّة جمیع خصوصیّات البیت وتبعاته من‏‎ ‎‏الاُمور الدخیلة فی کماله.‏

‏ثمّ بعد التقدیر المزبور حسب الطبیعة النوعیّة، یشرع فی أن تصیر هذه‏‎ ‎‏الطبیعة موجودة بالوجود الخارجیّ، وتصیر خارجیّة وفی الأعیان، فإذا کان ما فی‏‎ ‎‏الخارج من الأعیان، عین ما فی العلم والذهن من التقادیر، یکون الخارج کاملاً‏‎ ‎‏وجامعاً وتامّاً وصحیحاً وسالماً، وإلاّ فیتوجّه إلیه تارة وصف «النقصان» أو وصف‏‎ ‎‏«الفساد» أو «البطلان» أو «المعیب» وکلّ ذلک مفهوم غیر مفهوم الآخر، وهکذا فی‏‎ ‎‏مقابلاتها، إلاّ أنّ مناشئ هذه التوصیفات المختلفة ربّما تکون متفاوتة وغیر واحدة.‏

مثلاً :‏ إذا قلنا : «إنّ عقل زید ناقص» فهو باعتبار الأثر المرغوب منه والمقدّر‏‎ ‎‏له فی الطبیعة النوعیّة وفی النشأة العلمیّة، وإذا قلنا: «إنّ البدن ناقص» فهو بلحاظ‏‎ ‎‏الکمّیة والکیفیّة، وإذا قلنا: «معیب» فهو بلحاظ النقصان أو الزیادة علی المقدّر‏‎ ‎‏النوعیّ فی تلک النشأة، وإذا قلنا: «فاسد» فهو بلحاظ الأخلاق والاعتقاد والمقدّر له‏‎ ‎‏علی الحساب المزبور، وإذا قلنا: «إنّه باطل عاطل» فهو بلحاظ الأثر المرغوب منه‏‎ ‎‏من العمل المفید والفعّالیّة الاجتماعیّة.‏

‏وأمّا إذا کان کامل العیار، وإنساناً کاملاً من جمیع الجهات المقدّرة له فی‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 315
‏جمیع مراحل وجوده حسب طبیعته النوعیّة، فیسلب عنه جمیع هذه العناوین،‏‎ ‎‏ویوصف بمقابلاتها من الصحّة ؛ فیقال: «هو صحیح المزاج والخلقة، وسالم العقل،‏‎ ‎‏وصحیح العمل والقول والأخلاق» وغیر ذلک.‏

ومن هنا یظهر :‏ أنّ المخترعات الشرعیّة والاعتباریّات العقلائیّة، کالمرکّبات‏‎ ‎‏الحقیقیّة فی هذه الجهة، فإذا کانت الصلاة کاملة الأجزاء والشرائط والآثار‏‎ ‎‏والخواصّ، فتوصف بتلک الأوصاف، وإذا اختلّت من ناحیة من النواحی المقدّرة لها‏‎ ‎‏فی نشأة الذهن والعلم، توصف بوصف من الأوصاف المزبورة، فإن کانت بلا رکوع‏‎ ‎‏وسجود، وبلا کیفیّة وهیئة معتبرة فیها، وبلا أثر وخاصّیة مرغوبة منها ـ ککونها‏‎ ‎«معراج المؤمن»‎[3]‎‏ وهکذا ـ توصف بالأوصاف الاُخر المذکورة.‏

‏إلاّ أنّ اتصافها بتلک الأوصاف تختلف مناشئه، فإذا قیل: «هی صلاة ناقصة»‏‎ ‎‏فهو لأجل الإخلال بها من ناحیة الآثار المرغوبة منها، وإذا قیل: «إنّها فاسدة» فهو‏‎ ‎‏لأجل الإخلال بکیفیّتها أو کمّیتها المتقدّرة لها بحسب الطبیعة، وإذا قیل: «إنّها باطلة‏‎ ‎‏وعاطلة» فلایبعد کونها بلحاظ مطلق الأثر المرغوب منها.‏

‏وأمّا تفسیر الصحّة والفساد، وجعل منشأ الاتصاف بهما عدم وجوب القضاء‏‎ ‎‏والإعادة ووجوبهما، کما نسب إلی الفقیه، وهکذا تفسیرهما بحصول الامتثال‏‎ ‎‏وعدمه، کما عن المتکلّم‏‎[4]‎‏، فهو غیر صحیح؛ لأنّهما من الاُمور المنتزعة عن تطابق‏‎ ‎‏المأتیّ به والمأمور به، وعدم التطابق، من غیر دخالة سقوط الأمر وعدمه فی ذلک؛‏‎ ‎‏وإن کان یسقط فی صورة الصحّة، ولایسقط فی صورة الفساد، إلاّ أنّهما کالحجر‏‎ ‎‏جنب الإنسان، أو هما لیسا من الانتزاعیّین من التطابق وعدمه، بل الهیئة المتقدّرة‏‎ ‎‏المفروضة المذکور تفصیلها إذا وجدت بجمیع ما قدّر لها فی النشأة العلمیّة توصف‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 316
‏بالصحّة، وإذا لم تکن کذلک توصف بالفساد، من غیر لحاظ التطابق حتّیٰ یقال: بأنّه‏‎ ‎‏فی المعاملات لایکون أمر حتّیٰ یطابق، أو یقال: بأنّ الصلاة المأمور بها هی طبیعیّ‏‎ ‎‏الصلاة، والطبیعة توجد بتبعها فی الخارج.‏

فبالجملة :‏ لاداعی إلی اعتبار التطابق فی الاتصاف المزبور، بل الطبیعة‏‎ ‎‏الکذائیّة إذا صارت خارجیّة ینتزع منها الصحّة، وإذا کانت خارجیّة، ولکنّها کانت‏‎ ‎‏مختلّة من ناحیة من النواحی المزبورة تکون فاسدة. وسیظهر فی طیّ الاُمور الآتیة‏‎ ‎‏ما یترتّب علیٰ هذه المقالة من الآثار‏‎[5]‎‏ بعدما عرفت سقوط تعریف الفقهاء‏‎ ‎‏والمتکلّمین أیضاً، والأمر سهل.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 317

  • )) کفایة الاُصول: 39 و220، نهایة الأفکار 1: 73، نهایة الاُصول:46، مناهج الوصول 2: 153.
  • )) مناهج الوصول 2 : 153 ـ 154 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 302 .
  • )) قوانین الاُصول 1 : 157 / السطر 19 ـ 20، و158 / السطر 24، کفایة الاُصول: 220.
  • )) یأتی فی الصفحة 319 ـ 320 و 324 .