المقصد الثالث فی النواهی

ثامنها : حول مجعولیّة الصحّة والفساد وعدمها

ثامنها : حول مجعولیّة الصحّة والفساد وعدمها

‏ ‏

‏من البحوث المشهورة حول الصحّة والفساد: أنّه هل هما مجعولتان وقابلتان‏‎ ‎‏للجعل استقلالاً وتبعاً مطلقاً، أم لا مطلقاً‏‎[1]‎‏، أو یفصّل بین الصحّة العرفیّة والشرعیّة،‏‎ ‎‏أو بین العبادات والمعاملات، کما فی «الکفایة»‏‎[2]‎‏ أو بین الواقعیّة والظاهریّة، فلا‏‎ ‎‏تکونان مجعولین بالنسبة إلی الأحکام الواقعیّة؟ وأمّا الأحکام الظاهریّة علی القول‏‎ ‎‏بالإجزاء فلابدّ وأن تکونا فیها مجعولین‏‎[3]‎‏.‏

‏وجوه، بل وأقوال.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 327
أقول :‏ لا خیر فی إطالة الکلام حول المسألة بعد وضوحها؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏الصحّة ـ کما عرفت‏‎[4]‎‏ ـ لیست من التبعات والعوارض الملحوظة فی نشأة تقدیر‏‎ ‎‏الشیء ونشأة الذهن، بل الطبائع فی هذه النشأة تعتبر مع قیود وخواصّ وآثار؛ علیٰ‏‎ ‎‏نعت قابلیّتها بالنسبة إلیها، وتلک القیود والتبعات إمّا مندرجة فی المقولات حقیقة،‏‎ ‎‏أو تکون اعتباراً من تلک المقولات، کما فی الطبائع الاعتباریّة والماهیّات العرفیّة‏‎ ‎‏والاختراعیّة.‏

‏وإذا صارت تلک الطبیعة ـ علیٰ ما کانت متقدّرة بالخصوصیّات ـ خارجیّةً‏‎ ‎‏وفی الأعیان، ینتزع منها الصحّة، وإلاّ فربّما ینتزع منها «المعیب» وربّما ینتزع منها‏‎ ‎‏عناوین «الباطل، والعاطل، والفاسد، والناقص» من غیر اندراج هذه العناوین تحت‏‎ ‎‏اللحاظ والاعتبار، فلاتنالها ید الجعل تکویناً، ولا تشریعاً.‏

‏نعم، یمکن أن تکون الطبیعة ذات عَرْض عریض بالنسبة إلیٰ حالات‏‎ ‎‏المکلّفین، فتکون ذات أجزاء وشروط تتراوح بین العشرة إلی العشرین، فیکون‏‎ ‎‏ینتزع الصحّة منها فی فرض دون فرض، من غیر إمکان انتزاع الصحّة من الطبیعة‏‎ ‎‏الناقصة بعد کونها متقدّرة بالأجزاء البالغة إلی العشرین مثلاً بالضرورة.‏

‏نعم، للشرع صرف النظر عن أمره وتکلیفه، وأن لایوجب الإعادة ولا القضاء،‏‎ ‎‏ولکنّه لیس جعل الصحّة للمأتیّ به إلاّ ادعاءً؛ بداعی انتقال المکلّف إلیٰ عدم التزامه‏‎ ‎‏بتکلیفه، وإلاّ فمع التزامه بالتکلیف التامّ لایعقل اعتبار الصحّة والاجتزاء بالناقص،‏‎ ‎‏کما هو الواضح، وقد نصّ علیه السیّد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ‏‎[5]‎‏ فلیلاحظ جیّداً.‏

‏نعم، یتوجّه إلیه ـ مدّظلّه : أنّه ظنّ حسب ما اعتقده فیما سلف «أنّ وجه‏‎ ‎‏امتناع جعلهما أنّ الصحّة والفساد من أوصاف الفرد الموجود من الماهیّة المخترعة،‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 328
‏المنتزعتان من المطابقة واللامطابقة»‏‎[6]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وفیه ما عرفت : من أنّ الصحّة تعرض الماهیّة الکلّیة أیضاً، ولایکون منشأ‏‎ ‎‏الانتزاع التطابق واللاتطابق، بل منشأ الانتزاع تحقّق الطبیعة علیٰ قدرها المتعیّن فی‏‎ ‎‏النشأة العلمیّة فیالخارج وفیالأعیان؛ ضرورة أنّ الطبیعیّ بنفسه موجود فیالخارج‏‎ ‎‏لابمنشئه، من غیر فرق بین الطبائع الأصلیّة والاعتباریّة، فلا معنیٰ لمفهوم المطابقة‏‎ ‎‏واللامطابقة المعروف فی کلماتهم‏‎[7]‎‏ صدراً وذیلاً، کما مرّ بتفصیل لا مزید علیه‏‎[8]‎‏.‏

إن قلت :‏ إنّا نری بالوجدان أنّ الشرع یعتبر بعض المعاملات صحیحة،‏‎ ‎‏وبعضها فاسدة ولو بالإمضاء والردع، ولا نعنی بجعل الصحّة والفساد إلاّ ذلک.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ نجد بالوجدان صحّة قول الشرع فی القوانین الشرعیّة وقول‏‎ ‎‏العرف فی القوانین العرفیّة: «بأنّ معاملة کذا باطلة عندی وفاسدة لدینا» أو یصحّ فی‏‎ ‎‏الارتکاز أن یقال: «جعلت بیع الخمر فاسداً، وجعلت بیع کذا صحیحاً» فلو کان ذلک‏‎ ‎‏من الممتنعات لما کان یستحسن ذلک عند العقل والعرف‏‎[9]‎‏.‏

قلت أوّلاً :‏ تجری هذه الشبهة فی العبادات أیضاً، ویصحّ التعبیر المزبور فیها‏‎ ‎‏حذواًبحذوٍ، فیقال: «إنّ عبادة الأوثان فاسدة عندی، وعبادة الله تعالیٰ صحیحة لدینا».‏

وثانیاً :‏ إنّ هذه الشبهة لیست إلاّ ناشئة عن المسامحة فی الإطلاقات العرفیّة‏‎ ‎‏والاستعمالات البدویّة.‏

والذی هو الحقّ :‏ أنّه فی قولنا: «بیع کذا صحیح» لیس إلاّ إخباراً عن واجدیّة‏‎ ‎‏البیع لما یعتبر فی نفوذه وسببیّته للمسبّب المترقب منه، أو واجدیّته لما هو المعتبر‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 329
‏فی موضوعیّته لحکم العقلاء بالنقل والانتقال، من غیر جعل الصحّة له بدون اعتبار‏‎ ‎‏منشئها، ومع اعتبار منشأ الصحّة لامعنیٰ لجعلها؛ لأنّه یصیر من قبیل جعل المجعول.‏

‏وهکذا إذا قلنا : «إنّ بیع الخمر فاسد» فإنّه لیس إلاّ بعد لحاظ قید فی المبیع؛‏‎ ‎‏وهو أنّه یعتبر أن لایکون المبیع خمراً، فإذا کان کذلک فـ «بیع الخمر فاسد» لیس إلاّ‏‎ ‎‏إخباراً، ولایکون إنشاءً. وإذا صحّ قولنا: «جعلت بیع الخمر فاسداً» فهو لیس من‏‎ ‎‏قبیل جعل الفساد علی البیع الجامع للشرائط؛ لأنّه من اللغو، بل هو یرجع إلیٰ إفادة‏‎ ‎‏اشتراط کون المبیع غیر خمر.‏

فبالجملة :‏ جعل البیع أو العبادة الکذائیة فاسداً من المجازفة، إلاّ برجوعه إلی‏‎ ‎‏اعتبار قید فی صحّة البیع، وبعد رجوعه إلیٰ ذلک لا معنیٰ للجعل ثانیاً؛ لأنّه یصیر‏‎ ‎‏أیضاً لغواً وجزافاً.‏

وإن شئت قلت :‏ کما قد تکون الجمل الخبریّة فی موقف الإنشاء، کذلک قد‏‎ ‎‏تکون الجمل الإنشائیّة فی موقف الإخبار، فإذا قیل: «جعلت صلاة الفاقد صحیحة»‏‎ ‎‏فهو إخبار عن أنّ الصلاة بالنسبة إلی الفاقد ذات تسعة أجزاء، وإذا قیل: «جعلت‏‎ ‎‏البیع الربویّ فاسداً» فهو إخبار بأنّ من القیود المعتبرة فی نفوذ البیع عندی کونه غیر‏‎ ‎‏ربویّ وهکذا.‏

‏فلاینبغی الخلط بین مدالیل الجمل، کما لاینبغی الإصغاء إلی الجمل المزبورة‏‎ ‎‏فی محیط العرف، بعد عدم مساعدة البرهان علیٰ مفاهیمها المطابقیّة، وقیام الدلیل‏‎ ‎‏عقلاً علی امتناع سریان الجعل إلی الصحّة والفساد؛ بسیطاً کان، أو مرکّباً.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 330

  • )) مطارح الأنظار: 160 / السطر 13 ـ 15، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 460، منتهی الاُصول 1 : 413، مناهج الوصول 2 : 155 .
  • )) کفایة الاُصول : 221 ـ 222 .
  • )) أجود التقریرات 2 : 391 ـ 393، مصباح الاُصول 3 : 86 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 314 ـ 316 .
  • )) مناهج الوصول 2 : 155، تهذیب الاُصول 1 : 412 .
  • )) نفس المصدر .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 458 ـ 461، نهایة الاُصول 1: 280 ـ 283، مناهج الوصول 2 : 154 ـ 155 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 314 ـ 317 .
  • )) لاحظ محاضرات فی اُصول الفقه 5 : 12 .