المقصد الثالث فی النواهی

التنبیه الثانی : حول بطلان العبادة المنهیة لأجل التشریع

التنبیه الثانی : حول بطلان العبادة المنهیة لأجل التشریع

‏ ‏

‏فی موارد التشریع والنهی عن العبادة التشریعیّة هل تکون العبادة باطلة أم لا؟‏‎ ‎‏والکلام هنا یقع فی صورتین :‏

الصورة الاُولیٰ :‏ فیما إذا کانت العبادة بحسب الواقع مورد الأمر، ولکنّه‏‎ ‎‏لایعلم به، فإنّه إن قلنا: بأنّ عبادیّة کلّ عبادة عبارة عن الامتثال والانبعاث المستند‏‎ ‎‏إلیٰ أمرها‏‎[1]‎‏ فهی باطلة؛ ضرورة أنّه لیس منبعثاً عنه، وإن قلنا بکفایة اقترانها بالقربة‏‎ ‎‏المطلقة‏‎[2]‎‏ فهی صحیحة؛ لأجل اشتمالها علی الشرائط.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ النهی عن العبادة التشریعیّة، یفید اشتراط العبادة بأن‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 352
‏لاتکون مقرونة بالتشریع، کما یفید أن لاتکون حال الحیض وفی وبر ما لا یؤکل.‏

‏نعم، إذا کان النهی متعلّقاً بعنوان التشریع من غیر اختصاصها بالعبادة أو‏‎ ‎‏المعاملة، فلایلزم منه الفساد؛ لأنّه من قبیل النهی عن الأمر الخارج والعنوان‏‎ ‎‏المباین ویندرج فی مسألة الاجتماع والامتناع علیٰ إشکال فیه یأتی فی الآتی إن‏‎ ‎‏شاء الله تعالیٰ‏‎[3]‎‏.‏

‏وقال العلاّمة النائینیّ ‏‏قدس سره‏‏ : وأمّا فی العبادة فالحرمة التشریعیّة کالحرمة الذاتیّة‏‎ ‎‏تقتضی الفساد، کقبح التشریع عقلاً المستتبع بقاعدة الملازمة للحرمة الشرعیّة‏‎[4]‎‏،‏‎ ‎‏انتهیٰ ما هو جوهر مقصوده. وقد أفاد ما لا یخلو من تأسّفات.‏

والذی هو الحقّ :‏ أنّ القاعدة المزبورة لا أساس لها، وأنّ العقل لایتمکّن من‏‎ ‎‏استکشاف الحرمة، ولایعقل کشف الحرمة القائمة بالإرادة التشریعیّة الزاجرة.‏

‏نعم، للعقل درک مبغوضیّة شیء عند المولیٰ، وهو أعمّ من الحرمة؛ ضرورة‏‎ ‎‏إمکان کون شیء مبغوضاً للمولیٰ، ولکنّه لاینهیٰ عنه؛ لمصالح اُخر مغفولة عنّا‏‎ ‎‏راجعة إلیٰ سیاسة المدن، وإدارة النفوس ومصالحها.‏

‏ولو کانت القاعدة المزبورة صحیحة، لکان یستکشف حرمة الظلم؛ لقبحه‏‎ ‎‏العقلیّ الراجع إلیه قبح کلّ شیء، مع أنّ حرمة الظلم غیر معقولة؛ للزوم کون کلّ‏‎ ‎‏محرّم شرعیّ محرّمین: حرمة خاصّة، وحرمة استکشافیّة.‏

مثلاً :‏ یلزم أن یکون الغصب محرّماً لأجل الغصب مرّة، ولأجل الظلم اُخریٰ،‏‎ ‎‏ویؤاخذ المکلّفین عند ذلک مرّتین: مرّة للحرمة الخاصّة، والثانیـة للحرمـة‏‎ ‎‏الانکشافّیة الثابتة للموضوع الأعمّ المنطبق علیه، وهذا ممّا یکذبه وجدان جمیع‏‎ ‎‏العقلاء والعقول.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 353
‏هذا مع أنّ قبح التشریع المطلق، لایکفی لفساد العبادة کما لایخفیٰ.‏

‏ثمّ إنّک قد عرفت : أنّ الحرمة الذاتیّة قاصرة عن استتباع الفساد والحکم‏‎ ‎‏الوضعیّ تکویناً، فلیغتنم.‏

‏هذا مع أنّه فی مورد الحرمة الذاتیّة یکون العمل الخارجیّ محرّماً، وأمّا فی‏‎ ‎‏مورد الحرمة التشریعیّة، فکون العمل الخارجی ذا نهی حتّیٰ لایجتمع مع الأمر، أو‏‎ ‎‏یکون مبغوضاً، أو ذا مفسدة حتّیٰ لایصلح لأن یکون مقرّباً وعبادة، محلّ المناقشة،‏‎ ‎‏بل محلّ منع.‏

‏قال العلاّمة المحشّی ‏‏رحمه الله‏‏: «قد ذکرنا فی بحث التجرّی أنّ عنوان «التجرّی‏‎ ‎‏وهتک الحرمة» من وجوه الفعل وعناوینه، وأنّ العبد بفعل ما أحرز أنّه مبغوض‏‎ ‎‏المولیٰ یکون هاتکاً لحرمته، وإلاّ فمجرّد العزم علیه عزم علیٰ هتک حرمته، کذلک‏‎ ‎‏البناء علیٰ فعل مالم یعلم أنّه من الدین بعنوان أنّه منه وإن کان فعلاً نفسیّاً وإثماً‏‎ ‎‏قلبیّاً، إلاّ أنّه بناءً علی التصرّف فی سلطان المولیٰ، حیث إنّ تشریع الأحکام من‏‎ ‎‏شؤون سلطانه، فبفعل مالم یعلم أنّه من الدین بعنوان أنّه منه یکون هاتکاً لحرمة‏‎ ‎‏مولاه، ومتصرّفاً فی سلطانه»‏‎[5]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وهذا وجه آخر لتحریم الفعل التشریعیّ بتطبیق کبریٰ اُخریٰ محرّمة علیه.‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ هتک الحرمة لیس من المحرّمات الشرعیّة، بل هو من‏‎ ‎‏المقبّحات العقلائیّة أو العقلیّة فی محیط خاصّ حسب العادات، ولو کان حراماً‏‎ ‎‏شرعاً وقبیحاً عقلاً، لما کان قابلاً للاستثناء والتخصیص.‏

مثلاً :‏ هتک حرمة المسجد لو کان محرّماً شرعاً ومقبَّحاً عقلاً، لما کان‏‎ ‎‏یرخّص الشرع فی موجباته التی لاشبهة فی جوازها، کالنوم، والنخامة، والبصاق‏‎ ‎‏فیها، وغیر ذلک من المکروهات.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 354
‏ومن تدبّر فی هذه المسائل، یجد أنّ هذه التخیّلات نشأت عن النخوة‏‎ ‎‏الخاصّة والشؤون التی هتکها الإسلام، ومنع عن نشرها، ولولا مخافة بعض‏‎ ‎‏المخالفات، لکشفت النقاب عن بعض البحوث الدخیلة فی الفقه الإسلامیّ الموجبة‏‎ ‎‏لانحراف أذهان الفقهاء ـ رضوان الله علیهم فی آرائهم، والمستلزمة لسوء النظر إلیٰ‏‎ ‎‏حقیقة الإسلام.‏

وثانیاً :‏ لو کان محرّماً یلزم تسلسل المحرّمات؛ لأنّ الدخول فی المعصیة من‏‎ ‎‏هتک الحرمة، فیکون حراماً، ویلزم منه موضوع محرّم آخر وهتک حرمة اُخریٰ‏‎ ‎‏وهکذا، کما لایخفیٰ فتدبّر.‏

وثالثاً :‏ فی الفعل المتجرّیٰ به والعمل التشریعیّ لایلزم قبح العمل بذاته‏‎ ‎‏وبعنوانه الذاتیّ، بل القبیح هو السبب المتسبّب به إلیٰ ذلک القبیح الذی لایتحقّق إلاّـ‏‎ ‎‏بذلک الفعل والعمل، وعنوان السبب موجب لانتزاع القبیح، ویکون من الواسطة فی‏‎ ‎‏العروض، دون الثبوت، وقد تقرّر أنّ الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة ترجع‏‎ ‎‏إلی الحیثیّات التقییدیّة، وتکون عناوین لموضوعات الإدراکات العقلیّة حقیقة‏‎[6]‎‏.‏

فبالجملة تحصّل :‏ أنّ حرمة الفعل التشریعیّ ممنوعة، وماهو المحرّم هو‏‎ ‎‏عنوان «الإتیان بالصلاة تشریعاً» لا نفس الطبیعة.‏

‏مع أنّه یلزم أن یکون کلّ محرّم تشریعیّ محرّماً ذاتاً؛ لأنّ حقیقة الحرمة‏‎ ‎‏التشریعیّة هی حرمة الإسناد قولاً أو فعلاً، وحقیقة الحرمة الذاتیّة هی حرمة الفعل‏‎ ‎‏والمسند، ولو کانت حرمة إسناد المشروعیّة مستلزمةً لحرمة المشروع، یلزم کون‏‎ ‎‏الإسناد والمسند محرّماً.‏

‏نعم، إن قلنا : بأنّه فی مورد الحرمة الذاتیّة، لایمکن إتیان الفعل بداعی القربة‏‎ ‎‏والرجاء، بخلاف الحرمة التشریعیّة ، یحصل الفرق بینهما من هذه الناحیة، فتأمّل.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 355
‏ثمّ إنّه یلزم أن یکون الفعل فی هذه الصورة مجمع الأمر والنهی، وهذه معضلة‏‎ ‎‏ستمرّ علیک مع حلّها فی التنبیه الثالث إن شاء الله تعالیٰ .‏

الصورة الثانیة :‏ ما إذا کان الفعل المأتیّ به تشریعاً غیر مأمور به واقعاً،‏‎ ‎‏فوجه الصحّة هنا ما اُشیر إلیه فی الصورة الاُولیٰ: وهو أنّ الفعل المأتیّ به تشریعاً‏‎ ‎‏مشتمل علیٰ قصد القربة، وإلاّ فلا یکون تشریعاً؛ ضرورة أنّ حقیقة التشریع هی‏‎ ‎‏الإسناد مع عدم العلم، الأعمّ من العلم بالعدم، أو الشکّ، أو الظنّ، وعلیٰ هذا وإن لم‏‎ ‎‏یعقل الجزم بأنّه من الشرع، إلاّ أنّه یمکن التجزّم بذلک فی مقابل الإتیان به استهزاءً‏‎ ‎‏وجزافاً، وهذا المعنیٰ لایحصل إلاّ مقترناً بالقربة، کما فی فعل المرائی، فإنّه یأتی‏‎ ‎‏بالعبادة للإرائة، ویعبد الله تعالیٰ ریاءً، فالمشرّع بالعبادة یعبد الله تعالیٰ بما لیس من‏‎ ‎‏الدین ناسباً إیّاه إلیه. فعلیٰ هذا تصحّ عبادته؛ لاقترانها بما هو شرطها من غیر لزوم‏‎ ‎‏کونها مورد الأمر حسب التحقیق.‏

‏وأمّا وجه البطلان ، فالوجوه السابقة الثلاثة غیر ناهضة ، کما عرفت‏‎ ‎‏مناشئ ضعفها.‏

‏نعم، الوجه الرابع الذی أبدعناه؛ من أنّ النهی عن العبادة تشریعاً یرجع إلیٰ‏‎ ‎‏مثل النهی عن العبادة فی الغصب، لا بمعنیٰ أن یکون النهی إرشاداً محضاً، بل کما أنّ‏‎ ‎‏النهی عن الصلاة فی الغصب یفید الحرمة التکلیفیّة بالنظر إلیٰ ذات المنهیّ، ویفید‏‎ ‎‏اشتراط المأمور به بالأمر بالصلاتیّ؛ بأن لایکون فی الغصب بالنظر إلیٰ وقوعه فی‏‎ ‎‏محیط المرکّبات، کذلک النهی عن العبادة تشریعاً یفید الحرمة الذاتیّة المتعلّقة‏‎ ‎‏بالتشریع، ویفید اشتراط المأمور به بأن لایکون مقترناً بالتشریع، وأمّا نفس الاقتران‏‎ ‎‏به فهو لایفید الفساد، کما لایلزم من اقتران الصلاة بالنظر إلی الأجنبیّة فسادها.‏

إن قلت :‏ بناءً علیٰ هذا لایبقیٰ للحرمة التشریعیّة معنیً وراء الحرمة الذاتیّة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 356
قلت :‏ نعم، إنّ التشریع من المحرّمات الذاتیّة بلا کلام، وعلیه النصّ‏‎[7]‎‎ ‎‏والفتویٰ‏‎[8]‎‏، ویکون مثل شرب الخمر، وأمّا الفعل المأتیّ به تشریعاً فهو مورد‏‎ ‎‏الخلاف، وقد أنکرنا حرمته وقبحه الموجب لحرمته‏‎[9]‎‏.‏

‏بل لنا أن نقول : لو کان فی مورد الإتیان بالتشریع الذی هو الأمر الخارجیّ‏‎ ‎‏المشتمل علی النسبة إلی الشرع العمل محرّماً، یلزم تعدّد العقاب: عقاب علی العمل‏‎ ‎‏المأتیّ به القبیح لأجل التشریع، وعقاب علیٰ نفس التشریع الذی هو المحرّم ذاتاً،‏‎ ‎‏وهذا ممّا لایمکن المساعدة علیه بالضرورة.‏

فبالجملة تحصّل :‏ أنّ فی موارد الحرمة التشریعیّة یکون المحرّم هو إسناد‏‎ ‎‏وجوب الصلاة، أو إسناد مندوبیّتها إلیه تعالیٰ، مع عدم العلم بذلک، أو الإتیان بالفعل‏‎ ‎‏بعنوان أنّه مشروع فی الشریعة الإسلامیّة متجزّماً به، وأمّا الجزم فهو مع عدم العلم‏‎ ‎‏غیرمعقول بالضرورة، وأمّانفس الصلاة فهیخارجة عن مصبّ التحریم بعنوانها الذاتیّ.‏

وإن شئت قلت :‏ معروض الحرمة التشریعیّة عنوان «الإتیان» دون ذات‏‎ ‎‏الصلاة والطبیعة، فلا وجه لبطلانها من حیث هی هی؛ لعدم المفسدة فیها.‏

‏بل فی الصورة الاُولیٰ تکون هی المأمور بها، مع أنّه لایعقل اجتماع الأمر‏‎ ‎‏والنهی، مثلاً إذا اعتقد المشرّع أنّ صلاة الأعرابیّ لیست من الشرع، فأتیٰ بها‏‎ ‎‏تشریعاً، وکانت مورد الأمر مثلاً فی یوم الغدیر، فإنّه تصحّ صلاته وإن کان فی‏‎ ‎‏الإتیان بها بالعنوان المزبور آثماً وعاصیاً.‏

‏وهکذا فی صورة عدم کونها مورد الأمر، وکانت ذات مصلحة واقعیّة وملاک‏‎ ‎‏حسن، فإنّه إذا تبیّن له ذلک صحّت صلاته أیضاً.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 357
‏نعم، بناءً علیٰ ما عرفت من أنّ النهی المتعلّق بإتیان الصلاة تشریعاً، یفید‏‎ ‎‏التخصیص والتقیید زائداً علیٰ إفادته الحرمة التکلیفیّة ـ کما یکون کذلک فیما إذا‏‎ ‎‏تعلّق بالصلاة فی الغصب والنجس ـ تصبح باطلة.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ النسبة بین استحباب صلاة الأعرابی وبین حرمة‏‎ ‎‏الإتیان بها تشریعاً، عموم من وجه؛ فإنّ الصلاة مستحبّة سواء اُتی بها تشریعاً، أم لا،‏‎ ‎‏والتشریعَ فی العبادة محرّم سواء کانت مورد الأمر واقعاً، أم لم تکن، وعند ذلک لا‏‎ ‎‏معنیٰ لکونها مخصّصة لإطلاق دلیل الاستحباب، کما فی موارد الغصب.‏

‏نعم، بناءً علیٰ ما تحرّر منّا فی التعبّدی والتوصّلی؛ من عدم صحّة الاجتزاء‏‎ ‎‏بالمصداق المحرّم أو الملازم له عن المأمور به حسب الفهم العرفیّ‏‎[10]‎‏، یشکل‏‎ ‎‏الصحّة کما فی المجمع، أو یقال بإفادته الشرطیّة ولو کانت النسبة عموماً من وجه‏‎ ‎‏فی المقام، فتدبّر جیّداً.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 358

  • )) قوانین الاُصول 1 : 159 / السطر 9، الفصول الغرویّة: 141 / السطر 6 .
  • )) نهایة الاُصول 1 : 110 .
  • )) یأتی فی الصفحة 358 ـ 360 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 470 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 398 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 211 .
  • )) یونس (10) : 59 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 49 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 470 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 184 ـ 185 .