المقصد الثالث فی النواهی

التنبیه الأوّل : حول فساد المعاملة النوعیّة بالنهی عنها وعدمه

التنبیه الأوّل : حول فساد المعاملة النوعیّة بالنهی عنها وعدمه

‏ ‏

‏إذا تعلّق النهی بالمعاملة النوعیّة وکانت المعاملة بنوعها مورد النهی‏‎ ‎‏التحریمیّ، کالقمار مثلاً، فلایتمّ الوجه الذی ذکرناه لفساد المعاملة‏‎[1]‎‏؛ لعدم وجه‏‎ ‎‏لکونه إرشاداً إلی شیء، کما هو الواضح.‏

‏وربّما یستفاد من کلام جمع بعض وجوه استدلّ بها علی دلالة النهی علی‏‎ ‎‏الفساد مطلقاً من غیر فرق بین کون النهی متعلّقاً بحصّة من المعاملة النوعیّة، أو‏‎ ‎‏بنفسها، ولابأس بالإشارة إلیها وإلیٰ أهمّها:‏

منها :‏ «أنّ النهی إذا تعلّق بنفس الإیجاد والإنشاء فهو لایقتضی الفساد؛ إذ‏‎ ‎‏حرمة الإیجاد لاتقتضی مبغوضیّة الموجَد، وأمّا لو تعلّق النهی بنفس الموجَد‏‎ ‎‏والمنشأ فهو یقتضی الفساد؛ لخروج المنشأ حینئذٍ عن تحت اختیاره وسلطانه، ولا‏‎ ‎‏قدرة علیه فی عالم التشریع، والمانع التشریعیّ کالمانع العقلیّ.‏

‏ومن هنا کان أخذ الاُجرة علی الواجبات حراماً؛ لخروج الفعل بالإیجاب‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 378
‏الشرعیّ تحت قدرته ونفوذه»‏‎[2]‎‏ انتهیٰ.‏

أقول :‏ هذا ما أفاده العلاّمة النائینیّ ‏‏قدس سره‏‏ وقد تبیّن فساده فیما مرّ‏‎[3]‎‏، وفی‏‎ ‎‏المکاسب المحرّمة، وفی کتاب الإجارة.‏

وإجماله :‏ أنّ العجز المدّعیٰ والخروج عن تحت القدرة إمّا واقعیّ، أو ادعائیّ،‏‎ ‎‏فإن کان واقعیّاً فلا معنیٰ للتکلیف أیضاً، وإن کان ادعائیّاً فلابدّ من قیام الدلیل‏‎ ‎‏الشرعیّ علیٰ نفوذ ذلک الادعاء، وعلیٰ إطلاق مصبّ الدعویٰ؛ حتّیٰ یترتّب علیه‏‎ ‎‏أحکامه وآثاره الخاصّة، دون الأثر الواحد؛ وهو نفس التکلیف المتقوّم بالقدرة.‏

‏ومن الأباطیل الشائعة : «أنّ المانع الشرعیّ کالمانع العقلیّ»‏‎[4]‎‏ لأنّه من‏‎ ‎‏المقایسة والتخییل، ومن القول بغیر علم. ومجرّد اقتضاء الذوق شیئاً لایکفی فی‏‎ ‎‏منطق الشرع، کما هو البارز الظاهر.‏

ومنها :‏ وهو ما مرّ منّا فی مطاوی بحوثنا السابقة؛ من أنّ صحّة کلّ معاملة‏‎ ‎‏وکلّ مرکّب اعتبر سبباً لأمر آخر مترتّب علیه، منوط برضا الشرع وطیب الشریعة،‏‎ ‎‏وتکون المعاملات بغیر الرضا وبغیر الإمضاء باطلة‏‎[5]‎‏. وهذا ما هو المشهور عنهم‏‎ ‎‏من أصالة الفساد فیها؛ قضاءً لحقّ الاستصحاب‏‎[6]‎‏.‏

‏وإذا کانت الصحّة مشروطة بذلک، فکیف یعقل الجمع بینهما وبین الحرمة‏‎ ‎‏التکلیفیّة الکاشفة عن المبغوضیّة، والمساوقة للکراهة المضادّة للرضا والطیب‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 379
‏بالضرورة؟! من غیر فرق بین ما کانت الحرمة متعلّقة بالسبب، أو المسبّب، أو غیر‏‎ ‎‏ذلک؛ لأنّ مبغوضیّة کلّ واحد من هذه الجهات، توجب السرایة إلی الجهة الاُخریٰ،‏‎ ‎‏ولایمکن حینئذٍ الجمع بینها وبین الرضا والطیب المتعلّق بالآخر؛ لعدم إمکان‏‎ ‎‏التفکیک بینها، وقد تبیّن فی محلّه: أنّ المتلازمین لایمکن أن یکونا محکومین‏‎ ‎‏بالحکمین المتخالفین، أو محکومین بالحبّ والبغض والرضا والکراهة‏‎[7]‎‏، ولا شبهة‏‎ ‎‏فی تلازم السبب والمسبّب، أو تلازم الحکم والموضوع وهکذا، فتحریم البیع‏‎ ‎‏الإنشائیّ لایجتمع مع الرضا والطیب النفسانیّ المتعلّق بترتّب الأثر علیه.‏

لایقال :‏ قد اشتهر جواز کون الإیجاد مبغوضاً، دون الوجود البقائیّ، کما فی‏‎ ‎‏تصویر ذوات الأرواح وتجسیمها، فإنّ المحرّم حسبما ذهب إلیه جمع هو الإیجاد‏‎ ‎‏المصدریّ، وأمّا الوجود الحاصل المصدریّ فهو أیضاً ـ لما لاینفکّ عن الإیجاد ـ‏‎ ‎‏محرّم، ولکنّ الوجود البقائیّ المستند إلی المادّة والهیولیٰ یکون حلالاً وجائزاً،‏‎ ‎‏ویجوز اقتناؤها وبیعها‏‎[8]‎‏، فعلیه لا بأس بأن یقاس ما نحن فیه بذلک، فیکون البیع‏‎ ‎‏الإنشائیّ والإیجادیّ محرّماً ومبغوضاً ، ولکنّ البیع المسبّبی الباقی ببقاء العوضین‏‎ ‎‏یکون ممضیٰ.‏

لأنّا نقول :‏ هذا ما یوجد فی کلمات جمع منهم، إلاّ أنّه غیر تامّ؛ ضرورة أنّه‏‎ ‎‏فی المثال لایکون الإیجاد أو السببیّة اعتباریّین حتّیٰ یتقوّما بالإمضاء، فلا مانع من‏‎ ‎‏التفکیک المزبور عقلاً، وأمّا فیما نحن فیه فلایتمّ؛ لما عرفت من أنّ الإیجاد والسببیّة‏‎ ‎‏لایتمّ إلاّ بضمّ الرضا والطیب، وهذا لایجتمع مع الکراهة الشدیدة المستکشفة بالنهی‏‎ ‎‏التحریمیّ.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 380
‏ومن العجیب ما أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه : «من أنّه لم تتحقّق مساوقته‏‎ ‎‏للفساد؛ إذ أیُّ منافاة بین تحقّق المسبّب غیر المبغوض، وبین حرمة التسبّب؟! فإنّ‏‎ ‎‏الحیازة تتحقّق ولو بالآلة الغصبیّة المحرّمة تکلیفاً»‏‎[9]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وأنت خبیر بما فیه؛ فإنّ فی المثال تکون الحیازة ممضاةً، والغصب محرّماً،‏‎ ‎‏والنسبة عموماً من وجه، فیکون من قبیل البیع فی المغصوب. وأمّا فی المقام فیکون‏‎ ‎‏النسبة بین المحرّم والممضاة عموماً وخصوصاً مطلقین؛ ضرورة أنّ البیع الربویّ‏‎ ‎‏محرّم، والبیع ممضی، وربّما تکون النسبة متساویة کما فی المعاملة القماریّة، فإنّ‏‎ ‎‏المضرّ هی الماهیّة النوعیّة.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ الممضیٰ هی العقود، فتکون النسبة عموماً مطلقاً.‏

وعلیٰ کلّ تقدیر :‏ تثبت الملازمة بین ما هو المحرّم، وما هو المحلّل والممضیٰ‏‎ ‎‏من ناحیة، وهذا أیضاً من المستحیل، کما تحرّر فی محلّه‏‎[10]‎‏، فلیتأمّل.‏

وبالجملة :‏ الحیازة بالآلات الغصبیّة إذا کانت محرّمة، ومورد الکراهة‏‎ ‎‏والمبغوضیّة لأجل النصّ الخاصّ، فهی لا یتعلّق بها الرضا والطیب النفسانیّ‏‎ ‎‏والعقلائی المعتبر فی صحّتها ونفوذها.‏

‏وربّما یقال بعدم اشتراط رضا الشرع وطیب الشریعة فی نفوذ التجارات‏‎ ‎‏والمعاملات، والذی هو المضرّ بها ردعها فی الإسلام، فلایلزم الجمع بین المتضادّات‏‎ ‎‏بإنکار الکبریٰ دون الصغری.‏

أقول :‏ هذا ما یستظهر من الوالد المحقّق فی هذا المقام، ومن بعض السادة فی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 381
‏کتاب الإجارة‏‎[11]‎‏.‏

‏وقال فی «تهذیب الاُصول» : «أضف إلیٰ ذلک أنّ المعاملات عقلائیّة،‏‎ ‎‏والعقلاء علی أثر ارتکازهم وبنائهم حتّیٰ یردع عنه الشارع»‏‎[12]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وأنت خبیر بما فیه؛ ضرورة أنّ قضیّة ردع الشرع عن طائفة من المعاملات،‏‎ ‎‏ومقتضیٰ أنّ الشرع لیس بناؤه فی بیان الأحکام والقوانین علی الإعجاز والتکهّن‏‎ ‎‏والإخبار عمّا یأتی؛ هو اعتبار عدم الردع کما علیه الشهرة‏‎[13]‎‏.‏

‏هذا، ویکفی للردع أدلّة الاستصحاب، فمع الشکّ فی النقل والانتقال ـ لأجل‏‎ ‎‏احتمال مردوعیّة المعاملة المشکوکة بحسب الواقع ـ لابدّ وأن نرجع إلی الحجّة‏‎ ‎‏الشرعیّة، ولا تکفی الحجّة العرفیّة بذاتها، ولا حاجة فی ردعها إلی الأدلّة الخاصّة،‏‎ ‎‏بل یکفی إطلاق قوله: ‏«لاتنقض الیقین بالشکّ»‎[14]‎‏ فلیتأمّل جیّداً.‏

‏ثمّ إنّ أیّ بیان أوسع وأظهر للردع من التحریم، وأیّ مخصّص أقویٰ وأمتن‏‎ ‎‏من المخصّص المحدّد للعامّ، والمتکفّل لحکم ضدّ حکم العامّ بالنسبة إلیٰ مورد‏‎ ‎‏التخصیص والتقیید؟! فما أفاده ـ دام ظلّه بقوله: «ومثل ذلک لایکفی ردعاً، ولا یعدّ‏‎ ‎‏مخصّصاً ولا مقیّداً لما دلّ علیٰ جعل الأسباب الشرعیّة بنحو القانون»‏‎[15]‎‏، غیر موافق‏‎ ‎‏لاُفق التحقیق، کما عرفت بتفصیل‏‎[16]‎‏.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 382
فبالجملة :‏ تحصّل إلیٰ هنا؛ أنّ قضیّة الإقرار بهذه الکبریٰ، عدم إمکان الجمع‏‎ ‎‏بین الرضا والمبغوضیّة؛ إمّا مطلقاً سواء کانت النسبة بین مورد الرضا والبغض،‏‎ ‎‏عموماً وخصوصاً مطلقین کما هو الحقّ، أو فی مثل القمار والظهار، فتکون قضیّة‏‎ ‎‏النهی التحریمیّ فساد المعاملة، سواء تعلّق النهی بحصّة منها، أو بالطبیعة النوعیّة،‏‎ ‎‏وسواء کان مورد النهی هو السبب، أو المسبّب، أو التسبّب، أو غیر ذلک ممّا یرجع‏‎ ‎‏إلی المعاملة.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 383

  • )) تقدّم فی الصفحة 363 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 471 ـ 472 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 366 ـ 367 .
  • )) مطـارح الأنظـار : 56 / السطر 36 ، بدائع الأفکار ، المحقّق الرشتی : 365 / السطر22 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 318 و 472 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 138 ـ 139 و 362 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 462 ـ 463، نهایة الأفکار 2: 456، مناهج الوصول 2 : 157 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثالث : 314 ـ 315 .
  • )) مجمع الفائدة والبرهان 2 : 93، المکاسب، الشیخ الأنصاری: 23 ـ 24، المکاسب المحرّمة، الإمام الخمینی قدس سره 1 : 268 ـ 293 .
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 417 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثالث : 314 ـ 315 .
  • )) مستند العروة الوثقیٰ، کتاب الإجارة: 113 و 210 .
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 417 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 209 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 8 / 11، وسائل الشیعة 1 : 245، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1 .
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 417 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 368 .