المقصد الثانی فی الأوامر

الأمر الثانی : اعتبار العلوّ والاستعلاء فی مفهوم الأمر

الأمر الثانی

حول اعتبار العلوّ والاستعلاء فی مفهوم الأمر

‏ ‏

‏اختلفت کلماتهم فی اعتبار العلوّ والاستعلاء فی مفهوم «الأمر» وعدمه، علی‏‎ ‎‏أقوال: فمن قائل: بأنّهما معاً معتبران؛ أمّا الأوّل: فللوجدان والتبادر، وأمّا الثانی:‏‎ ‎‏فلعدم صدقه علیٰ طلب المولیٰ من العبد فی محیط الاُنس والتلطیف، وإلیه ذهب‏‎ ‎‏الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ‏‎[1]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ التلطّف والالتماس والاستدعاء یضرّ بآمریّته؛ لاشتراط أعدامها فی‏‎ ‎‏صدق «الأمر» فالدلیل أخصّ من المدّعیٰ.‏

‏ومن قائل بعدم اعتبارهما فیه؛ لأنّ الطلب ینقسم إلیٰ قسمین: طلب یسمّیٰ‏‎ ‎‏«أمراً» وطلب یسمّیٰ «دعاءً» ویعبّر عنهما بالفارسیّة «فرمان» و «خواهش» فإذا‏‎ ‎‏بعث أحد أحداً بداعی إثبات أنّ نفس أمره باعث، فهو أمر، وإذا کان بداعی انبعاثه‏‎ ‎‏عن البعث مع ضمّ الضمائم الاُخر إلیه ـ من الالتماس والدعاء ـ فهو لیس أمراً،‏‎ ‎‏فلایعتبر فی مفهومه العلوّ والاستعلاء.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 11
وبعبارة اُخریٰ :‏ لاینبغی أن یصدر فی الفرض الأوّل إلاّ ما یعدّ أمراً، وفی‏‎ ‎‏الفرض الثانی إلاّ ما لا یعدّ أمراً. هذا ما أفاده سیّدنا الاُستاذ البروجردیّ‏‎[2]‎‏.‏

‏ووهنه واضح؛ لعدم إمکان الالتزام بعدم أخذهما أو واحد منهما فی مفهومه،‏‎ ‎‏مع عدم کونه لائقاً إلاّ من الشخص المزبور، فالتضییق من غیر التقیید ممتنع، ومع‏‎ ‎‏عدم التقیید فلابدّ من الصدق فی الفرضین.‏

ومن قائل :‏ إنّ المأخوذ فیه هو العلوّ، وعلیه أکثر الأعلام‏‎[3]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ مجرّد العلوّ الذاتیّ الواقعیّ، غیر کافٍ فی صدق «الأمر» وجداناً؛‏‎ ‎‏فإنّ الأمر أخصّ منه، کما إنّ کلمة «فرمان» فی الفارسیّة أخصّ من «الأمر» فإنّه‏‎ ‎‏مأخوذ فیه بعض اللواحق الاُخر.‏

وقد یقال :‏ بأنّ المعتبر هو العلوّ مع عدم الانخفاض‏‎[4]‎‏.‏

وقد یقال :‏ باعتبار العلوّ، أو الاستعلاء، علیٰ سبیل منع الخلوّ‏‎[5]‎‏، والمقصود‏‎ ‎‏اعتبار العلوّ الحقیقیّ أو الادعائیّ؛ فإنّه أیضاً کافٍ فی صدقه‏‎[6]‎‏.‏

‏وتوهّم امتناع تصویر الجامع کما فی کتاب العلاّمة الأراکیّ‏‎[7]‎‏، فی غیر محلّه؛‏‎ ‎‏فإنّ ماهو الجامع هو العلوّ المزبور، فتدبّر. هذا ما عندهم.‏

‏والذی ینبغی الإشارة إلیه أوّلاً : هو أنّ من الواجبات الإلهیّة، الأمر‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 12
‏بالمعروف والنهی عن المنکر، وبناء الفقهاء إلیٰ زماننا هذا علیٰ وجوبه العمومیّ علیٰ‏‎ ‎‏کافّة الناس، من غیر تقیید بکون الآمِر لابدَّ وأن یکون عالیاً مستعلیاً، بل یجب‏‎ ‎‏عندهم الأمر بالمعروف علی السافل بالنسبة إلی العالی المستعلی، وعند ذلک یلزم‏‎ ‎‏أحد أمرین:‏

‏إمّا الالتزام بعدم اعتبارهما مفهوماً؛ وأنّ مطلق البعث أمر ولو کان مصحوباً‏‎ ‎‏بالاستدعاء والالتماس.‏

‏وإمّا الالتزام بأنّ ماهو الواجب لیس مشترکاً فیه کافّة الناس، بل هو‏‎ ‎‏مخصوص بجمعیّة معیّنة لذلک وهذا من المقامات والمناصب، کما هو الآن کذلک فی‏‎ ‎‏بعض الدول الإسلامیّة.‏

‏والذی یساعده الذوق وبعض الآیات والروایات هو الثانی، وما هو قضیّة‏‎ ‎‏الاتفاق والإجماع هو الأوّل.‏

وتوهّم :‏ أنّ عمومیّة الحکم تستفاد من دلیل آخر، غیر تامّ.‏

إن قلت :‏ ماهو محلّ البحث هو الأمر المولویّ، وأمّا سائر الأوامر ـ ومنها‏‎ ‎‏الإرشادیّات ـ فلایعتبر فیها العلوّ والاستعلاء، فعلیه یسقط الإشکال من أساسه‏‎[8]‎‏.‏

قلت أوّلاً :‏ تقسیم الأوامر إلیٰ هذه الأقسام، دلیل علیٰ أنّ «الأمر» یصدق علیٰ‏‎ ‎‏تلک البعوث والتحریکات.‏

وثانیاً :‏ المسألة لغویّة، والأصحاب اعتبروا العلوّ؛ لأجل التبادر، وقد ورد فی‏‎ ‎‏الکتاب والسنّة کلمة ‏«الأمر بالمعروف»‏ إلیٰ حدّ لاتعدّ ولا تحصیٰ، فالآمرون‏‎ ‎‏بالمعروف ینحصرون بالذین لهم العلوّ الواقعیّ؛ قضاءً لحقّ کلمة «الأمر» ولعلّ الأمر‏‎ ‎‏فی کلمة «الناهین» کذلک.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 13
وتوهّم :‏ أنّ هذه المسألة اُصولیّة؛ بدعویٰ: أنّ العلوّ معتبر فی الأوامر التی‏‎ ‎‏یجب إطاعتها، دون مطلق الأمر، غیر تامّ؛ لمخالفة کلماتهم لذلک، ولأنّ الأوامر‏‎ ‎‏الواجبة إطاعتها، لیست مقیّدة بکونها صادرة عن علوّ؛ فإنّ إطاعة الزوج والوالد‏‎ ‎‏والسیّد، واجبة علی الزوجة والولد والعبد، مع أنّ من الممکن علوّ هؤلاء علیهم‏‎ ‎‏فلاتخلط.‏

‏والذی هو الحقّ فی المسألة الفقهیّة المشار إلیها، غیر واضح بعدُ عندی، وقد‏‎ ‎‏احتملنا اختصاص ذلک بطائفة؛ وأنّ الأمر بالمعروف من المناصب التی لابدّ من‏‎ ‎‏کونها بید الحاکم والوالی، وإلاّ یلزم فی بیان معروف واحد منکرات عدیدة، کما‏‎ ‎‏نشاهدها بالوجدان، ولا نبالی بالالتزام بذلک وإن قلنا: بأنّ العلوّ غیر معتبر فی‏‎ ‎‏صدق «الأمر» لأنّ دلیل تلک المسألة لیس هذا الوجه فقط، بل هذا من المؤیّدات.‏

‏وأمّا ماهو الحقّ فی هذه المسألة : فهو أنّ تقسیم الأوامر إلی الأوامر‏‎ ‎‏المختلفة، کالامتحانیة، والإرشادیّة والغیریّة، وإطلاقَ «فعل الأمر» فی الکتب الأدبیّة‏‎ ‎‏علی الصیغ الخاصّة من غیر النظر إلی القید الزائد، ومقابلةَ النهی مع الأمر، وعدم‏‎ ‎‏اعتبار قید العلوّ والاستعلاء فیه، مع أنّهما یستعملان معاً فی الکتاب والسنّة، وذهابَ‏‎ ‎‏الفقهاء من الفریقین إلیٰ وجوب الأمر بالمعروف علیٰ کافّة الناس بالنسبة إلیٰ کلّ‏‎ ‎‏أحد، من غیر إشعارهم بخصوصیّة العلوّ فی الآمرین، وحکایةَ فعل من بعث العالی‏‎ ‎‏إلی المعروف «بأنّه أمر بکذا» من غیر استعلاء منه فی ذلک، وأنّه إذا صنع ذلک امتثل‏‎ ‎‏قوله تعالیٰ: ‏‏«‏الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏»‏‎[9]‎‏ وقوله تعالیٰ: ‏‏«‏تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏»‏‎[10]‎‎ ‎‏وهکذا من غیر انتظار، وغیرَ ذلک ممّا یطلع علیه الفکور، کلّها شاهدة علیٰ عدم أخذ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 14
‏العلوّ والاستعلاء فی مفهومه.‏

‏ولاینبغی لأرباب النظر الخلط بین الاستعمالات الخاصّة فی اُفق من الزمان‏‎ ‎‏الواضحة مناشئها، وبین ماهو معنی اللغة والمادّة.‏

‏وممّا یؤید مقالتنا : أنّ الأوامر الصادرة من الأزواج والآباء والسادة؛ بالنسبة‏‎ ‎‏إلی الزوجات والأبناء والعبید، واجبة الإطاعة، مع أنّها کثیراً ما لا تصدر من العالی،‏‎ ‎‏کیف؟! ویمکن کون الزوجة عالیة علیٰ زوجها بالعلم والمال والجاه والمقام، وهکذا‏‎ ‎‏فی الابن والعبد، ولو کانت هی الالتماس والاستدعاء، لما کان وجه لوجوب الطاعة‏‎ ‎‏عند العقلاء، کما لایخفیٰ.‏

‏وتوهّم کفایة الاستعلاء، کتوهّم : أنّ العلوّ الاعتباریّ المزبور کافٍ، ومن‏‎ ‎‏الممکن دعویٰ: أنّ الاستعلاء المعتبر لیس إلاّ العلوّ؛ لعدم إمکان التفکیک بینهما، لأنّ‏‎ ‎‏المراد من «العلوّ» هو العنوان المظهر، لا الأوصاف الذاتیّة، فعلیه یکفی العلوّ، وهو‏‎ ‎‏فی الأمثلة المزبورة موجود.‏

‏وأنت خبیر بفساد ذلک؛ فإنّ العلوّ المعتبر هو المعنی العرفیّ، فربّما یکون‏‎ ‎‏لهؤلاء المذکورین، علوّ عرفیّ علیٰ مقابلیهم، مع وجوب إطاعتهم علیٰ هؤلاء،‏‎ ‎‏فلاتغفل.‏

‏وممّا یؤکّد مرامَنا؛ تقسیمه إلی الأوامر الواجبة والمندوبة، مع أنّ المتفاهم‏‎ ‎‏علیٰ ما یتراءیٰ من مرادفاته کما فی الفارسیّة ـ وهو کلمة «فرمان» ـ لایناسب‏‎ ‎‏الندب والترخیص فی الترک، فیعلم من ذلک: أنّ کلمة «فرمان» لیست مساوقة‏‎ ‎‏«للأمر» ولا کلمة «دستور» مساوقة له.‏

‏ثمّ إنّ المراجعة إلیٰ کتب اللغة وما وصل منهم إلینا، تعطی عدم صحّة ما بنوا‏‎ ‎‏علیه، والفحص عن المشتقّات یؤدّی إلی الاطمئنان بفساد ماقالوا، ولیس فیها شیء‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 15
‏یعطی اعتبار العلوّ أو الاستعلاء فی صدق هذه الکلمة‏‎[11]‎‏.‏

‏بل المستفاد من اشتقاقاتها عکس ذلک، فقال فی «الأقرب»‏‎[12]‎‏: «معنیٰ‏‎ ‎‏«‏یَأْتَمِرُونَ بِکَ‏»‏‎[13]‎‏ أی یأمر بعضهم بعضاً بقتلک، وفی قتلک . والأمیر قائد الأعمیٰ،‏‎ ‎‏والجار، والمشاوَر، وزوج المرأة».‏

وأنت تعلم :‏ أنّ الکلّ مشترک فی معنی واحد وهو الأمر، وهو البعث الأعمّ من‏‎ ‎‏العالی أو الدانی.‏

‏وأمّا اطلاق «أولی الأمر» أو «صاحب الأمر» علی الرئیس والسلطان،‏‎ ‎‏فلایستلزم قصور الکلمة فی الصدق علی الآخر، فلیتدبّر.‏

‏وممّا یؤیّد ذلک تفسیره فی اللغة بـ «الطلب» مع عدم اعتبارهما فیه، کما‏‎ ‎‏اُشیر إلیه‏‎[14]‎‏.‏

‏وما ذکرناه سابقاً‏‎[15]‎‏ فهو من باب إلزام الخصم. نعم لاشبهة فی أنّ الطلب أعمّ‏‎ ‎‏من الأمر؛ لأنّه إذا طلبه بالإشارة أو بسائر الجمل، یقال: «طلبه» حقیقةً، ولایقال:‏‎ ‎‏«أمره» إلاّ لکونها مفیدة فائدة الأمر.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 16

  • )) مناهج الوصول 1 : 239 ـ 240، تهذیب الاُصول 1 : 133 .
  • )) نهایة الاُصول : 86 ـ 87 .
  • )) بدائع الأفکار، المحقّق الرشتی: 201، کفایة الاُصول: 83، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینیّ) الکاظمی 1 : 129، مقالات الاُصول 1 : 207، محاضرات فی اُصول الفقه 2 : 13 .
  • )) هدایة المسترشدین : 132 / السطر 21 ـ 23 .
  • )) إشارات الاُصول : 80 .
  • )) نفس المصدر .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 196 .
  • )) لاحظ نهایة النهایة 1 : 90 .
  • )) التوبة (9) : 112 .
  • )) آل عمران (3) : 110 .
  • )) لاحظ مقاییس اللّغة 1 : 137 ، المصباح المنیر : 29 ، لسان العرب 1 : 203 .
  • )) أقرب الموارد 1 : 18 .
  • )) القصص (28) : 20 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 6 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 9 .