الأمر الثانی
حول اعتبار العلوّ والاستعلاء فی مفهوم الأمر
اختلفت کلماتهم فی اعتبار العلوّ والاستعلاء فی مفهوم «الأمر» وعدمه، علی أقوال: فمن قائل: بأنّهما معاً معتبران؛ أمّا الأوّل: فللوجدان والتبادر، وأمّا الثانی: فلعدم صدقه علیٰ طلب المولیٰ من العبد فی محیط الاُنس والتلطیف، وإلیه ذهب الوالد المحقّق ـ مدّظلّه .
وفیه : أنّ التلطّف والالتماس والاستدعاء یضرّ بآمریّته؛ لاشتراط أعدامها فی صدق «الأمر» فالدلیل أخصّ من المدّعیٰ.
ومن قائل بعدم اعتبارهما فیه؛ لأنّ الطلب ینقسم إلیٰ قسمین: طلب یسمّیٰ «أمراً» وطلب یسمّیٰ «دعاءً» ویعبّر عنهما بالفارسیّة «فرمان» و «خواهش» فإذا بعث أحد أحداً بداعی إثبات أنّ نفس أمره باعث، فهو أمر، وإذا کان بداعی انبعاثه عن البعث مع ضمّ الضمائم الاُخر إلیه ـ من الالتماس والدعاء ـ فهو لیس أمراً، فلایعتبر فی مفهومه العلوّ والاستعلاء.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 11
وبعبارة اُخریٰ : لاینبغی أن یصدر فی الفرض الأوّل إلاّ ما یعدّ أمراً، وفی الفرض الثانی إلاّ ما لا یعدّ أمراً. هذا ما أفاده سیّدنا الاُستاذ البروجردیّ.
ووهنه واضح؛ لعدم إمکان الالتزام بعدم أخذهما أو واحد منهما فی مفهومه، مع عدم کونه لائقاً إلاّ من الشخص المزبور، فالتضییق من غیر التقیید ممتنع، ومع عدم التقیید فلابدّ من الصدق فی الفرضین.
ومن قائل : إنّ المأخوذ فیه هو العلوّ، وعلیه أکثر الأعلام.
وفیه : أنّ مجرّد العلوّ الذاتیّ الواقعیّ، غیر کافٍ فی صدق «الأمر» وجداناً؛ فإنّ الأمر أخصّ منه، کما إنّ کلمة «فرمان» فی الفارسیّة أخصّ من «الأمر» فإنّه مأخوذ فیه بعض اللواحق الاُخر.
وقد یقال : بأنّ المعتبر هو العلوّ مع عدم الانخفاض.
وقد یقال : باعتبار العلوّ، أو الاستعلاء، علیٰ سبیل منع الخلوّ، والمقصود اعتبار العلوّ الحقیقیّ أو الادعائیّ؛ فإنّه أیضاً کافٍ فی صدقه.
وتوهّم امتناع تصویر الجامع کما فی کتاب العلاّمة الأراکیّ، فی غیر محلّه؛ فإنّ ماهو الجامع هو العلوّ المزبور، فتدبّر. هذا ما عندهم.
والذی ینبغی الإشارة إلیه أوّلاً : هو أنّ من الواجبات الإلهیّة، الأمر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 12
بالمعروف والنهی عن المنکر، وبناء الفقهاء إلیٰ زماننا هذا علیٰ وجوبه العمومیّ علیٰ کافّة الناس، من غیر تقیید بکون الآمِر لابدَّ وأن یکون عالیاً مستعلیاً، بل یجب عندهم الأمر بالمعروف علی السافل بالنسبة إلی العالی المستعلی، وعند ذلک یلزم أحد أمرین:
إمّا الالتزام بعدم اعتبارهما مفهوماً؛ وأنّ مطلق البعث أمر ولو کان مصحوباً بالاستدعاء والالتماس.
وإمّا الالتزام بأنّ ماهو الواجب لیس مشترکاً فیه کافّة الناس، بل هو مخصوص بجمعیّة معیّنة لذلک وهذا من المقامات والمناصب، کما هو الآن کذلک فی بعض الدول الإسلامیّة.
والذی یساعده الذوق وبعض الآیات والروایات هو الثانی، وما هو قضیّة الاتفاق والإجماع هو الأوّل.
وتوهّم : أنّ عمومیّة الحکم تستفاد من دلیل آخر، غیر تامّ.
إن قلت : ماهو محلّ البحث هو الأمر المولویّ، وأمّا سائر الأوامر ـ ومنها الإرشادیّات ـ فلایعتبر فیها العلوّ والاستعلاء، فعلیه یسقط الإشکال من أساسه.
قلت أوّلاً : تقسیم الأوامر إلیٰ هذه الأقسام، دلیل علیٰ أنّ «الأمر» یصدق علیٰ تلک البعوث والتحریکات.
وثانیاً : المسألة لغویّة، والأصحاب اعتبروا العلوّ؛ لأجل التبادر، وقد ورد فی الکتاب والسنّة کلمة «الأمر بالمعروف» إلیٰ حدّ لاتعدّ ولا تحصیٰ، فالآمرون بالمعروف ینحصرون بالذین لهم العلوّ الواقعیّ؛ قضاءً لحقّ کلمة «الأمر» ولعلّ الأمر فی کلمة «الناهین» کذلک.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 13
وتوهّم : أنّ هذه المسألة اُصولیّة؛ بدعویٰ: أنّ العلوّ معتبر فی الأوامر التی یجب إطاعتها، دون مطلق الأمر، غیر تامّ؛ لمخالفة کلماتهم لذلک، ولأنّ الأوامر الواجبة إطاعتها، لیست مقیّدة بکونها صادرة عن علوّ؛ فإنّ إطاعة الزوج والوالد والسیّد، واجبة علی الزوجة والولد والعبد، مع أنّ من الممکن علوّ هؤلاء علیهم فلاتخلط.
والذی هو الحقّ فی المسألة الفقهیّة المشار إلیها، غیر واضح بعدُ عندی، وقد احتملنا اختصاص ذلک بطائفة؛ وأنّ الأمر بالمعروف من المناصب التی لابدّ من کونها بید الحاکم والوالی، وإلاّ یلزم فی بیان معروف واحد منکرات عدیدة، کما نشاهدها بالوجدان، ولا نبالی بالالتزام بذلک وإن قلنا: بأنّ العلوّ غیر معتبر فی صدق «الأمر» لأنّ دلیل تلک المسألة لیس هذا الوجه فقط، بل هذا من المؤیّدات.
وأمّا ماهو الحقّ فی هذه المسألة : فهو أنّ تقسیم الأوامر إلی الأوامر المختلفة، کالامتحانیة، والإرشادیّة والغیریّة، وإطلاقَ «فعل الأمر» فی الکتب الأدبیّة علی الصیغ الخاصّة من غیر النظر إلی القید الزائد، ومقابلةَ النهی مع الأمر، وعدم اعتبار قید العلوّ والاستعلاء فیه، مع أنّهما یستعملان معاً فی الکتاب والسنّة، وذهابَ الفقهاء من الفریقین إلیٰ وجوب الأمر بالمعروف علیٰ کافّة الناس بالنسبة إلیٰ کلّ أحد، من غیر إشعارهم بخصوصیّة العلوّ فی الآمرین، وحکایةَ فعل من بعث العالی إلی المعروف «بأنّه أمر بکذا» من غیر استعلاء منه فی ذلک، وأنّه إذا صنع ذلک امتثل قوله تعالیٰ: «الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ» وقوله تعالیٰ: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ» وهکذا من غیر انتظار، وغیرَ ذلک ممّا یطلع علیه الفکور، کلّها شاهدة علیٰ عدم أخذ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 14
العلوّ والاستعلاء فی مفهومه.
ولاینبغی لأرباب النظر الخلط بین الاستعمالات الخاصّة فی اُفق من الزمان الواضحة مناشئها، وبین ماهو معنی اللغة والمادّة.
وممّا یؤید مقالتنا : أنّ الأوامر الصادرة من الأزواج والآباء والسادة؛ بالنسبة إلی الزوجات والأبناء والعبید، واجبة الإطاعة، مع أنّها کثیراً ما لا تصدر من العالی، کیف؟! ویمکن کون الزوجة عالیة علیٰ زوجها بالعلم والمال والجاه والمقام، وهکذا فی الابن والعبد، ولو کانت هی الالتماس والاستدعاء، لما کان وجه لوجوب الطاعة عند العقلاء، کما لایخفیٰ.
وتوهّم کفایة الاستعلاء، کتوهّم : أنّ العلوّ الاعتباریّ المزبور کافٍ، ومن الممکن دعویٰ: أنّ الاستعلاء المعتبر لیس إلاّ العلوّ؛ لعدم إمکان التفکیک بینهما، لأنّ المراد من «العلوّ» هو العنوان المظهر، لا الأوصاف الذاتیّة، فعلیه یکفی العلوّ، وهو فی الأمثلة المزبورة موجود.
وأنت خبیر بفساد ذلک؛ فإنّ العلوّ المعتبر هو المعنی العرفیّ، فربّما یکون لهؤلاء المذکورین، علوّ عرفیّ علیٰ مقابلیهم، مع وجوب إطاعتهم علیٰ هؤلاء، فلاتغفل.
وممّا یؤکّد مرامَنا؛ تقسیمه إلی الأوامر الواجبة والمندوبة، مع أنّ المتفاهم علیٰ ما یتراءیٰ من مرادفاته کما فی الفارسیّة ـ وهو کلمة «فرمان» ـ لایناسب الندب والترخیص فی الترک، فیعلم من ذلک: أنّ کلمة «فرمان» لیست مساوقة «للأمر» ولا کلمة «دستور» مساوقة له.
ثمّ إنّ المراجعة إلیٰ کتب اللغة وما وصل منهم إلینا، تعطی عدم صحّة ما بنوا علیه، والفحص عن المشتقّات یؤدّی إلی الاطمئنان بفساد ماقالوا، ولیس فیها شیء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 15
یعطی اعتبار العلوّ أو الاستعلاء فی صدق هذه الکلمة.
بل المستفاد من اشتقاقاتها عکس ذلک، فقال فی «الأقرب»: «معنیٰ «یَأْتَمِرُونَ بِکَ» أی یأمر بعضهم بعضاً بقتلک، وفی قتلک . والأمیر قائد الأعمیٰ، والجار، والمشاوَر، وزوج المرأة».
وأنت تعلم : أنّ الکلّ مشترک فی معنی واحد وهو الأمر، وهو البعث الأعمّ من العالی أو الدانی.
وأمّا اطلاق «أولی الأمر» أو «صاحب الأمر» علی الرئیس والسلطان، فلایستلزم قصور الکلمة فی الصدق علی الآخر، فلیتدبّر.
وممّا یؤیّد ذلک تفسیره فی اللغة بـ «الطلب» مع عدم اعتبارهما فیه، کما اُشیر إلیه.
وما ذکرناه سابقاً فهو من باب إلزام الخصم. نعم لاشبهة فی أنّ الطلب أعمّ من الأمر؛ لأنّه إذا طلبه بالإشارة أو بسائر الجمل، یقال: «طلبه» حقیقةً، ولایقال: «أمره» إلاّ لکونها مفیدة فائدة الأمر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 16