الخامس : حول إشکال اختیاریّة الإرادة واضطراریتها
من المباحث المتعلّقة بالإرادة : أنّها هل هی اختیاریّة، أو اضطراریّة، وأنّ النفس توجدها علیٰ أن تکون فاعلها بالاختیار، أو هی توجدها علیٰ أن تکون علّتها الطبیعیّة والإلجائیّة؟
وعلی التقدیرین یلزم إشکال؛ فإنّها إن کانت اختیاریّة، فقد سبق أن قلنا: إنّ الأفعال الاختیاریّة مسبوقة بالإرادة، فلابدّ من إرادة اُخریٰ سابقة علیها، فیتسلسل.
وإن کانت توجد قهراً علیها، فتکون النفس مضطرّةً إلیها، فلایکون الفعل الصادر والحرکة المستعقبة لها، من الفعل الاختیاریّ؛ لما قد سبق: أنّها الجزء الأخیر من العلّة التامّة، أو قد سبق: أنّ میزان اختیاریّة الفعل الصادر اختیاریّة الإرادة، ضرورة أنّه بعد تحقّقها فلا اختیار له بعد ذلک.
وهذا لاینافی الاختیار لما أنّ الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار، فلایلزم من هنا إشکال علیٰ قاعدة «إنّ الشیء مالم یجب لم یوجد» کما لایخفیٰ علیک إن کنت من أهل الفنّ.
ثمّ إنّ القوم فی تقریر هذه المسألة توهّموا: أنّ الشبهة ینجرّ ذیلها إلی إرادة الله تعالیٰ، وأنّ الإشکال لایمکن أن یحرّر إلاّ بإرجاع الإرادة فی السلسلة الطولیّة، إلی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 52
الإرادة الأزلیّة القدیمة. مع أنّک أحطت ممّا تلوناه علیک: بأنّ الإشکال یتمّ تقریراً من غیر مساس الحاجة إلی إرجاعها إلی إرادته تعالیٰ.
فتحصّل : أنّ الإرادة لمّا کانت من الموجودات الواقعیّة، فتحتاج فی تحقّقها إلی العلّة والمبادئ، فإن کانت من قبیل حرارة النار، فتحصل وتوجد من النفس قهراً وطبعاً، فالنفس فاعلها بالطبع، وإن کانت من قبیل سائر الأفعال الاختیاریّة، فتحتاج النفس فی إیجادها إلی المبادئ الوجودیّة، ومنها الإرادة فیتسلسل، والکلّ غیر قابل للتصدیق بالضرورة والوجدان؛ لأنّ معنی التسلسل عدم تحقّق الإرادة رأساً، وهو واضح المنع، ووجه الضرورة فی الأوّل أوضح.
وهذه الشبهة هی العویصة المعروفة التی قد جعلت الأفهام حیاریٰ، والأفکار صرعیٰ، فهرب کلّ منهم مهرباً، وأتوا بأجوبة لا بأس بالإشارة إلیٰ بعض منها، ومن الذین تصدّوا وحاولوا الجواب عنها؛ المعلّم العلیم الحکیم المعظّم، وفخر علماء بنی آدم، السیّد الماجد المیر؛ محمّد الداماد قدس سره فقال:
«هذا الشکّ ممّا لم یبلغنی عن أحد من السابقین واللاحقین شیء فی دفاعه.
والوجه فی ذلک: أنّه إذا انساقت العلل والأسباب المترتّبة المتأدّیة بالإنسان إلیٰ أن یتصوّر فعلاً، ویعتقد فیه خیراً ما، انبعث إلیه تشوّق إلیه لا محالة، فإذا تأکّد هیجان الشوق، واستتمّ نصاب إجماعه، تمّ قوام الإرادة المستوجبة لاهتزاز العضلات والأعضاء الأدویة، فإنّ تلک الهیئة الإرادیّة حالة شوقیّة إجمالیّة للنفس؛ بحیث إذا قیست إلی الفعل نفسه، وکان هو الملتفت إلیه بالذات، کانت هی شوقاً إلیه، وإرادة له.
وإذا قیست إلی إرادة الفعل، وکان الملتفت إلیه هینفسها، لانفس الفعل، کانت
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 53
هی شوقاً وإرادة بالنسبة إلی الإرادة، من غیر شوق آخر وإرادة اُخریٰ جدیدة.
وکذلک الأمر فی إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة... إلیٰ سائر المراتب التی فی استطاعة العقل أن یلتفت إلیها بالذات، ویلاحظها علی التفصیل. فکلّ من تلک الإرادات المفصّلة تکون بالإرادة، وهی بأسرها مضمَّنة فی تلک الحالة الشوقیّة الإرادیّة.
والترتیب بینها بالتقدّم والتأخّر عند التفصیل، لیس یصادم اتحادها فی تلک الحالة الإجمالیّة بهیئتها الوحدانیّة؛ فإنّ ذلک إنّما یمتنع فی الکمیّة الاتصالیّة والهویّة الامتدادیّة، لاغیر» انتهیٰ ماهو المهمّ من کلامه، رفع فی مقامه.
ویتوجّه إلیه أوّلاً : أنّ الحالة الشوقیّة والهیجان المتأکّد، ممنوعة فی کثیر من الإرادات، کما مرّ؛ فإنّ الإرادة تحصل فی اُفق النفس لدرک العقل توقّف الفرار من الموت علیٰ قطع الأعضاء، من غیر وجود تلک الحالة حتّیٰ تکون هی صندوق الإرادة؛ کلّما شاءت النفس أخرجت منها إرادة.
فکأنّه قدس سره قطع السلسلة؛ بأنّ الإرادة الاختیاریّة، لیست معلولة الإرادة المتقدّمة علیها إلاّ بهذا المعنیٰ؛ أی أنّ الشوق الذی أورث الإرادة فی الفرض الأوّل، هو السبب لتحقّق إرادة الإرادة فی الفرض الثانی، وهکذا.
وعلیٰ هذا لایتوجّه إلیه ما أورده علیه تلمیذه الأکبر من الإشکالات الثلاثة. والعجب أنّه لم یصل إلیٰ مغزیٰ مرامه!! وقال: «هذه الإرادات الکثیرة قابلة لأن نأخذها، ونطلب أنّ علّتها أیّة شیء هی؟
فإن کانت إرادة اُخریٰ، لزم کون شیء واحد داخلاً وخارجاً بالنسبة إلیٰ شیء واحد بعینه؛ وهو مجموع الإرادات، وذلک محال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 54
وإن کان شیئاً آخر، لزم الجبر فی الإرادة، وهذا هو الحقّ» انتهیٰ.
وکأنّه قدس سره أخذ هذا التقریر ممّا قیل فی الاستدلال علیٰ بطلان التسلسل: «من إثبات الغنیّ بالذات بین السلسلة الفقراء غیر المتناهیة» غفلةً عن بطلان القیاس، وأجنبیّة ما رامه السیّد عمّا أفاده التلمیذ کما عرفت، فلاتخلط.
ویتوجّه إلیه ثانیاً : أنّ قطع السلسلة بذلک، لایستلزم رفع الشبهة؛ لأنّه إذا کانت الإرادة حاصلة قهراً وبالطبع، تکون النفس فاعلة بالطبع بالنسبة إلیها.
وإن کانت حاصلة بالاختیار، فلابدّ من إرادة، والشوق المزبور إمّا هو نفس الإرادة، فیلزم عدم اختیاریّة الفعل؛ لأنّها غیر اختیاریّة ومیل طبیعیّ، وإمّا هو سبب الإرادة، فیکون المعلول ـ وهی الإرادة ـ حاصلاً فی النفس بلا اختیار، فیکون الفعل بلا اختیار، فما هو المهمّ فی الشکّ والشبهة المزبورة، مغفول عنه فی کلامه.
وأمّا ما أورده علیه المحقّق الفحل النحریر فی الفنّ؛ الوالد المعظّم الجلیل ـ مدّ ظلّه العالی : «من أنّ السلسلة فی الاُمور الاعتباریّة تنقطع بانقطاع النظر، کما فی إمکان الممکنات، ووجوب الواجب، وضرورة القضایا الضروریّة، وإنّما الإرادة من الحقائق المحتاجة إلی العلّة، وهی إمّا إرادة اُخریٰ، أو شیء من خارج، فیتسلسل، أو یلزم الاضطرار والجبر» انتهیٰ.
فهو غیر وجیه؛ لأنّه یقول: بأنّ إرادة الفعل معلولة الشوق، وإرادةَ إرادة الفعل معلولة الشوق المزبور، أو یقول: الشوق المزبور هی إرادة الفعل، وسبب إرادة الإرادة وهکذا، فلایلزم کونها بلا علّة، بل علّتها الشوق. وإن کانت عبارته المحکیّة عنه، لاتخلو عن إیهام أنّ الأمر ـ بحسب الواقع ـ تابع الاعتبار، ولکن لابدّ من تنزیه جنابه عمّا یستظهر من کلامه بدواً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 55
فتحصّل : أنّ ما أورده علیه العلمان ـ عفی عنهما ـ فی غیر محلّه، وکلامَ السیّد قابل للتأویل بالوجه القریب، ولکنّه مع ذلک غیر صحیح؛ لما عرفت منّا، فلاحظ وتدبّر جیّداً.
فتحصّل : أنّ السیّد قدس سره فی مقام قطع التسلسل؛ بدعویٰ أنّ فی النفس خزانة الإرادة، لا بمعنیٰ وجود الإرادات الطولیّة بالفعل، حتّیٰ یتوجّه إلیه إشکال تلمیذه، بل بمعنیٰ قوّة خلاّقة للإرادة، أو هی نفس الإرادة إذا لوحظت بالنسبة إلی الفعل الخارجیّ، وتلک القوّة ـ وهی الشوق الأکید ـ کافیة فی حصول الإرادة إذا لوحظت الإرادة نفسها.
والذی یتوجّه إلیه: أنّ بذلک ینقطع السلسلة، إلاّ أنّ تلک القوّة أوّلاً: ممنوعة.
وثانیاً : التسلسل الذی یلزم لایکون قابلاً للدفع؛ لأنّ ماهو المقصود من «التسلسل» هو أنّ وصف الاختیار للفعل الاختیاریّ، موقوف علیٰ کون إرادته موصوفة بالاختیار، ووصف هذه الإرادة موقوف علی اتصاف إرادتها، فیتسلسل، لاحتیاج المتأخّر إلی المتقدّم، فیلزم الخلف؛ لعدم إمکان اتّصاف المتأخّر إلاّ بعد انقطاع السلسلة، فإذا کان المتأخّر موصوفاً یعلم عدم التوقّف، وهذا هو التناقض الذی یلزم من صحّة التسلسل، فافهم واغتنم.
ومن الذین تصدّوا لدفع الشبهة صاحب «الحکمة المتعالیة» فقال: «المختار ما یکون فعله بإرادته، لا ما یکون إرادته بإرادته، وإلاّ لزم أن لایکون إرادته تعالیٰ عین ذاته، والقادر ما یکون بحیث إن أراد الفعل صدر عنه الفعل، وإلاّ فلا، لا ما یکون إن أراد الإرادة للفعل فعل، وإلاّ لم یفعل» انتهیٰ.
وبعبارة أتیٰ بها المحقّق الوالد ـ مدّظلّه فی رسالته: «إنّ الإرادة من الصفات الحقیقیّة ذات الإضافة، وزانها وزان سائر الصفات الکذائیّة، فکما أنّ المعلوم ما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 56
تعلّق به العلم، لا ما تعلّق بعلمه العلم، والمحبوبَ ما تعلّق به الحبّ، لا ما تعلّق بحبّه الحبّ وهکذا، کذلک المراد ما تعلّق به الإرادة، لا ما تعلّق بإرادته الإرادة، والمختار من یکون فعله بإرادة واختیار، لا إرادته واختیاره. ولو توقّف الفعل الإرادیّ علیٰ کون الإرادة المتعلّقة به متعلّقاً للإرادة، لزم أن لایوجد فعل إرادیّ قطّ؛ حتّیٰ ما صدر عن الواجب.
إن قلت : هذا مجرّد اصطلاح لایدفع به الإشکال من عدم صحّة العقوبة علی الفعل الإلجائیّ الاضطراریّ؛ فإنّ مبدأ الفعل ـ وهو الإرادة ـ إذا لم یکن اختیاریّاً، یکون الفعل اضطراریّاً، فلایصحّ معه العقوبة.
قلت : هاهنا مقامان :
أحدهما : تشخیص الفعل الاختیاریّ عن الاضطراریّ.
وثانیهما : تشخیص مناط صحّة العقوبة عند العقلاء.
أمّا المقام الأوّل : فلا إشکال فی أنّ مناط الإرادیّة فی جمیع الأفعال الصادرة من الفاعل ـ واجباً کان، أو ممکناً ـ ما عرفت.
وأمّا المقام الثانی : فلاریب فی ترخیص جمیع العقلاء من کافّة الملل، العقوبةَ علی العصیان، ویفرّقون بین الحرکة الارتعاشیّة، والحرکة الإرادیّة» انتهیٰ ملخّص ما أفاده، وکان یعتمد علیه، ولم یوجّه إلیه إشکالاً فی رسالته المعمولة فی الطلب والإرادة.
أقول أوّلاً: إنّ السیّد الاُستاذ تصدّی_' للدفاع من ناحیة لزوم التسلسل، وقدعرفت حاله، وهذا النحریر الأکبر والعالم الأعظم والمبتکر المفخّم، حاول الدفاع من ناحیة اختیاریّة الفعل واضطراریّته، مع أنّ من المشکل حلّ کیفیّة وجود الإرادة فی النفس؛ وأنّها توجد بالاختیار والإرادة، أم لا، من غیر النظر إلیٰ مصحّحات العقوبة والمثوبة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 57
وثانیاً : إذا کانت الإرادة غیر اختیاریّة، وکانت هی السبب الوحید للفعل، وکانت الجزء الأخیر من العلّة التامّة بعد تمامیّة الشرائط ـ علی الوجه الماضی تفصیله فکیف یوصف الفعل بالاختیار؟!
وما نریٰ من اتصاف الفعل بالاختیار، فهو لأجل رجوع مبادئه إلی الاختیار، ولذلک سیقت قاعدة «الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار» ولاریب أنّ العلم والتصدیق والمیل، لیس اختیاریّاً فی کثیر من الأفعال، وما هو الوحید والدائم تحت اختیار سلطان النفس ـ إن کانت الإرادة ـ فهی، وإلاّ فلا وجه لتوصیف الفعل بالاختیار.
وأمّا النقض بالواجب، فهو موکول إلیٰ محلّه تفصیلاً، وإجماله: أنّ إرادته الفعلیّة تحصل بالاختیار الذاتیّ والإرادة الذاتیّة، کما یأتی منّا بیانه، فلایلزم من کون الفعل مختاراً، عدم کون إرادته تحت الاختیار؛ إن ثبت الاختیار الذاتیّ.
ثمّ إنّ من أعمال القوّة النفسانیّة؛ هی المسمّاة فی عصرنا بـ (الهیپنوتیزم) وهذا هو تأثیر النفس فی النفس الاُخریٰ بإلقائها الإرادة علیها، وجعل مبادئ الفعل تحت سلطانها، قبال (منیتیزم) الذی هو التصرّف فی القوّة المنبثّة فی العضلة، وفی أمر خارج عن سلطان النفس الاُخریٰ والطرف، فهل یقبل العقل إجراء العقوبة علیٰ من صنع به ذلک، مع أنّه فعله بالإرادة؟!
وأمّا ما أتیٰ به السیّد الوالد ـ مدّظلّه من البرهان، فهو یرجع إلیٰ تحریر الشبهة؛ فإنّه إذا کانت إرادة الفعل محتاجة إلی الإرادة یلزم التسلسل، وقضیّة بطلانه عدم تحقّق الفعل الإرادیّ مطلقاً، ولیس هذا أمراً آخر، ولا دلیلاً علیٰ حلّ الشبهة، کما لایخفیٰ.
وثالثاً : وإن شئت قلت وسادساً: تحسین العقوبة وتقبیحها ـ بحکم العقلاء ـ هما الحسن والقبح العرفیّان، والذی هو مقصود العدلیّة والإمامیّة، إثبات الحسن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 58
والقبح العقلیّین، فإذا کان ـ بحسب درک العقل ـ حرکة الید المرتعشة کحرکة ید غیر المرتعش فی عدم کونها بالاختیار، تکون الاُولیٰ لیست اختیاریّة؛ لأجل خروج تلک القوّة عن سلطان النفس، والثانیة لأجل خروج علّتها عنه، فلاتخلط بین الحسنین والقبحین العقلائیّین والعقلیّین، فافهم واغتنم.
ثمّ إنّه قدس سره أضاف فی ذیل کلامه قولَه: «علیٰ أنّ لأحد أن یقول: إنّ إرادة الإرادة ـ کالعلم بالعلم، وکوجود الوجود، ولزوم اللزوم ـ من الاُمور الصحیحة الانتزاع، ویتضاعف فیه جواز الاعتبار لا إلی حدّ، لکن تنقطع السلسلة بانقطاع الاعتبار من الذهن الفارض؛ لعدم التوقّف العلّی هناک فی الخارج» انتهیٰ.
وأنت بعدما علمت مغزیٰ کلام اُستاذه المیر الداماد قدس سره من أنّه أیضاً تصدّیٰ لذلک، وعرفت ما وقع هو فیه، فلانعید مواضع الشبهة هنا؛ لمرورک علیها آنفاً.
فتحصّل إلی هنا : أنّ المقصود الأقصیٰ والمطلوب الأعلیٰ؛ حلّ الشبهة من ناحیة اختیاریّة الفعل ولا اختیاریّته، ولا اُبالی من توصیف الفعل بـ «الإرادیّ» فإنّه یکفی فیه مجرّد استباقه بالإرادة وإن کانت الإرادة بالاضطرار، وماهو اللاّزم کون الفعل موصوفاً بالاختیار عند العقل الدقیق البرهانیّ، دون الأفهام السوقیّة الساذجة، ولا شبهة فی أنّ وصف الاختیار للفعل متقوّم باستباقه بالاختیار، وإذا کان المبادئ والفعل خارجة عنه، فکیف هو یوصف به؟! فلاتخلط.
وما تریٰ فی حاشیة العلاّمة الأصفهانی رحمه الله : من توهّمه حلّ الشبهة بما أفاده صدر المتألهین فی المسألة، لایخلو من تأسّف.
ومن الذین تصدّوا لحلّها؛ العلاّمة الهرویّ صاحب «الکفایة» قدس سره فقال ـ بعد خروجه عن فنّه، ودرج المسألة فیما لیس من أهله، وخلطه بین الاُصول العقلیّة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 59
وعدم نیله القواعد الأوّلیة، کما هو الظاهر الواضح علیٰ من له أدنیٰ إلمام بها : إنّما یخرج بذلک عن الاختیار؛ لو لم یکن تعلّق الإرادة بها مسبوقة بمقدّماتها الاختیاریّة، وإلاّ فلابدّ من صدورها بالاختیار» انتهیٰ مورد الحاجة منه.
وفیه : ـ مضافاً إلیٰ أنّ أصل الشبهة؛ هو أنّ الإرادة التی هی من الموجودات المحتاجة إلی المؤثّر، کیف تحصل وتوجد؟ فإن کان ذلک بإرادة اُخریٰ یتسلسل، وإن کان بنفسها فیدور، وإن کانت النفس فاعلها بالطبع، فهو مضافاً إلیٰ مخالفة الوجدان، لایساعده البرهان الآتی ـ أنّ مبادئ الإرادة قد لاتکون اختیاریّة، وهو العلم، والاقتدار علی الفعل، والمیل والاشتیاق إلیه.
مثلاً : قد یتّفق أن یحصل العلم بوجود الحرام فی البیت؛ من إسماع الغیر الاختیاریّ، ثمّ تشتاق إلیه النفس قهراً وطبعاً، وتکون لها القوّة علی الإتیان به بالفطرة، فإذا حصلت هذه المبادئ، فأین المبدأ الذی هو الاختیار؟!
وإن قلنا : بأنّ الإرادة اختیاریّة بالوجدان فهو صحیح، ولکنّ الإشکال المزبور فی کیفیّة اختیاریّتها، مع احتیاجها فی ذلک إلیٰ نفسها أو سنخها، وفی الکلّ محذور، کما اُشیر إلیه مراراً.
وأمّا ما یظهر من تلمیذه المحشّی: من إرجاع کلامه إلی الإرادة التشریعیّة؛ وأنّ متعلّقها الفعل الاختیاریّ للعبد، دون مطلق الفعل، فهو غیر سدید؛ لأنّ الإشکال فی کیفیّة إرادة الله تعالیٰ أمر، وفی کیفیّة إرادة العبد لفعله المباشریّ أمر آخر، والبحث هنا فی الثانی وإن ینجرّ ذیله إلی الأوّل.
ولکنّک عرفت : أنّه انجرار غیر لازم؛ لأنّ الشبهة متوجّهة إلیٰ جمیع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 60
الطوائف من الملل حتّی المنکرین للمبدأ الأعلیٰ، خذلهم الله تعالیٰ، وتعالیٰ عن ذلک علوّاً کبیراً.
ثمّ إنّه یرد علیه : أنّ معنی اختیاریّة بعض مبادئها، أنّه یحصل بالإرادة، فیأتی السؤال عن هذه الإرادة المتعلّقة بذلک المبدأ الاختیاریّ. وهذا ما أورده علیه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه وجزاه الله خیراً .
ومنهم صاحب «الدرر» قدس سره فقال: «إنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة فی نفسها؛ لأنّا نریٰ بالوجدان إمکان أن یقصد الإنسان البقاء فی مکان عشرة أیّام، ویکون الأثر مترتّباً علی القصد، دون البقاء» انتهیٰ.
وفیه : نقض بأنّ تلک الإرادة إذا کانت من الحوادث ، فتحتاج إلی إرادة اُخریٰ، فیتسلسل.
وفیه أیضاً : أنّ تلک الإرادة لو کانت نفس المصلحة ـ فی نفسها ـ کافیة فی تحقّقها، فینسدّ باب إثبات الصانع؛ للزوم جواز الترجّح بلا علّة ومرجّح.
والحلّ : أنّ الإرادة قد تتعلّق بما فیه الصلاح والمطلوب النفسیّ، وقد تتعلّق بما فیه الصلاح والمطلوبیّة الغیریّة.
وعلی الثانی تارة : یکون الغیریّـة لأجـل توقّف الخیر والصلاح فی الأمر الخارجیّ .
واُخریٰ : لأجل الخیر والصلاح فی نفس الإرادة؛ لکونها موضوعاً فی الأدلّة، کما فیما نحن فیه، فالإرادة لابدّ وأن تتعلّق بالراجح وهو البقاء، ورجحانه من قبل توقّف موضوع الأدلّة علی الإرادة، وإذا کانت هی من الصفات ذات الإضافة، فیکون المضاف إلیه دخیلاً بالمعنی الحرفیّ، وخارجاً بالمعنی الاسمیّ، فالتقیّد داخل،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 61
والقید خارج، فلاتغفل.
وربّما یقال ـ والقائل السیّد الاُستاذ البروجردیّ فی مباحث التعبّدی والتوصّلی ـ دفعاً للإشکال: «بأنّ إرادیّة کلّ شیء بالإرادة، وإرادیّة الإرادة بنفسها، وهذا کما فی الوجود وأمثاله».
وأنت خبیر بما فیه من الخلط بین الحیثیّة التعلیلیّة والتقییدیّة، وربّما یرجع ذلک إلی ماورد فی الأخبار: من «أنّ الله تبارک وتعالیٰ خلق الأشیاء بالمشیّة، وخلق المشیّة بنفسها» وسیأتی تحقیقه عند ذکر الحقّ فی المسألة.
والذی أفاده الوالد ـ مدّظلّه بعدما أفاض فی تحقیق المسألة، ویأتی بیانه زائداً علیه: «هو أنّ النفس فی الأفعال الخارجیّة الصادرة منها، لمّا کان توجّهها الاستقلالیّ إلیها، وتکون المبادئ ـ من التصوّر إلی العزم والإرادة ـ منظوراً بها؛ أی بنحو التوسّل إلی الغیر، وبنعت الآلیّة، لم تکن متصوّرة، ولا مرادة، ولا مشتاقاً إلیها بالذات، بل المتصوّر والمراد والمشتاق إلیه؛ هو الفعل الخارجیّ الذی یتوسّل بها إلیه، فلا معنیٰ لتعلّق الإرادة بالإرادة ولو فرض إمکانه؛ لعدم کونها متصوّرة، ولا مشتاقاً إلیها، ولا معتقداً فیها النفع» انتهیٰ.
وأنت تریٰ أنّه حلّ عرفیّ، وخارج عن حیطة المسألة العقلیّة، وأنّ تمام الشبهة حول کیفیّة حدوث الإرادة حسب القواعد العقلیّة، ولا معنی لمثله فیما یکون سلطانه العقل، وسبیله البرهان ولایقاس بالموضوعات الشرعیّة. هذا مع أنّ فی بعض الأحیان، تکون هی منظوراً فیها، کما فی قصد الإقامة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 62
ولقد حان وقت طلوع ما به تنحلّ المعضلة، وترتفع الشبهة، وقد مرّ إجماله منّا فی السالف بإثبات الإرادة والاختیار الذاتیّین للنفس، وأنّ السلسلة قهراً تنقطع بذلک.
وقبل الخوض فی الجواب، نشیر إلیٰ إعضال آخر فی المقام: وهو أنّ فعل الله تعالیٰ إمّا یکون بالإرادة، أو لا، لاسبیل إلی الثانی، فإن کان بالإرادة فهی إمّا عین ذاته، أو زائدة علیها لاسبیل إلی الثانی؛ للزوم الإمکان، والترکب من النقص والکمال، وللتسلسل؛ ضرورة أنّ هذه الإرادة إمّا تحصل بلا إرادة، أو تحصل بنفسها، أو بإرادة اُخریٰ زائدة، والکلّ ممنوع، فیتعیّن کونها مستندةً إلی إرادة ذاتیّة.
وتوهّم کفایة العلم الذاتیّ والقدرة الذاتیّة؛ لحصول تلک الصفة الزائدة علی الذات، غیر سدید کما عرفت؛ ضرورة أنّ المشیّة مأخوذة فی القدرة، فکیف تکون القدرة ذاتیّة، ولا تکون المشیّة عین ذاته؟!
هذا مع أنّ نسبة المعلوم والمقدور إلی العلم والقدرة بالإمکان، «والشیء مالم یجب لم یوجد»، من غیر فرق بین العلم الإمکانیّ والوجوبیّ، والقدرة الإمکانیّة والوجوبیّة؛ لعدم التخصیص فی الأحکام العقلیّة.
هذا مع أنّ المقصود الأقصیٰ إثبات الاختیار الذاتیّ، فهو تعالیٰ ذو اختیار، ولیس صفة الاختیار له زائدة علیٰ ذاته بالضرورة، وإلاّ یلزم تحقّقها لذاته بلا اختیار، فما تریٰ فی کتب المتکلّمین وجماعة من الاُصولیّین: من نفی الإرادة الذاتیّة؛ ظانّین المصاعب الکثیرة فی ذلک، کلّه ناشئ عن الجهالة، وعدم نیل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 63
الحقائق من الطرق الصحیحة.
وهذا هو معنی الحدیث الشهیر: «إنّ الأشیاء خلقت بالمشیّة، والمشیّة بنفسها» فإنّ المشیّة الفعلیّة ـ وهی الوجود المنبسط مثلاً ـ معلولة المشیّة الذاتیّة، وإلاّ فلایعقل خلق الشیء بنفسه الشخصیّة، کما لایخفیٰ.
إذا عرفت ذلک، فلابدّ من أن تطلّع علیٰ أنّ النفس المتّحدة، هی من دار القدرة والملکوت، ومن ذوات التجرّد والجبروت، تکون ظلّه تعالیٰ فی استجماعها جمیع القویٰ ـ بنحو الکثرة ـ فی الوحدة؛ علیٰ وجه لایناقض بساطتها، ولایضادّ وحدتها.
وإن شئت قلت : أفعال النفس تنقسم إلی الأفعال الجوارحیّة، والجوانحیّة، فما کانت من أفعالها الجوارحیّة، تحتاج فی وجودها إلی المبادئ المفصّلة المزبورة؛ من التصوّر إلی العزم والإرادة، وما کانت من أفعالها الجوانحیّة، فلا معنیٰ لاحتیاجها فی خلقها إلی المبادئ، کما هو الواضح بالوجدان.
فإذا لاحظت حال خلق النفس للصور العلمیّة؛ وأنّها تقدر علیٰ إیجادها لأجل وجود الملکة العلمیّة، أو لأجل کونها خلاّقة لها؛ لارتفاع الحجب والموانع عن تأثیرها فیها، ولا تکون فی ذلک محتاجة إلیٰ تصوّرها، بل هی توجد بنفس التصوّر، وکثیراً ما تقتدر علی إیجاد الصور والمتخیّلات بالاختیار؛ أی قد یحصل المعنی التصوّری فی النفس بالأسباب والمعدّات الخارجیّة، کالسماع والإبصار، فعند ذلک لاتکون هی مختارة فی حصولها.
ولکن فیما إذا کانت المبادئ لتحقیق المعنی التصوّری، موجودةً فی خزانة النفس من قبل، وتکون واجدة لموادّ المرتسمات الذهنیّة، تکون بالاختیار والخیار فی ذلک أحیاناً. ولکن لا اختیار لها علی الإطلاق من جمیع الجهات، کما لا خیار
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 64
للمبدأ الأعلیٰ فی علمه بذاته وعلمه بغیره، لا لقصور فی حقّه تعالیٰ، بل لعدم تعلّق الاختیار فی الواجبات والضروریّات.
إذا لاحظت ذلک، تقدر علیٰ أن تکون علیٰ بصیرة فی الإرادة والقصد والعزم التی هی من الأفعال الجوانحیّة، فإنّها خلاّقة لها، وفعّالة لها، من غیر حاجة إلی الإرادة الفعلیّة والاختیار الزائد علیٰ ذاتها، بل نفس ذاتها ـ بما لها من الکمالات الأوّلیة، وبما أنّها مستجمعة لجمیع النعوت بنحو الجمع والاندماج، مع نهایة الضعف والفتور ـ مختارة فی ذلک.
بل الاختیار من الأوصاف الذاتیّة غیر المنقسمة إلی الاختیار الذاتیّ والفعلیّ، بخلاف العلم والقدرة والإرادة، ودلیل ذلک عدم المحاکاة له فی الأعیان، ولا الأذهان، مع وجوده فینا وفی المبدأ الأعلیٰ بالقطع والیقین.
فعلیٰ ما تقرّر إلی هنا، تندفع الشبهة، وتنقطع السلسلة، ویثبت الاختیار.
وهذا الذی ذکرناه مضافاً إلیٰ موافقته للبرهان، یشاهده الوجدان؛ فإنّ «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» فإذا لاحظ کیفیّة تصدّی النفس لخلق هذه الأفعال؛ وأنّها بالنسبة إلیها فاعلة بالعنایة، بل بالتجلّی ـ بخلاف فاعلیّتها لأفعالها الجوارحیّة، فإنّها بالقصد والآلة ـ یتوجّه إلیٰ کیفیّة فاعلیّته تعالیٰ، وإن کان هذا الأمر خارجاً عمّا حاولته هذه السطور من التوضیح والتحریر.
إن قلت : هذا فیما إذا کانت الإرادة والصور العلمیّة من الأفعال ومخلوقاتها، وأمّا إذا کانت من العوارض وحالاتها القائمة بها قیاماً الحلولیّاً، فلایتمّ ما اُفید وتقرّر.
قلت : نعم، ولکن شهادة الوجدان وقضیّة البرهان ـ کما مرّ تفصیله ـ علیٰ أنّ الأمر لیس کما توهّم، ولاسیّما فی الإرادة. مع أنّ مقتضیٰ ماهو الأقرب؛ أنّها بالنسبة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 65
إلیٰ جمیع المدرکات الخیالیّة والوهمیّة بالإیجاد وخلق المماثلات، علی التفصیل المذکور فی الکتب المفصّلة، وماهو النافع لنا هنا کون الإرادة فعلها، وهو کذلک بالضرورة والوجدان.
بل الحقّ بناءً علیٰ کونها قائمة بالنفس قیاماً حلولیّاً أیضاً، استنادها إلیها، وتقوّمها بها، فتکون النفس متصدّیة لوجودها، ولکن ذلک لا بإرادة اُخریٰ زائدة علیٰ ذاتها، بل بإرادة عین ذاتها، واختیارِ عین حقیقتها، فإنّها مجمع الکمالات؛ قضاءً لحقّ تجرّدها، ولحقّ التشکیک الخاصّی الثابت بین أنحاء الوجودات، ولاسیّما المجرّدات کما لایخفیٰ.
إن قلت : کیف یعقل الإرادة الذاتیّة مع کونها من الصفات ذات الإضافة، فیلزم کون جمیع المرادات داخلة فی الذات، وقدیمة الوجود وقدیماً ذاتیّاً؟!
قلت : هذا فی المبدأ الأعلیٰ مندفع: بأنّ المراد نفس ذاته؛ لأنّه المحبّ والمحبوب، والغایة فی الخلق ذاته؛ بظهورها علیها، کما فی الحدیث الشریف. ونظیره فینا إذا تعلّقت ببقاء الإنسان، فإنّ المراد نفس الذات، لا أمراً خارجاً عنها حتّیٰ یلزم ما توهّم. ولیس معنیٰ تعلّق الإرادة المتعلّقة بالذات، کونَ الذات متصدّیة لإیجادها، بل ذلک تابع لکیفیّة تعلّق الإرادة، کما مضیٰ. هذا فی المبدأ الأعلیٰ.
وأمّا فینا، فربّما یشکل لأجل عدم تصدّی النفس للإرادة دائماً، بل ربّما ترید، وربّما لاترید بالإرادة الفعلیّة، وتلک الإرادة معلولة الإرادة الذاتیّة، فیلزم الاضطرار الدائم للإرادة الذاتیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 66
وحلّه : أنّ المراد من «الإرادة الذاتیّة» هو تصدّی الذات لخلق الإرادة الفعلیّة، من غیر احتیاجها إلی الإرادة الاُخریٰ، والذات تحتاج فی التصدّی إلی المبادئ، وإذا حصلت المبادئ وادرک الصلاح، یختار الإرادة ؛ من غیر الحاجة إلی الإرادة الاُخریٰ، وهذا لایستلزم کون الفعل النفسانیّ ـ وهی الإرادة ـ اضطراریّة؛ لاختیاریّةٍ ذاتیّةٍ سابقة علیها.
إن قلت : نسبة الإرادة الفعلیّة إلی الاختیارالذاتیّ بالإمکان، فلابدّ من الإرادة؛ لخروجها من الإمکان إلی الوجوب.
قلت : لایتقوّم الخروج المذکور بثبوت الإرادة الذاتیّة فی النفس، بل النفس تتصدّیٰ لذلک من غیر احتیاج إلیها، کما هو المشاهد بالوجدان.
وإن شئت قلت : إدراک رجحان وجودها، کافٍ فی صرف قدرتها إلیٰ طرف، فتأمّل جیّداً.
إن قلت : لامعنیٰ للإرادة الذاتیّة والاختیار الذاتیّ فی الممکنات؛ لأنّ المراد من «الذاتیّ» إمّا ذاتیّ باب الإیساغوجی، أو ذاتیّ باب البرهان:
أمّا الأوّل : فواضح المنع.
وأمّا الثانی: فهو خارج المحمول الذی لا یتصوّر إلاّ فی حقّه تعالیٰ، الذی ذاته الوجود والعلم والقدرة والإرادة، وأمّا فی الممکنات فإنّ لها الماهیّات، والوجودُ وکماله خارج عنها، ومحمول علیها بالضمیمة، وإن کانت الحیثیّة التعلیلیّة عین الحیثیّة التقییدیّة فی المجرّدات الأمریّة.
قلت : نعم، ولکن کمالات الوجود بما هو الوجود، کلّها خارج المحمول؛ من غیر فرق بین أنحاء الوجودات.
نعم، بالقیاس إلی الحدود والماهیّات محمولات بالضمیمة، فالإرادة ذاتیّة للنفس؛ أی أنّ وجود النفس واجد لها بوجدانها أصل وجودها، لا أمر زائدٍ علیها، کما فی الصور الارتسامیّة والمعانی الوهمیّة، فإنّها موجودة لها، زائدة علیٰ أصل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 67
الوجود، ظاهرة علیها من بطونها بعد ارتفاع الحجب عنها، أو بعد اتصافها بالملکیّة الداخلة فی أصل وجودها، خلاّقة للصور المفصّلة.
هذا مع أنّ المعروف بین أبناء الفضیلة؛ أنّ النفس وما فوقها إنّیات صرفة لا ماهیّة لها، من غیر لزوم التنافی مع القاعدة المعروفة «کلّ ممکن زوج ترکیبیّ من ماهیّة ووجود» وللمسألة شأن آخر، ومعلّم ومتعلّم أعلیٰ، فلتطلب من محالّها.
وبعبارة اُخریٰ : جعل النفس بالجعل البسیط، یکفی عن جعل الإرادة والاختیار الذاتیّین، بخلاف الإرادة والعلم الزائدین علی أصل وجودها، فإنّهما یحتاجان إلی جعل آخر، فهذا هو المراد من «الذاتیّ» فی المسألة، فلاتخلط، ولاتغترّ بما فی ظواهر سمعتها.
والمناط فی تشخیص العناوین الذاتیّة عن غیرها: هو أنّ کلّ حیثیّة کانت النفس عالمة بها بعلم حضوریّ ـ بمعنیٰ أنّ علمها بنفسها کافٍ عن العلم بها ـ فهی داخلة فی وجود النفس، ولایعقل جعل بینها وبین النفس، ولا شبهة ـ وجداناً ـ فی أنّ الاختیار ممّا یدرکه النفس بإدراک ذاتها، لا بصورة زائدة علیٰ ذاتها.
إن قلت : الاختیار الذاتیّ والإرادة الذاتیّة، یستلزم التفویض.
قلت : کلاّ؛ فإنّ التفویض یستلزم وجوب الوجود، والاستقلالَ فی الفعل یلازم الاستقلال فی الذات، وهذا غیر لازم من تلک المسألة، فتدبّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 68