المقصد الثانی فی الأوامر

الخامس : إشکال اختیاریّة الإرادة واضطراریتها

الخامس : حول إشکال اختیاریّة الإرادة واضطراریتها

‏ ‏

‏من المباحث المتعلّقة بالإرادة : أنّها هل هی اختیاریّة، أو اضطراریّة، وأنّ‏‎ ‎‏النفس توجدها علیٰ أن تکون فاعلها بالاختیار، أو هی توجدها علیٰ أن تکون‏‎ ‎‏علّتها الطبیعیّة والإلجائیّة؟‏

‏وعلی التقدیرین یلزم إشکال؛ فإنّها إن کانت اختیاریّة، فقد سبق أن قلنا: إنّ‏‎ ‎‏الأفعال الاختیاریّة مسبوقة بالإرادة، فلابدّ من إرادة اُخریٰ سابقة علیها، فیتسلسل.‏

‏وإن کانت توجد قهراً علیها، فتکون النفس مضطرّةً إلیها، فلایکون الفعل‏‎ ‎‏الصادر والحرکة المستعقبة لها، من الفعل الاختیاریّ؛ لما قد سبق: أنّها الجزء الأخیر‏‎ ‎‏من العلّة التامّة، أو قد سبق: أنّ میزان اختیاریّة الفعل الصادر اختیاریّة الإرادة،‏‎ ‎‏ضرورة أنّه بعد تحقّقها فلا اختیار له بعد ذلک.‏

‏وهذا لاینافی الاختیار لما أنّ الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار، فلایلزم‏‎ ‎‏من هنا إشکال علیٰ قاعدة «إنّ الشیء مالم یجب لم یوجد» کما لایخفیٰ علیک إن‏‎ ‎‏کنت من أهل الفنّ.‏

‏ثمّ إنّ القوم فی تقریر هذه المسألة توهّموا: أنّ الشبهة ینجرّ ذیلها إلی إرادة الله ‏‎ ‎‏تعالیٰ، وأنّ الإشکال لایمکن أن یحرّر إلاّ بإرجاع الإرادة فی السلسلة الطولیّة، إلی‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 52
‏الإرادة الأزلیّة القدیمة‏‎[1]‎‏. مع أنّک أحطت ممّا تلوناه علیک: بأنّ الإشکال یتمّ تقریراً‏‎ ‎‏من غیر مساس الحاجة إلی إرجاعها إلی إرادته تعالیٰ.‏

فتحصّل :‏ أنّ الإرادة لمّا کانت من الموجودات الواقعیّة، فتحتاج فی تحقّقها‏‎ ‎‏إلی العلّة والمبادئ، فإن کانت من قبیل حرارة النار، فتحصل وتوجد من النفس قهراً‏‎ ‎‏وطبعاً، فالنفس فاعلها بالطبع، وإن کانت من قبیل سائر الأفعال الاختیاریّة، فتحتاج‏‎ ‎‏النفس فی إیجادها إلی المبادئ الوجودیّة، ومنها الإرادة فیتسلسل، والکلّ غیر قابل‏‎ ‎‏للتصدیق بالضرورة والوجدان؛ لأنّ معنی التسلسل عدم تحقّق الإرادة رأساً، وهو‏‎ ‎‏واضح المنع، ووجه الضرورة فی الأوّل أوضح.‏

‏وهذه الشبهة هی العویصة المعروفة التی قد جعلت الأفهام حیاریٰ، والأفکار‏‎ ‎‏صرعیٰ، فهرب کلّ منهم مهرباً، وأتوا بأجوبة لا بأس بالإشارة إلیٰ بعض منها، ومن‏‎ ‎‏الذین تصدّوا وحاولوا الجواب عنها؛ المعلّم العلیم الحکیم المعظّم، وفخر علماء بنی‏‎ ‎‏آدم، السیّد الماجد المیر؛ محمّد الداماد ‏‏قدس سره‏‏ فقال:‏

‏«هذا الشکّ ممّا لم یبلغنی عن أحد من السابقین واللاحقین شیء فی دفاعه.‏

‏والوجه فی ذلک: أنّه إذا انساقت العلل والأسباب المترتّبة المتأدّیة بالإنسان‏‎ ‎‏إلیٰ أن یتصوّر فعلاً، ویعتقد فیه خیراً ما، انبعث إلیه تشوّق إلیه لا محالة، فإذا تأکّد‏‎ ‎‏هیجان الشوق، واستتمّ نصاب إجماعه، تمّ قوام الإرادة المستوجبة لاهتزاز‏‎ ‎‏العضلات والأعضاء الأدویة، فإنّ تلک الهیئة الإرادیّة حالة شوقیّة إجمالیّة للنفس؛‏‎ ‎‏بحیث إذا قیست إلی الفعل نفسه، وکان هو الملتفت إلیه بالذات، کانت هی شوقاً‏‎ ‎‏إلیه، وإرادة له.‏

‏وإذا قیست إلی إرادة الفعل، وکان الملتفت إلیه هینفسها، لانفس الفعل، کانت‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 53
‏هی شوقاً وإرادة بالنسبة إلی الإرادة، من غیر شوق آخر وإرادة اُخریٰ جدیدة.‏

‏وکذلک الأمر فی إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة... إلیٰ سائر المراتب التی‏‎ ‎‏فی استطاعة العقل أن یلتفت إلیها بالذات، ویلاحظها علی التفصیل. فکلّ من تلک‏‎ ‎‏الإرادات المفصّلة تکون بالإرادة، وهی بأسرها مضمَّنة فی تلک الحالة الشوقیّة‏‎ ‎‏الإرادیّة.‏

‏والترتیب بینها بالتقدّم والتأخّر عند التفصیل، لیس یصادم اتحادها فی تلک‏‎ ‎‏الحالة الإجمالیّة بهیئتها الوحدانیّة؛ فإنّ ذلک إنّما یمتنع فی الکمیّة الاتصالیّة والهویّة‏‎ ‎‏الامتدادیّة، لاغیر»‏‎[2]‎‏ انتهیٰ ماهو المهمّ من کلامه، رفع فی مقامه.‏

‏ویتوجّه إلیه أوّلاً : أنّ الحالة الشوقیّة والهیجان المتأکّد، ممنوعة فی کثیر من‏‎ ‎‏الإرادات، کما مرّ‏‎[3]‎‏؛ فإنّ الإرادة تحصل فی اُفق النفس لدرک العقل توقّف الفرار من‏‎ ‎‏الموت علیٰ قطع الأعضاء، من غیر وجود تلک الحالة حتّیٰ تکون هی صندوق‏‎ ‎‏الإرادة؛ کلّما شاءت النفس أخرجت منها إرادة.‏

‏فکأنّه ‏‏قدس سره‏‏ قطع السلسلة؛ بأنّ الإرادة الاختیاریّة، لیست معلولة الإرادة‏‎ ‎‏المتقدّمة علیها إلاّ بهذا المعنیٰ؛ أی أنّ الشوق الذی أورث الإرادة فی الفرض الأوّل،‏‎ ‎‏هو السبب لتحقّق إرادة الإرادة فی الفرض الثانی، وهکذا.‏

‏وعلیٰ هذا لایتوجّه إلیه ما أورده علیه تلمیذه الأکبر من الإشکالات الثلاثة.‏‎ ‎‏والعجب أنّه لم یصل إلیٰ مغزیٰ مرامه!! وقال: «هذه الإرادات الکثیرة قابلة لأن‏‎ ‎‏نأخذها، ونطلب أنّ علّتها أیّة شیء هی؟‏

‏فإن کانت إرادة اُخریٰ، لزم کون شیء واحد داخلاً وخارجاً بالنسبة إلیٰ‏‎ ‎‏شیء واحد بعینه؛ وهو مجموع الإرادات، وذلک محال.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 54
‏وإن کان شیئاً آخر، لزم الجبر فی الإرادة، وهذا هو الحقّ»‏‎[4]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وکأنّه ‏‏قدس سره‏‏ أخذ هذا التقریر ممّا قیل فی الاستدلال علیٰ بطلان التسلسل: «من‏‎ ‎‏إثبات الغنیّ بالذات بین السلسلة الفقراء غیر المتناهیة» غفلةً عن بطلان القیاس،‏‎ ‎‏وأجنبیّة ما رامه السیّد عمّا أفاده التلمیذ کما عرفت، فلاتخلط.‏

‏ویتوجّه إلیه ثانیاً : أنّ قطع السلسلة بذلک، لایستلزم رفع الشبهة؛ لأنّه إذا‏‎ ‎‏کانت الإرادة حاصلة قهراً وبالطبع، تکون النفس فاعلة بالطبع بالنسبة إلیها.‏

‏وإن کانت حاصلة بالاختیار، فلابدّ من إرادة، والشوق المزبور إمّا هو نفس‏‎ ‎‏الإرادة، فیلزم عدم اختیاریّة الفعل؛ لأنّها غیر اختیاریّة ومیل طبیعیّ، وإمّا هو سبب‏‎ ‎‏الإرادة، فیکون المعلول ـ وهی الإرادة ـ حاصلاً فی النفس بلا اختیار، فیکون الفعل‏‎ ‎‏بلا اختیار، فما هو المهمّ فی الشکّ والشبهة المزبورة، مغفول عنه فی کلامه.‏

‏وأمّا ما أورده علیه المحقّق الفحل النحریر فی الفنّ؛ الوالد المعظّم الجلیل‏‎ ‎‏ـ مدّ ظلّه العالی : «من أنّ السلسلة فی الاُمور الاعتباریّة تنقطع بانقطاع النظر، کما‏‎ ‎‏فی إمکان الممکنات، ووجوب الواجب، وضرورة القضایا الضروریّة، وإنّما الإرادة‏‎ ‎‏من الحقائق المحتاجة إلی العلّة، وهی إمّا إرادة اُخریٰ، أو شیء من خارج،‏‎ ‎‏فیتسلسل، أو یلزم الاضطرار والجبر»‏‎[5]‎‏ انتهیٰ.‏

‏فهو غیر وجیه؛ لأنّه یقول: بأنّ إرادة الفعل معلولة الشوق، وإرادةَ إرادة الفعل‏‎ ‎‏معلولة الشوق المزبور، أو یقول: الشوق المزبور هی إرادة الفعل، وسبب إرادة‏‎ ‎‏الإرادة وهکذا، فلایلزم کونها بلا علّة، بل علّتها الشوق. وإن کانت عبارته المحکیّة‏‎ ‎‏عنه، لاتخلو عن إیهام أنّ الأمر ـ بحسب الواقع ـ تابع الاعتبار، ولکن لابدّ من تنزیه‏‎ ‎‏جنابه عمّا یستظهر من کلامه بدواً.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 55
فتحصّل :‏ أنّ ما أورده علیه العلمان ـ عفی عنهما ـ فی غیر محلّه، وکلامَ‏‎ ‎‏السیّد قابل للتأویل بالوجه القریب، ولکنّه مع ذلک غیر صحیح؛ لما عرفت منّا،‏‎ ‎‏فلاحظ وتدبّر جیّداً.‏

فتحصّل :‏ أنّ السیّد ‏‏قدس سره‏‏ فی مقام قطع التسلسل؛ بدعویٰ أنّ فی النفس خزانة‏‎ ‎‏الإرادة، لا بمعنیٰ وجود الإرادات الطولیّة بالفعل، حتّیٰ یتوجّه إلیه إشکال تلمیذه، بل‏‎ ‎‏بمعنیٰ قوّة خلاّقة للإرادة، أو هی نفس الإرادة إذا لوحظت بالنسبة إلی الفعل‏‎ ‎‏الخارجیّ، وتلک القوّة ـ وهی الشوق الأکید ـ کافیة فی حصول الإرادة إذا لوحظت‏‎ ‎‏الإرادة نفسها.‏

‏والذی یتوجّه إلیه: أنّ بذلک ینقطع السلسلة، إلاّ أنّ تلک القوّة أوّلاً: ممنوعة.‏

وثانیاً :‏ التسلسل الذی یلزم لایکون قابلاً للدفع؛ لأنّ ماهو المقصود من‏‎ ‎‏«التسلسل» هو أنّ وصف الاختیار للفعل الاختیاریّ، موقوف علیٰ کون إرادته‏‎ ‎‏موصوفة بالاختیار، ووصف هذه الإرادة موقوف علی اتصاف إرادتها، فیتسلسل،‏‎ ‎‏لاحتیاج المتأخّر إلی المتقدّم، فیلزم الخلف؛ لعدم إمکان اتّصاف المتأخّر إلاّ بعد‏‎ ‎‏انقطاع السلسلة، فإذا کان المتأخّر موصوفاً یعلم عدم التوقّف، وهذا هو التناقض‏‎ ‎‏الذی یلزم من صحّة التسلسل، فافهم واغتنم.‏

‏ومن الذین تصدّوا لدفع الشبهة صاحب «الحکمة المتعالیة» فقال: «المختار ما‏‎ ‎‏یکون فعله بإرادته، لا ما یکون إرادته بإرادته، وإلاّ لزم أن لایکون إرادته تعالیٰ عین‏‎ ‎‏ذاته، والقادر ما یکون بحیث إن أراد الفعل صدر عنه الفعل، وإلاّ فلا، لا ما یکون إن‏‎ ‎‏أراد الإرادة للفعل فعل، وإلاّ لم یفعل»‏‎[6]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وبعبارة أتیٰ بها المحقّق الوالد ـ مدّظلّه فی رسالته: «إنّ الإرادة من الصفات‏‎ ‎‏الحقیقیّة ذات الإضافة، وزانها وزان سائر الصفات الکذائیّة، فکما أنّ المعلوم ما‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 56
‏تعلّق به العلم، لا ما تعلّق بعلمه العلم، والمحبوبَ ما تعلّق به الحبّ، لا ما تعلّق بحبّه‏‎ ‎‏الحبّ وهکذا، کذلک المراد ما تعلّق به الإرادة، لا ما تعلّق بإرادته الإرادة، والمختار‏‎ ‎‏من یکون فعله بإرادة واختیار، لا إرادته واختیاره. ولو توقّف الفعل الإرادیّ علیٰ‏‎ ‎‏کون الإرادة المتعلّقة به متعلّقاً للإرادة، لزم أن لایوجد فعل إرادیّ قطّ؛ حتّیٰ ما صدر‏‎ ‎‏عن الواجب.‏

إن قلت :‏ هذا مجرّد اصطلاح لایدفع به الإشکال من عدم صحّة العقوبة علی‏‎ ‎‏الفعل الإلجائیّ الاضطراریّ؛ فإنّ مبدأ الفعل ـ وهو الإرادة ـ إذا لم یکن اختیاریّاً،‏‎ ‎‏یکون الفعل اضطراریّاً، فلایصحّ معه العقوبة.‏

قلت :‏ هاهنا مقامان :‏

أحدهما :‏ تشخیص الفعل الاختیاریّ عن الاضطراریّ.‏

وثانیهما :‏ تشخیص مناط صحّة العقوبة عند العقلاء.‏

أمّا المقام الأوّل :‏ فلا إشکال فی أنّ مناط الإرادیّة فی جمیع الأفعال الصادرة‏‎ ‎‏من الفاعل ـ واجباً کان، أو ممکناً ـ ما عرفت.‏

وأمّا المقام الثانی :‏ فلاریب فی ترخیص جمیع العقلاء من کافّة الملل،‏‎ ‎‏العقوبةَ علی العصیان، ویفرّقون بین الحرکة الارتعاشیّة، والحرکة الإرادیّة»‏‎[7]‎‏ انتهیٰ‏‎ ‎‏ملخّص ما أفاده، وکان یعتمد علیه، ولم یوجّه إلیه إشکالاً فی رسالته المعمولة فی‏‎ ‎‏الطلب والإرادة.‏

أقول أوّلاً:‏ إنّ السیّد الاُستاذ تصدّی_' للدفاع من ناحیة لزوم التسلسل، وقدعرفت‏‎ ‎‏حاله، وهذا النحریر الأکبر والعالم الأعظم والمبتکر المفخّم، حاول الدفاع من ناحیة‏‎ ‎‏اختیاریّة الفعل واضطراریّته، مع أنّ من المشکل حلّ کیفیّة وجود الإرادة فی النفس؛‏‎ ‎‏وأنّها توجد بالاختیار والإرادة، أم لا، من غیر النظر إلیٰ مصحّحات العقوبة والمثوبة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 57
وثانیاً :‏ إذا کانت الإرادة غیر اختیاریّة، وکانت هی السبب الوحید للفعل،‏‎ ‎‏وکانت الجزء الأخیر من العلّة التامّة بعد تمامیّة الشرائط ـ علی الوجه الماضی‏‎ ‎‏تفصیله فکیف یوصف الفعل بالاختیار؟!‏

‏وما نریٰ من اتصاف الفعل بالاختیار، فهو لأجل رجوع مبادئه إلی‏‎ ‎‏الاختیار، ولذلک سیقت قاعدة «الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار» ولاریب أنّ‏‎ ‎‏العلم والتصدیق والمیل، لیس اختیاریّاً فی کثیر من الأفعال، وما هو الوحید‏‎ ‎‏والدائم تحت اختیار سلطان النفس ـ إن کانت الإرادة ـ فهی، وإلاّ فلا وجه لتوصیف‏‎ ‎‏الفعل بالاختیار.‏

‏وأمّا النقض بالواجب، فهو موکول إلیٰ محلّه تفصیلاً، وإجماله: أنّ إرادته‏‎ ‎‏الفعلیّة تحصل بالاختیار الذاتیّ والإرادة الذاتیّة، کما یأتی منّا بیانه، فلایلزم من کون‏‎ ‎‏الفعل مختاراً، عدم کون إرادته تحت الاختیار؛ إن ثبت الاختیار الذاتیّ.‏

‏ثمّ إنّ من أعمال القوّة النفسانیّة؛ هی المسمّاة فی عصرنا بـ (الهیپنوتیزم) وهذا‏‎ ‎‏هو تأثیر النفس فی النفس الاُخریٰ بإلقائها الإرادة علیها، وجعل مبادئ الفعل تحت‏‎ ‎‏سلطانها، قبال (منیتیزم) الذی هو التصرّف فی القوّة المنبثّة فی العضلة، وفی أمر‏‎ ‎‏خارج عن سلطان النفس الاُخریٰ والطرف، فهل یقبل العقل إجراء العقوبة علیٰ من‏‎ ‎‏صنع به ذلک، مع أنّه فعله بالإرادة؟!‏

‏وأمّا ما أتیٰ به السیّد الوالد ـ مدّظلّه من البرهان، فهو یرجع إلیٰ تحریر‏‎ ‎‏الشبهة؛ فإنّه إذا کانت إرادة الفعل محتاجة إلی الإرادة یلزم التسلسل، وقضیّة‏‎ ‎‏بطلانه عدم تحقّق الفعل الإرادیّ مطلقاً، ولیس هذا أمراً آخر، ولا دلیلاً علیٰ حلّ‏‎ ‎‏الشبهة، کما لایخفیٰ.‏

وثالثاً :‏ وإن شئت قلت وسادساً: تحسین العقوبة وتقبیحها ـ بحکم العقلاء ـ‏‎ ‎‏هما الحسن والقبح العرفیّان، والذی هو مقصود العدلیّة والإمامیّة، إثبات الحسن‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 58
‏والقبح العقلیّین، فإذا کان ـ بحسب درک العقل ـ حرکة الید المرتعشة کحرکة ید غیر‏‎ ‎‏المرتعش فی عدم کونها بالاختیار، تکون الاُولیٰ لیست اختیاریّة؛ لأجل خروج‏‎ ‎‏تلک القوّة عن سلطان النفس، والثانیة لأجل خروج علّتها عنه، فلاتخلط بین‏‎ ‎‏الحسنین والقبحین العقلائیّین والعقلیّین، فافهم واغتنم.‏

‏ثمّ إنّه ‏‏قدس سره‏‏ أضاف فی ذیل کلامه قولَه: «علیٰ أنّ لأحد أن یقول: إنّ إرادة‏‎ ‎‏الإرادة ـ کالعلم بالعلم، وکوجود الوجود، ولزوم اللزوم ـ من الاُمور الصحیحة‏‎ ‎‏الانتزاع، ویتضاعف فیه جواز الاعتبار لا إلی حدّ، لکن تنقطع السلسلة بانقطاع‏‎ ‎‏الاعتبار من الذهن الفارض؛ لعدم التوقّف العلّی هناک فی الخارج»‏‎[8]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وأنت بعدما علمت مغزیٰ کلام اُستاذه المیر الداماد ‏‏قدس سره‏‏ من أنّه أیضاً تصدّیٰ‏‎ ‎‏لذلک، وعرفت ما وقع هو فیه، فلانعید مواضع الشبهة هنا؛ لمرورک علیها آنفاً.‏

فتحصّل إلی هنا :‏ أنّ المقصود الأقصیٰ والمطلوب الأعلیٰ؛ حلّ الشبهة من‏‎ ‎‏ناحیة اختیاریّة الفعل ولا اختیاریّته، ولا اُبالی من توصیف الفعل بـ «الإرادیّ» فإنّه‏‎ ‎‏یکفی فیه مجرّد استباقه بالإرادة وإن کانت الإرادة بالاضطرار، وماهو اللاّزم کون‏‎ ‎‏الفعل موصوفاً بالاختیار عند العقل الدقیق البرهانیّ، دون الأفهام السوقیّة الساذجة،‏‎ ‎‏ولا شبهة فی أنّ وصف الاختیار للفعل متقوّم باستباقه بالاختیار، وإذا کان المبادئ‏‎ ‎‏والفعل خارجة عنه، فکیف هو یوصف به؟! فلاتخلط.‏

‏وما تریٰ فی حاشیة العلاّمة الأصفهانی ‏‏رحمه الله‏‏ : من توهّمه حلّ الشبهة بما أفاده‏‎ ‎‏صدر المتألهین فی المسألة‏‎[9]‎‏، لایخلو من تأسّف.‏

‏ومن الذین تصدّوا لحلّها؛ العلاّمة الهرویّ صاحب «الکفایة» ‏‏قدس سره‏‏ فقال ـ بعد‏‎ ‎‏خروجه عن فنّه، ودرج المسألة فیما لیس من أهله، وخلطه بین الاُصول العقلیّة،‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 59
‏وعدم نیله القواعد الأوّلیة، کما هو الظاهر الواضح علیٰ من له أدنیٰ إلمام بها : إنّما‏‎ ‎‏یخرج بذلک عن الاختیار؛ لو لم یکن تعلّق الإرادة بها مسبوقة بمقدّماتها‏‎ ‎‏الاختیاریّة، وإلاّ فلابدّ من صدورها بالاختیار»‏‎[10]‎‏ انتهیٰ مورد الحاجة منه.‏

‏وفیه : ـ مضافاً إلیٰ أنّ أصل الشبهة؛ هو أنّ الإرادة التی هی من الموجودات‏‎ ‎‏المحتاجة إلی المؤثّر، کیف تحصل وتوجد؟ فإن کان ذلک بإرادة اُخریٰ یتسلسل،‏‎ ‎‏وإن کان بنفسها فیدور، وإن کانت النفس فاعلها بالطبع، فهو مضافاً إلیٰ مخالفة‏‎ ‎‏الوجدان، لایساعده البرهان الآتی ـ أنّ مبادئ الإرادة قد لاتکون اختیاریّة، وهو‏‎ ‎‏العلم، والاقتدار علی الفعل، والمیل والاشتیاق إلیه.‏

مثلاً :‏ قد یتّفق أن یحصل العلم بوجود الحرام فی البیت؛ من إسماع الغیر‏‎ ‎‏الاختیاریّ، ثمّ تشتاق إلیه النفس قهراً وطبعاً، وتکون لها القوّة علی الإتیان به‏‎ ‎‏بالفطرة، فإذا حصلت هذه المبادئ، فأین المبدأ الذی هو الاختیار؟!‏

وإن قلنا :‏ بأنّ الإرادة اختیاریّة بالوجدان فهو صحیح، ولکنّ الإشکال‏‎ ‎‏المزبور فی کیفیّة اختیاریّتها، مع احتیاجها فی ذلک إلیٰ نفسها أو سنخها، وفی الکلّ‏‎ ‎‏محذور، کما اُشیر إلیه مراراً.‏

‏وأمّا ما یظهر من تلمیذه المحشّی: من إرجاع کلامه إلی الإرادة التشریعیّة؛‏‎ ‎‏وأنّ متعلّقها الفعل الاختیاریّ للعبد، دون مطلق الفعل‏‎[11]‎‏، فهو غیر سدید؛ لأنّ‏‎ ‎‏الإشکال فی کیفیّة إرادة الله تعالیٰ أمر، وفی کیفیّة إرادة العبد لفعله المباشریّ أمر‏‎ ‎‏آخر، والبحث هنا فی الثانی وإن ینجرّ ذیله إلی الأوّل.‏

ولکنّک عرفت :‏ أنّه انجرار غیر لازم‏‎[12]‎‏؛ لأنّ الشبهة متوجّهة إلیٰ جمیع‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 60
‏الطوائف من الملل حتّی المنکرین للمبدأ الأعلیٰ، خذلهم الله تعالیٰ، وتعالیٰ عن ذلک‏‎ ‎‏علوّاً کبیراً.‏

‏ثمّ إنّه یرد علیه : أنّ معنی اختیاریّة بعض مبادئها، أنّه یحصل بالإرادة، فیأتی‏‎ ‎‏السؤال عن هذه الإرادة المتعلّقة بذلک المبدأ الاختیاریّ. وهذا ما أورده علیه الوالد‏‎ ‎‏المحقّق ـ مدّظلّه وجزاه الله خیراً ‏‎[13]‎‏.‏

‏ومنهم صاحب «الدرر» ‏‏قدس سره‏‏ فقال: «إنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة فی نفسها؛‏‎ ‎‏لأنّا نریٰ بالوجدان إمکان أن یقصد الإنسان البقاء فی مکان عشرة أیّام، ویکون‏‎ ‎‏الأثر مترتّباً علی القصد، دون البقاء»‏‎[14]‎‏ انتهیٰ.‏

وفیه :‏ نقض بأنّ تلک الإرادة إذا کانت من الحوادث ، فتحتاج إلی إرادة‏‎ ‎‏اُخریٰ، فیتسلسل.‏

وفیه أیضاً :‏ أنّ تلک الإرادة لو کانت نفس المصلحة ـ فی نفسها ـ کافیة فی‏‎ ‎‏تحقّقها، فینسدّ باب إثبات الصانع؛ للزوم جواز الترجّح بلا علّة ومرجّح.‏

والحلّ :‏ أنّ الإرادة قد تتعلّق بما فیه الصلاح والمطلوب النفسیّ، وقد تتعلّق‏‎ ‎‏بما فیه الصلاح والمطلوبیّة الغیریّة.‏

‏وعلی الثانی تارة : یکون الغیریّـة لأجـل توقّف الخیر والصلاح فی الأمر‏‎ ‎‏الخارجیّ .‏

واُخریٰ :‏ لأجل الخیر والصلاح فی نفس الإرادة؛ لکونها موضوعاً فی الأدلّة،‏‎ ‎‏کما فیما نحن فیه، فالإرادة لابدّ وأن تتعلّق بالراجح وهو البقاء، ورجحانه من قبل‏‎ ‎‏توقّف موضوع الأدلّة علی الإرادة، وإذا کانت هی من الصفات ذات الإضافة، فیکون‏‎ ‎‏المضاف إلیه دخیلاً بالمعنی الحرفیّ، وخارجاً بالمعنی الاسمیّ، فالتقیّد داخل،‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 61
‏والقید خارج، فلاتغفل.‏

‏وربّما یقال ـ والقائل السیّد الاُستاذ البروجردیّ فی مباحث التعبّدی‏‎ ‎‏والتوصّلی ـ دفعاً للإشکال: «بأنّ إرادیّة کلّ شیء بالإرادة، وإرادیّة الإرادة بنفسها،‏‎ ‎‏وهذا کما فی الوجود وأمثاله»‏‎[15]‎‏.‏

‏وأنت خبیر بما فیه من الخلط بین الحیثیّة التعلیلیّة والتقییدیّة، وربّما یرجع‏‎ ‎‏ذلک إلی ماورد فی الأخبار: من ‏«أنّ الله تبارک وتعالیٰ خلق الأشیاء بالمشیّة، وخلق‎ ‎المشیّة بنفسها»‎[16]‎‏ وسیأتی تحقیقه عند ذکر الحقّ فی المسألة‏‎[17]‎‏.‏

‏والذی أفاده الوالد ـ مدّظلّه بعدما أفاض فی تحقیق المسألة، ویأتی بیانه‏‎ ‎‏زائداً علیه: «هو أنّ النفس فی الأفعال الخارجیّة الصادرة منها، لمّا کان توجّهها‏‎ ‎‏الاستقلالیّ إلیها، وتکون المبادئ ـ من التصوّر إلی العزم والإرادة ـ منظوراً بها؛ أی‏‎ ‎‏بنحو التوسّل إلی الغیر، وبنعت الآلیّة، لم تکن متصوّرة، ولا مرادة، ولا مشتاقاً إلیها‏‎ ‎‏بالذات، بل المتصوّر والمراد والمشتاق إلیه؛ هو الفعل الخارجیّ الذی یتوسّل بها‏‎ ‎‏إلیه، فلا معنیٰ لتعلّق الإرادة بالإرادة ولو فرض إمکانه؛ لعدم کونها متصوّرة، ولا‏‎ ‎‏مشتاقاً إلیها، ولا معتقداً فیها النفع»‏‎[18]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وأنت تریٰ أنّه حلّ عرفیّ، وخارج عن حیطة المسألة العقلیّة، وأنّ تمام‏‎ ‎‏الشبهة حول کیفیّة حدوث الإرادة حسب القواعد العقلیّة، ولا معنی لمثله فیما یکون‏‎ ‎‏سلطانه العقل، وسبیله البرهان ولایقاس بالموضوعات الشرعیّة. هذا مع أنّ فی‏‎ ‎‏بعض الأحیان، تکون هی منظوراً فیها، کما فی قصد الإقامة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 62
‏ولقد حان وقت طلوع ما به تنحلّ المعضلة، وترتفع الشبهة، وقد مرّ إجماله‏‎ ‎‏منّا فی السالف بإثبات الإرادة والاختیار الذاتیّین للنفس، وأنّ السلسلة قهراً‏‎ ‎‏تنقطع بذلک‏‎[19]‎‏.‏

‏وقبل الخوض فی الجواب، نشیر إلیٰ إعضال آخر فی المقام: وهو أنّ فعل الله ‏‎ ‎‏تعالیٰ إمّا یکون بالإرادة، أو لا، لاسبیل إلی الثانی، فإن کان بالإرادة فهی إمّا عین‏‎ ‎‏ذاته، أو زائدة علیها لاسبیل إلی الثانی؛ للزوم الإمکان، والترکب من النقص‏‎ ‎‏والکمال، وللتسلسل؛ ضرورة أنّ هذه الإرادة إمّا تحصل بلا إرادة، أو تحصل بنفسها،‏‎ ‎‏أو بإرادة اُخریٰ زائدة، والکلّ ممنوع، فیتعیّن کونها مستندةً إلی إرادة ذاتیّة.‏

‏وتوهّم کفایة العلم الذاتیّ والقدرة الذاتیّة؛ لحصول تلک الصفة الزائدة علی‏‎ ‎‏الذات، غیر سدید کما عرفت‏‎[20]‎‏؛ ضرورة أنّ المشیّة مأخوذة فی القدرة، فکیف‏‎ ‎‏تکون القدرة ذاتیّة، ولا تکون المشیّة عین ذاته؟!‏

‏هذا مع أنّ نسبة المعلوم والمقدور إلی العلم والقدرة بالإمکان، «والشیء مالم‏‎ ‎‏یجب لم یوجد»، من غیر فرق بین العلم الإمکانیّ والوجوبیّ، والقدرة الإمکانیّة‏‎ ‎‏والوجوبیّة؛ لعدم التخصیص فی الأحکام العقلیّة.‏

‏هذا مع أنّ المقصود الأقصیٰ إثبات الاختیار الذاتیّ، فهو تعالیٰ ذو اختیار،‏‎ ‎‏ولیس صفة الاختیار له زائدة علیٰ ذاته بالضرورة، وإلاّ یلزم تحقّقها لذاته بلا‏‎ ‎‏اختیار، فما تریٰ فی کتب المتکلّمین وجماعة من الاُصولیّین: من نفی الإرادة‏‎ ‎‏الذاتیّة‏‎[21]‎‏؛ ظانّین المصاعب الکثیرة فی ذلک، کلّه ناشئ عن الجهالة، وعدم نیل‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 63
‏الحقائق من الطرق الصحیحة.‏

‏وهذا هو معنی الحدیث الشهیر: ‏«إنّ الأشیاء خلقت بالمشیّة، والمشیّة‎ ‎بنفسها»‎[22]‎‏ فإنّ المشیّة الفعلیّة ـ وهی الوجود المنبسط مثلاً ـ معلولة المشیّة الذاتیّة،‏‎ ‎‏وإلاّ فلایعقل خلق الشیء بنفسه الشخصیّة، کما لایخفیٰ.‏

‏إذا عرفت ذلک، فلابدّ من أن تطلّع علیٰ أنّ النفس المتّحدة، هی من دار القدرة‏‎ ‎‏والملکوت، ومن ذوات التجرّد والجبروت، تکون ظلّه تعالیٰ فی استجماعها جمیع‏‎ ‎‏القویٰ ـ بنحو الکثرة ـ فی الوحدة؛ علیٰ وجه لایناقض بساطتها، ولایضادّ وحدتها.‏

وإن شئت قلت :‏ أفعال النفس تنقسم إلی الأفعال الجوارحیّة، والجوانحیّة، فما‏‎ ‎‏کانت من أفعالها الجوارحیّة، تحتاج فی وجودها إلی المبادئ المفصّلة المزبورة؛ من‏‎ ‎‏التصوّر إلی العزم والإرادة، وما کانت من أفعالها الجوانحیّة، فلا معنیٰ لاحتیاجها فی‏‎ ‎‏خلقها إلی المبادئ، کما هو الواضح بالوجدان.‏

‏فإذا لاحظت حال خلق النفس للصور العلمیّة؛ وأنّها تقدر علیٰ إیجادها‏‎ ‎‏لأجل وجود الملکة العلمیّة، أو لأجل کونها خلاّقة لها؛ لارتفاع الحجب والموانع‏‎ ‎‏عن تأثیرها فیها، ولا تکون فی ذلک محتاجة إلیٰ تصوّرها، بل هی توجد بنفس‏‎ ‎‏التصوّر، وکثیراً ما تقتدر علی إیجاد الصور والمتخیّلات بالاختیار؛ أی قد یحصل‏‎ ‎‏المعنی التصوّری فی النفس بالأسباب والمعدّات الخارجیّة، کالسماع والإبصار،‏‎ ‎‏فعند ذلک لاتکون هی مختارة فی حصولها.‏

‏ولکن فیما إذا کانت المبادئ لتحقیق المعنی التصوّری، موجودةً فی خزانة‏‎ ‎‏النفس من قبل، وتکون واجدة لموادّ المرتسمات الذهنیّة، تکون بالاختیار والخیار‏‎ ‎‏فی ذلک أحیاناً. ولکن لا اختیار لها علی الإطلاق من جمیع الجهات، کما لا خیار‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 64
‏للمبدأ الأعلیٰ فی علمه بذاته وعلمه بغیره، لا لقصور فی حقّه تعالیٰ، بل لعدم تعلّق‏‎ ‎‏الاختیار فی الواجبات والضروریّات.‏

‏إذا لاحظت ذلک، تقدر علیٰ أن تکون علیٰ بصیرة فی الإرادة والقصد والعزم‏‎ ‎‏التی هی من الأفعال الجوانحیّة، فإنّها خلاّقة لها، وفعّالة لها، من غیر حاجة إلی‏‎ ‎‏الإرادة الفعلیّة والاختیار الزائد علیٰ ذاتها، بل نفس ذاتها ـ بما لها من الکمالات‏‎ ‎‏الأوّلیة، وبما أنّها مستجمعة لجمیع النعوت بنحو الجمع والاندماج، مع نهایة الضعف‏‎ ‎‏والفتور ـ مختارة فی ذلک.‏

‏بل الاختیار من الأوصاف الذاتیّة غیر المنقسمة إلی الاختیار الذاتیّ والفعلیّ،‏‎ ‎‏بخلاف العلم والقدرة والإرادة، ودلیل ذلک عدم المحاکاة له فی الأعیان، ولا‏‎ ‎‏الأذهان، مع وجوده فینا وفی المبدأ الأعلیٰ بالقطع والیقین.‏

‏فعلیٰ ما تقرّر إلی هنا، تندفع الشبهة، وتنقطع السلسلة، ویثبت الاختیار.‏

‏وهذا الذی ذکرناه مضافاً إلیٰ موافقته للبرهان، یشاهده الوجدان؛ فإنّ ‏«من‎ ‎عرف نفسه فقد عرف ربّه»‎[23]‎‏ فإذا لاحظ کیفیّة تصدّی النفس لخلق هذه الأفعال؛‏‎ ‎‏وأنّها بالنسبة إلیها فاعلة بالعنایة، بل بالتجلّی ـ بخلاف فاعلیّتها لأفعالها الجوارحیّة،‏‎ ‎‏فإنّها بالقصد والآلة ـ یتوجّه إلیٰ کیفیّة فاعلیّته تعالیٰ، وإن کان هذا الأمر خارجاً عمّا‏‎ ‎‏حاولته هذه السطور من التوضیح والتحریر.‏

إن قلت :‏ هذا فیما إذا کانت الإرادة والصور العلمیّة من الأفعال ومخلوقاتها،‏‎ ‎‏وأمّا إذا کانت من العوارض وحالاتها القائمة بها قیاماً الحلولیّاً، فلایتمّ ما اُفید وتقرّر.‏

قلت :‏ نعم، ولکن شهادة الوجدان وقضیّة البرهان ـ کما مرّ تفصیله ـ علیٰ أنّ‏‎ ‎‏الأمر لیس کما توهّم، ولاسیّما فی الإرادة. مع أنّ مقتضیٰ ماهو الأقرب؛ أنّها بالنسبة‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 65
‏إلیٰ جمیع المدرکات الخیالیّة والوهمیّة بالإیجاد وخلق المماثلات، علی التفصیل‏‎ ‎‏المذکور فی الکتب المفصّلة‏‎[24]‎‏، وماهو النافع لنا هنا کون الإرادة فعلها، وهو کذلک‏‎ ‎‏بالضرورة والوجدان.‏

‏بل الحقّ بناءً علیٰ کونها قائمة بالنفس قیاماً حلولیّاً أیضاً، استنادها إلیها،‏‎ ‎‏وتقوّمها بها، فتکون النفس متصدّیة لوجودها، ولکن ذلک لا بإرادة اُخریٰ زائدة‏‎ ‎‏علیٰ ذاتها، بل بإرادة عین ذاتها، واختیارِ عین حقیقتها، فإنّها مجمع الکمالات؛ قضاءً‏‎ ‎‏لحقّ تجرّدها، ولحقّ التشکیک الخاصّی الثابت بین أنحاء الوجودات، ولاسیّما‏‎ ‎‏المجرّدات کما لایخفیٰ.‏

إن قلت :‏ کیف یعقل الإرادة الذاتیّة مع کونها من الصفات ذات الإضافة، فیلزم‏‎ ‎‏کون جمیع المرادات داخلة فی الذات، وقدیمة الوجود وقدیماً ذاتیّاً؟!‏

قلت :‏ هذا فی المبدأ الأعلیٰ مندفع: بأنّ المراد نفس ذاته؛ لأنّه المحبّ‏‎ ‎‏والمحبوب، والغایة فی الخلق ذاته؛ بظهورها علیها، کما فی الحدیث الشریف‏‎[25]‎‏.‏‎ ‎‏ونظیره فینا إذا تعلّقت ببقاء الإنسان، فإنّ المراد نفس الذات، لا أمراً خارجاً عنها‏‎ ‎‏حتّیٰ یلزم ما توهّم. ولیس معنیٰ تعلّق الإرادة المتعلّقة بالذات، کونَ الذات متصدّیة‏‎ ‎‏لإیجادها، بل ذلک تابع لکیفیّة تعلّق الإرادة، کما مضیٰ‏‎[26]‎‏. هذا فی المبدأ الأعلیٰ.‏

‏وأمّا فینا، فربّما یشکل لأجل عدم تصدّی النفس للإرادة دائماً، بل ربّما ترید،‏‎ ‎‏وربّما لاترید بالإرادة الفعلیّة، وتلک الإرادة معلولة الإرادة الذاتیّة، فیلزم الاضطرار‏‎ ‎‏الدائم للإرادة الذاتیّة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 66
وحلّه :‏ أنّ المراد من «الإرادة الذاتیّة» هو تصدّی الذات لخلق الإرادة الفعلیّة،‏‎ ‎‏من غیر احتیاجها إلی الإرادة الاُخریٰ، والذات تحتاج فی التصدّی إلی المبادئ، وإذا‏‎ ‎‏حصلت المبادئ وادرک الصلاح، یختار الإرادة ؛ من غیر الحاجة إلی الإرادة‏‎ ‎‏الاُخریٰ، وهذا لایستلزم کون الفعل النفسانیّ ـ وهی الإرادة ـ اضطراریّة؛ لاختیاریّةٍ‏‎ ‎‏ذاتیّةٍ سابقة علیها.‏

إن قلت :‏ نسبة الإرادة الفعلیّة إلی الاختیارالذاتیّ بالإمکان، فلابدّ من الإرادة؛‏‎ ‎‏لخروجها من الإمکان إلی الوجوب.‏

قلت :‏ لایتقوّم الخروج المذکور بثبوت الإرادة الذاتیّة فی النفس، بل النفس‏‎ ‎‏تتصدّیٰ لذلک من غیر احتیاج إلیها، کما هو المشاهد بالوجدان.‏

وإن شئت قلت :‏ إدراک رجحان وجودها، کافٍ فی صرف قدرتها إلیٰ طرف،‏‎ ‎‏فتأمّل جیّداً.‏

إن قلت :‏ لامعنیٰ للإرادة الذاتیّة والاختیار الذاتیّ فی الممکنات؛ لأنّ المراد‏‎ ‎‏من «الذاتیّ» إمّا ذاتیّ باب الإیساغوجی، أو ذاتیّ باب البرهان:‏

أمّا الأوّل :‏ فواضح المنع.‏

وأمّا الثانی:‏ فهو خارج المحمول الذی لا یتصوّر إلاّ فی حقّه تعالیٰ، الذی‏‎ ‎‏ذاته الوجود والعلم والقدرة والإرادة، وأمّا فی الممکنات فإنّ لها الماهیّات، والوجودُ‏‎ ‎‏وکماله خارج عنها، ومحمول علیها بالضمیمة، وإن کانت الحیثیّة التعلیلیّة عین‏‎ ‎‏الحیثیّة التقییدیّة فی المجرّدات الأمریّة.‏

قلت :‏ نعم، ولکن کمالات الوجود بما هو الوجود، کلّها خارج المحمول؛ من‏‎ ‎‏غیر فرق بین أنحاء الوجودات.‏

‏نعم، بالقیاس إلی الحدود والماهیّات محمولات بالضمیمة، فالإرادة ذاتیّة‏‎ ‎‏للنفس؛ أی أنّ وجود النفس واجد لها بوجدانها أصل وجودها، لا أمر زائدٍ علیها،‏‎ ‎‏کما فی الصور الارتسامیّة والمعانی الوهمیّة، فإنّها موجودة لها، زائدة علیٰ أصل‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 67
‏الوجود، ظاهرة علیها من بطونها بعد ارتفاع الحجب عنها، أو بعد اتصافها بالملکیّة‏‎ ‎‏الداخلة فی أصل وجودها، خلاّقة للصور المفصّلة.‏

‏هذا مع أنّ المعروف بین أبناء الفضیلة؛ أنّ النفس وما فوقها إنّیات صرفة لا‏‎ ‎‏ماهیّة لها‏‎[27]‎‏، من غیر لزوم التنافی مع القاعدة المعروفة «کلّ ممکن زوج ترکیبیّ من‏‎ ‎‏ماهیّة ووجود» وللمسألة شأن آخر، ومعلّم ومتعلّم أعلیٰ، فلتطلب من محالّها.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ جعل النفس بالجعل البسیط، یکفی عن جعل الإرادة‏‎ ‎‏والاختیار الذاتیّین، بخلاف الإرادة والعلم الزائدین علی أصل وجودها، فإنّهما‏‎ ‎‏یحتاجان إلی جعل آخر، فهذا هو المراد من «الذاتیّ» فی المسألة، فلاتخلط،‏‎ ‎‏ولاتغترّ بما فی ظواهر سمعتها.‏

‏والمناط فی تشخیص العناوین الذاتیّة عن غیرها: هو أنّ کلّ حیثیّة کانت‏‎ ‎‏النفس عالمة بها بعلم حضوریّ ـ بمعنیٰ أنّ علمها بنفسها کافٍ عن العلم بها ـ فهی‏‎ ‎‏داخلة فی وجود النفس، ولایعقل جعل بینها وبین النفس، ولا شبهة ـ وجداناً ـ فی‏‎ ‎‏أنّ الاختیار ممّا یدرکه النفس بإدراک ذاتها، لا بصورة زائدة علیٰ ذاتها.‏

إن قلت :‏ الاختیار الذاتیّ والإرادة الذاتیّة، یستلزم التفویض.‏

قلت :‏ کلاّ؛ فإنّ التفویض یستلزم وجوب الوجود، والاستقلالَ فی الفعل یلازم‏‎ ‎‏الاستقلال فی الذات، وهذا غیر لازم من تلک المسألة، فتدبّر.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 68

  • )) کفایة الاُصول : 88 ـ 89 ، بحوث فی الاُصول، رسالة فی الطلب والإرادة: 49، محاضرات فی اُصول الفقه 2 : 52 ـ 53 .
  • )) القبسات : 473 ـ 474، الحکمة المتعالیة 6 : 389 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 41 .
  • )) الحکمة المتعالیة 6 : 390 .
  • )) الطلب والإرادة : 97 .
  • )) الحکمة المتعالیة 6 : 388 .
  • )) الطلب والإرادة : 105 ـ 107 .
  • )) الحکمة المتعالیة 6 : 388 ـ 389 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 288 .
  • )) کفایة الاُصول : 89 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 284 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 52 ـ 53 .
  • )) الطلب والإرادة : 100 .
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 338 .
  • )) نهایة الاُصول : 122 .
  • )) الکافی 1 : 110، بحار الأنوار 57 : 56 .
  • )) یأتی فی الصفحة 64 ـ 65 .
  • )) الطلب والإرادة : 112 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 44 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 46 .
  • )) شرح المقاصد 4 : 128 و 133، شرح المواقف 8 : 85 ـ 86، محاضرات فی اُصول الفقه 2: 37 ـ 38 .
  • )) الکافی 1 : 85 / 4، التوحید : 148 .
  • )) غرر الحکم ودرر الکلم : 7946 .
  • )) الحکمة المتعالیّة 2 : 264 ـ 266 .
  • )) لعلّه إشارة إلی حدیث «کنت کنزاً مخفیّاً فأحببتُ أنْ اُعرف فخلقتُ الخلقَ لکی اُعرف» ، بحار الأنوار 84 : 344 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 43 ـ 44 .
  • )) لاحظ الحکمة المتعالیة 1 : 43 .