السادس : حول تقسیم الإرادة إلی التکوینیّة والتشریعیّة
من تلک المباحث بحث تقسیمها إلی الإرادة التکوینیّة والتشریعیّة، وهذا التقسیم لیس بلحاظ ذاتها؛ لعدم اختلافها فی القسمین بحسب الحقیقة، بل التقسیم بلحاظ أمر خارج عنها متعلّق بها؛ وهو متعلّقها، وسرایته إلیها لأجل کونها من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 68
الصفات ذات الإضافة، فتلک الإرادة فی التشریعیّة والتکوینیّة واحدة، وإنّما اختلافها بحسب المراد.
ثمّ إنّ الذی حداهم إلی هذا التقسیم، ما رأوا من القاعدة المعروفة المسبوقة «وهی أنّ الإرادة الجزء الأخیر من العلّة التامّة» فبعدما سمعوا ذلک، لاحظوا انتقاضها بالإرادة المتعلّقة فی الأوامر والنواهی بصدور الفعل من المکلّف، مع عدم صدوره منه، فإنّها تتخلّف عن المراد، فبنوا علیٰ تخصیص القاعدة العقلیّة، أو تضییق مصبّها، وبیان موقفها:
فقال «الکفایة» فی موضع منها جواباً عن النقض المزبور: «بأنّ استحالة التخلّف، إنّما تکون فی الإرادة التکوینیّة؛ وهی العلم بالنظام علی النحو الکامل التامّ، دون الإرادة التشریعیّة؛ وهو العلم بالمصلحة فی فعل المکلَّف، وما لا محیص عنه فی التکلیف إنّما هو هذه الإرادة التشریعیّة، لا التکوینیّة» انتهیٰ.
وقد صدّقه جماعة من الأفاضل فیما أفاده، ومنهم العلاّمة الأراکیّ صاحب «المقالات» فقال: «الإرادة التشریعیّة: هی التی تعلّقت بصدور الفعل من غیره بالاختیار، والإرادة التکوینیّة لیست کذلک، والاُولیٰ تنفکّ عن المراد، دون الثانیة».
وقال المحشّی العلاّمة قدس سره : «إنّ الإرادة التشریعیّة لیست ما تتعلّق بالتحریک والبعث؛ فإنّهما من أفعاله، فلا مقابلة بین التشریعیّة والتکوینیّة، بل التشریعیّة هی الشوق المتعلّق بفعل الغیر اختیاراً. وهذا الشوق یتصوّر فیما إذا کان لفعل الغیر فائدة عائدة إلی المرید، وإلاّ فلا یعقل تحقّق الشوق المزبور، ولذلک لا یعقل هذا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 69
النحو من الإرادة فی النفوس النبویّة والعلویّة» انتهیٰ.
فتحصّل إلی هنا : أنّ جماعة اختاروا التفکیک بین الإرادتین.
وهذا المدقّق النحریر وإن أشرف علی التحقیق، ولکنّه لم یأتِ بجمیع ماهو الحقّ، فذهب إلی اتحاد الإرادة التکوینیّة والتشریعیّة فی المبدأ الأعلیٰ والمبادئ العالیة؛ بإنکار المقابلة. وهذا معناه اختیاره الإرادة التشریعیّة فی مقابل التکوینیّة فی العرف والعقلاء والنفوس الجزئیّة المستفیدة.
والذی هوالحقّ : أنّ الإرادة التشریعیّة کالتکوینیّة من حیث المبادئ والأحکام، وإنّما الاختلاف بینهما فی المتعلّق وبحسب المراد؛ ضرورة أنّ الإرادة من الأعیان الموجودة فی اُفق النفس، فتحتاج إلی العلّة بالضرورة من غیر فرق بینهما.
نعم، إذا أراد الإنسان والفاعل المباشر شرب الماء، یتحرّک نحوه بحرکة عضلات الید والرجل مثلاً، وحرکة الفم والازدراد، حتّیٰ یحصل الشرب.
وإذا رأی أن یتصدّیٰ خادمه لذلک، فلا یرید إلاّ ماهو فی اختیاره؛ أی لایتمکّن من إرادة شیء خارج عن اختیار المرید وهو صدور الفعل من المأمور به؛ لأنّه أمر خارج عن حیطة سلطانه، بل هو یرید تحریکه وبعثه نحو إتیان الماء، وهذا أمر مقدور له، فیبعثه نحوه باستعمال الهیئات الموضوعة لذلک، فیتوسّل بها إلیٰ ماهو غرضه ومقصوده اللبّی.
وعند ذلک یعلم، عدم الفرق بین الإرادة المتعلّقة بتحریک الغیر، وبین الإرادة المتعلّقة بحرکة نفسه نحو إتیان الماء؛ فی الحکم، فتکون هاتان الإرادتان غیر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 70
متخلّفتین عن المراد.
فلا فرق بین کون الغرض الفائدة العائدة إلیه، أو کون الغرض الفائدة العائدة إلی المأمور؛ فإنّ الإرادة التشریعیّة فی جمیع الأفراد ـ نبیّاً کان، أو ولیّاً، أو عادیّاً ـ لاتختلف حسب المتعلّق والمراد، وإنّما الاختلاف فی المقاصد والأغراض الخارجة عن حیطة الإنشاء وإبراز المراد، کما هو الظاهر. وبعد هذا البیان القویم البنیان، ینقدح مواضع الخلط فی الکلمات.
هذا مع أنّ الإرادة المتعلّقة بفعل الغیر اختیاراً، تستلزم تحقّق المراد بالإرادة والاختیار؛ لأنّ ترجیح أحد الطرفین بإرادة غالبة علی الإرادة المباشریّة، لاینافی صدور الفعل عن الإرادة والاختیار، ولایلزم الخلف المتوهّم فی کلمات صاحب «المقالات».
ثمّ إنّ الظاهر من «الکفایة» تفسیر الإرادة فی التکوینیّة والتشریعیّة: بالعلم بالصلاح، وقد عرفت : أنّ الإرادة بمعنی واحد فی الذاتیّة والفعلیّة، وفی المبدأ وغیره، وإنّما الاختلاف فی هذه الإرادات فی الاُمور الخارجة عنها اللاحقة بها، فتوصیفها بـ «التشریعیّة» لأجل تعلّقها بالتشریع والتقنین.
وأمّا کیفیّة الإرادة التشریعیّة فی المبدأ الأعلیٰ، فهی من المسائل الغامضة التی قلّما یتّفق لبشر أن یصل إلی مغزاها، ویکشف لدیه مصیرها وموردها؛ فإنّ ذلک من شعب کیفیّة نزول الوحی وإیحاء الکتب إلی الأنبیاء المرسلین، وهذا من أسرار الأسفار الأربعة، ومن بطون المعارف الإلهیّة، وقد فصّلناه فی «القواعد الحکمیّة»
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 71
فتکون خارجة عن هذه العلوم الاعتباریّة.
ولقد اُشیر إلی بعض مراتبها وطائفة من رموزها فی الکتاب الإلهیّ، ولعلّ منه قوله تعالیٰ: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِینُ* عَلَی قَلْبِکَ».
وقوله تعالیٰ: «إنّه لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ* فِی کِتَابٍ مَکْنُونٍ* لاٰیَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ».
وقوله تعالیٰ: «إنْ هُوَ إلاّٰ وَحْیٌ یُوحَیٰ* عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُویٰ* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَویٰ* وَهْوَ بِالاُفُقِ الْأَعْلَیٰ* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّیٰ* فَکَانَ قَابَ قَوْسَیْنِ أوْ أَدْنَیٰ* فَأوْحَیٰ إلیٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَیٰ* مَاکَذَبَ الْفُؤآدُ مَارَأیٰ* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَیٰ مَایَرَیٰ* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً اُخْرَیٰ* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهیٰ* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمأْوَیٰ».
وربّما یشیر إلی تلک البارقة الإلهیّة ما عن الصادق علیه السلام: «والله ِ، ماجاءت ولایة علیّ علیه السلام من الأرض، ولکن جاءت من السماء مشافهة».
وقال فی «الصافی» : «وفی التعبیر عن هذا المعنیٰ بهذه العبارة، إشارة لطیفة إلیٰ أنّ السائر بهذا السیر منه سبحانه نزل، وإلیه صعد، وأنّ الحرکة الصعودیّة کانت انعطافیّة؛ وأنّها لم تقع علیٰ نفس المسافة النزولیّة» انتهیٰ.
والحمدُ لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 72