الجهة الثانیة : البحث الإثباتیّ
فی کیفیّة استفادة الوجوب ـ بعد ثبوت إفادتها الوجوب، وبعدما ظهر إمکانه عقلاً ـ طرق عدیدة مفصّلة فی الکتب المطوّلة، ونحن نشیر إلیٰ عمدها إجمالاً:
الطریقة الاُولیٰ : دعوی الانصراف؛ معلّلاً بغلبة الاستعمال. وأنت خبیر بما فیه من منع الصغریٰ والکبریٰ.
الطریقة الثانیة : أنّ الصیغة وإن لم تدلّ بالوضع علیٰ أکثر من التحریک الاعتباریّ، ولکنّها کاشفة عن الإرادة الحتمیّة کشفاً عقلائیّاً.
وفیه ما لا یخفیٰ؛ لأنّ الکشف العقلائیّ منوط بکثرة الاستعمال البالغة إلی حدّ الاتفاق فی الإرادة اللزومیّة مع القرینة، حتّیٰ یعدّ من الوضع التخصّصی، وإلاّ فلا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 92
وجه للکاشفیّة الظنّیة، فضلاً عن العقلائیّة.
الطریقة الثالثة : أنّ عدم القرینة قرینة الوجوب واللزوم.
ولعمری، إنّه أقرب الوجوه؛ فإنّ العرف والعقلاء بناؤهم علیٰ نسبة الوجوب واللزوم إلی المولیٰ؛ بعدما رأوا منه الأمر والبعث والتحریک، فیعلم من النسبة المزبورة: أنّ الصیغة تلازم الوجوب والتحتّم عند قیام القرینة العدمیّة.
وإن شئت قلت : الوجوب والندب من العناوین المتقابلة، ومنشأ تقابلهما إمّا ذاتهما؛ لما بینهما من الاختلاف الذاتیّ فی عالم العنوانیّة، أو اختلاف مناشئهما؛ وهی الإرادة الموجودة فی نفس الموالی. واختلاف الإرادات لیس کاختلاف الماهیّات العالیة الجنسیّة أو النوعیّة، بل الإرادة فی الندب والوجوب من نوع واحد، واختلافهما بالمنضمّات الفردیّة.
وما قرع سمعک: من التشکیک الخاصّی، فهو لیس فی الفردین من النور والوجود العرضیّین، بل هو فی النور الواحد الذی له مراتب، وما فیه التشکیک هو الواحد الشخصیّ بحسب مراتبه من العلّیة والمعلولیّة، وأمّا بین الأفراد العرضیّة التی لیست بینها العلیّة والمعلولیّة، فلا تشکیک خاصّی، فلا معنی لتصویر التشکیک بین الفردین من الخطّ الطویل والقصیر؛ فإنّهما متباینان کزید وعمرو.
نعم، النور الضعیف الموجود بعین وجود القویّ، ممتاز عنه بنفس النورانیّة، لا بالنور الآخر. نعم هذا التشکیک هو التشکیک العامّی.
فبالجملة : لایعقل کون الوجوب ناشئاً من الإرادة غیر المحدودة، والندب من الإرادة المحدودة وإن کانتا مشکّکتین؛ فإنّه أجنبیّ عمّا نحن بصدد إثباته، فإذا کان کلّ واحد منهما غیر الآخر فی الوجود والعلل ومبادئها، فلا معنیٰ لاحتیاج أحدهما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 93
إلی القرینة، دون الآخر.
نعم، یمکن کون قرینة أحدهما عدمَ القرینة، فعند ذلک یتمّ المقصود، ویستفاد الوجوب عند التحریک والبعث، فلاتغفل.
الطریقة الرابعة : «أنّ بناء العقلاء علیٰ تمامیّة الحجّة من المولیٰ بالأمر، ولایصغیٰ إلی الأعذار الراجعة إلی المحتملات؛ والاستعمالات الکثیرة للصیغة، فکأنّهم یرون أنّ تمام الموضوع لوجوب الطاعة، هو البعث والإغراء؛ سواء کان صادراً بالصیغة، أو بالإشارة ونحوها، من غیر التوجّه إلی المسائل العلمیّة؛ والتشکیک الخاصّی بین أنحاء الإرادات، وأنّ الظاهر من طریقتهم أنّ بعث المولیٰ لابدّ وأن لایکون بلا جواب، وأنّه لابدّ من الانبعاث نحوه، إلاّ إذا دلّ الدلیل علی الترخیص».
أقول : هذا ما أفاده السیّد المحقّق الوالد ـ مدّظلّه واستظهر أنّ ذلک هو مرام شیخه العلاّمة أعلی الله مقامه.
وأنت بعد المراجعة إلی «الدرر» تحیط خبراً بأنّ الأمر لیس کما قیل، وأنّ ما أفاده غیر مقبول؛ ضرورة أنّ العقلاء ینسبون الإرادة الحتمیّة والوجوب واللزوم إلی المولیٰ، والفقهاءَ وأرباب النظر بناؤهم علی الإفتاء بالوجوب فی هذه المواقف، ولو کان الأمر کما ذکر لما کان لذلک وجه.
الطریقة الخامسة : «أنّ قضیّة مقدّمات الحکمة هو الوجوب واللزوم؛ وذلک لأنّ الوجوب واللزوم من العناوین الاعتباریّة التی لاتحتاج فی مقام الإفادة والاستفادة إلی القید الزائد، بخلاف الاستحباب والندب.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 94
وإن شئت قلت : الإرادة التی توجد فی النفس لإفادة الوجوب، لا حدّ لها، بخلاف الإرادة التی توجد فیها لإفادة الندب.
وبعبارة ثالثة : إنّ کلّ طالب إنّما یأمر لأجل التوسّل إلیٰ إیجاد المأمور به، فلابدّ وأن لایکون طلبه قاصراً عن ذلک، وإلاّ فعلیه البیان، والطلب الإلزامیّ غیر قاصر عنه، دون الاستحبابیّ، فلابدّ أن یحمل علیه الطلب» انتهیٰ.
أقول : هذا هو الوجه الذی اعتمد علیه صاحب «المقالات» ولعمری، إنّه أسخف الوجوه، وکأنّه نسب إلیه ما لا یرضیٰ به؛ لأنّه کیف یمکن أن یکون نقاط الضعف فیه، مخفیةً علیٰ مثله قدس سره؟!
فبالجملة : کلّ مفهوم إذا کان مقابل مفهوم آخر؛ إمّا یکون تقابلهما بتمام ذاتهما البسیطة، أو المرکّبة، أو ببعض الذات:
فإذا کان ببعض الذات، فلابدّ من الاشتراک فی البعض الآخر.
وإن کان الوجوب والندب من قبیل الأوّل، أو من قبیل الثانی، فلایمکن کفایة الصیغة المطلقة لاستفادة أحدهما المعیّن بالضرورة؛ لاحتیاج کلّ إلی القید والقرینة.
وإن کان ما به الاختلاف عین ما به الامتیاز، وتکون النسبة بینهما نسبةَ الأقلّ والأکثر، فهو لایتصوّر فی العناوین مطلقاً، والوجوب والندب منها بالضرورة.
ولو سلّمنا أنّ المقصود إثبات الأمر الآخر؛ وهو الوجوب، وعدم الوجوب؛ أی یکون النظر إلیٰ حقیقة خارجیّة تکون هی منشأ انتزاعهما، ولیس الوجوب من الاُمور الاعتباریّة، بل هو من الانتزاعیّات، فإنّه عند ذلک یأتی ما مرّ منّا: من أنّ التشکیک الخاصّی بین الإرادات، لایستلزم کون الإرادة فی أوّل وجودها، منشأً لانتزاع مفهوم الوجوب، بل الأمر بالعکس؛ لأنّ الوجوب ینتزع من المرتبة الشدیدة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 95
ولا دلیل علیٰ وجود هذه المرتبة، بل القدر المتیقّن هو أصل الإرادة الذی هو منشأ انتزاع مفهوم اللاوجوب.
فتحصّل : أنّ التمسّک بمقدّمات الحکمة، موقوفة صحّته علیٰ إثبات أنّ الإطلاق یقتضی الوجوب، وهو ممنوع؛ لما مرّ من اختلاف العناوین بحسب المفهوم، واختلاف الإرادات بحسب الوجود، واختلافُها فی الشدّة والضعف، تابع لاختلاف المصالح والمفاسد المدرکة فی المرادات والمتعلّقات، ولیس ذات الإرادة ـ بما هی إرادة ـ ذات تشکیک، بل التشکیک فیها بتبع التشکیک فی الجهات الاُخر. ولو کانت ذواتها مشکّکة بالتشکیک الخاصّی ـ کما لایبعد ذلک فی بادی النظر ـ ولکنّه أجنبیّ عن المرام والمقصود فی المقام.
فینحصر الاستفادة بالطریقة الرابعة: وهی أنّ طریقة العقلاء علی استکشاف الإرادة الجدّیة الحتمیّة من القرینة العدمیّة؛ وهی عدم ذکر القرینة الوجودیّة علیٰ سائر الدواعی فی الاستعمال.
فتحصّل : أنّ الشبهة کانت موقوفة علیٰ مقدّمات :
أحدها : کون الصیغة موضوعة للتحریک الاعتباریّ، أو البعث والإغراء، أو إنشاء الطلب، أو إیقاع النسبة.
ثانیها : عدم اتکاء المتکلّم علی القرینة.
ثالثها : استفادة العرف والعقلاء الوجوب منها.
فإنّه عند تمامیّة هذه المقدّمات یلزم التناقض، فإنّه کیف یعقل الجمع بینها، مع کون المفروض هذه الاُمور الثلاثة؟!
وکان الجواب : إنکار المقدّمة الثانیة؛ بإثبات اتکاء المتکلّم علی القرینة، ولکنّها عدمیّة، وهذه القرینة والعادة العرفیّة، نشأت من أوائل الأمر قبل ظهور الإسلام، بل وسائر الأدیان، فلاحظ وتدبّر جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 96
ولعمری، إنّ المسألة واضحة، وما کانت تحتاج إلیٰ هذه الإطالة، ولاسیّما بعد کونها علمیّة لا عملیّة، إلاّ فی بعض الموارد الآتیة.
ومن العجیب إطالة الأعلام هنا حول بعض ما لا ربط له بالمقام؛ من ذکر الأقوال، والاحتمالات فی تعریف الوجوب والندب، ومع ذلک لم یأت بما هو الحقّ!! فإن شئت فراجع «نهایة الاُصول» للسیّد الاُستاذ البروجردی رحمه الله حتّیٰ تقف علیٰ ما اُشیر إلیه.
ثمّ إنّ هاهنا طرقاً اُخر، کدعویٰ حکم العقل بلزوم الإطاعة، أو دعویٰ: أنّ العقل یحکم بلزوم الامتثال، وأمثال ذلک ممّا غیر خفیّ وجه ضعفها فی حدّ ذاتها.
مع أنّ مقتضیٰ هذه الطرق، عدم جواز إفتاء الفقیه بالوجوب الشرعیّ؛ فی المواقف التی وردت الأوامر فی الکتاب أو السنّة، مع أنّ الضرورة عند کلّ ذی وجدان قاضیة؛ بأنّ العقلاء ینتقلون من الصیغ والإشارة والکتابة، إلی المقاصد والأغراض الحتمیّة؛ والإرادات اللزومیّة، حاکین ذلک بالألفاظ والمفاهیم الاسمیّة، ناسبین کلّ ذلک إلی المولیٰ؛ بلا شائبة شبهة، وخطور إشکال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 97