المقصد الثانی فی الأوامر

الجهة الثانیة : البحث الإثباتیّ

الجهة الثانیة : البحث الإثباتیّ

‏ ‏

‏فی کیفیّة استفادة الوجوب ـ بعد ثبوت إفادتها الوجوب، وبعدما ظهر إمکانه‏‎ ‎‏عقلاً ـ طرق عدیدة مفصّلة فی الکتب المطوّلة، ونحن نشیر إلیٰ عمدها إجمالاً:‏

الطریقة الاُولیٰ :‏ دعوی الانصراف؛ معلّلاً بغلبة الاستعمال‏‎[1]‎‏. وأنت خبیر بما‏‎ ‎‏فیه من منع الصغریٰ والکبریٰ.‏

الطریقة الثانیة :‏ أنّ الصیغة وإن لم تدلّ بالوضع علیٰ أکثر من التحریک‏‎ ‎‏الاعتباریّ، ولکنّها کاشفة عن الإرادة الحتمیّة کشفاً عقلائیّاً‏‎[2]‎‏.‏

‏وفیه ما لا یخفیٰ؛ لأنّ الکشف العقلائیّ منوط بکثرة الاستعمال البالغة إلی‏‎ ‎‏حدّ الاتفاق فی الإرادة اللزومیّة مع القرینة، حتّیٰ یعدّ من الوضع التخصّصی، وإلاّ فلا‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 92
‏وجه للکاشفیّة الظنّیة، فضلاً عن العقلائیّة.‏

الطریقة الثالثة :‏ أنّ عدم القرینة قرینة الوجوب واللزوم‏‎[3]‎‏.‏

‏ولعمری، إنّه أقرب الوجوه؛ فإنّ العرف والعقلاء بناؤهم علیٰ نسبة الوجوب‏‎ ‎‏واللزوم إلی المولیٰ؛ بعدما رأوا منه الأمر والبعث والتحریک، فیعلم من النسبة‏‎ ‎‏المزبورة: أنّ الصیغة تلازم الوجوب والتحتّم عند قیام القرینة العدمیّة.‏

وإن شئت قلت :‏ الوجوب والندب من العناوین المتقابلة، ومنشأ تقابلهما إمّا‏‎ ‎‏ذاتهما؛ لما بینهما من الاختلاف الذاتیّ فی عالم العنوانیّة، أو اختلاف مناشئهما؛‏‎ ‎‏وهی الإرادة الموجودة فی نفس الموالی. واختلاف الإرادات لیس کاختلاف‏‎ ‎‏الماهیّات العالیة الجنسیّة أو النوعیّة، بل الإرادة فی الندب والوجوب من نوع واحد،‏‎ ‎‏واختلافهما بالمنضمّات الفردیّة.‏

‏وما قرع سمعک: من التشکیک الخاصّی، فهو لیس فی الفردین من النور‏‎ ‎‏والوجود العرضیّین، بل هو فی النور الواحد الذی له مراتب، وما فیه التشکیک هو‏‎ ‎‏الواحد الشخصیّ بحسب مراتبه من العلّیة والمعلولیّة، وأمّا بین الأفراد العرضیّة التی‏‎ ‎‏لیست بینها العلیّة والمعلولیّة، فلا تشکیک خاصّی، فلا معنی لتصویر التشکیک بین‏‎ ‎‏الفردین من الخطّ الطویل والقصیر؛ فإنّهما متباینان کزید وعمرو.‏

‏نعم، النور الضعیف الموجود بعین وجود القویّ، ممتاز عنه بنفس النورانیّة، لا‏‎ ‎‏بالنور الآخر. نعم هذا التشکیک هو التشکیک العامّی.‏

فبالجملة :‏ لایعقل کون الوجوب ناشئاً من الإرادة غیر المحدودة، والندب من‏‎ ‎‏الإرادة المحدودة وإن کانتا مشکّکتین؛ فإنّه أجنبیّ عمّا نحن بصدد إثباته، فإذا کان‏‎ ‎‏کلّ واحد منهما غیر الآخر فی الوجود والعلل ومبادئها، فلا معنیٰ لاحتیاج أحدهما‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 93
‏إلی القرینة، دون الآخر.‏

‏نعم، یمکن کون قرینة أحدهما عدمَ القرینة، فعند ذلک یتمّ المقصود، ویستفاد‏‎ ‎‏الوجوب عند التحریک والبعث، فلاتغفل.‏

الطریقة الرابعة :‏ «أنّ بناء العقلاء علیٰ تمامیّة الحجّة من المولیٰ بالأمر،‏‎ ‎‏ولایصغیٰ إلی الأعذار الراجعة إلی المحتملات؛ والاستعمالات الکثیرة للصیغة،‏‎ ‎‏فکأنّهم یرون أنّ تمام الموضوع لوجوب الطاعة، هو البعث والإغراء؛ سواء کان‏‎ ‎‏صادراً بالصیغة، أو بالإشارة ونحوها، من غیر التوجّه إلی المسائل العلمیّة؛‏‎ ‎‏والتشکیک الخاصّی بین أنحاء الإرادات، وأنّ الظاهر من طریقتهم أنّ بعث المولیٰ‏‎ ‎‏لابدّ وأن لایکون بلا جواب، وأنّه لابدّ من الانبعاث نحوه، إلاّ إذا دلّ الدلیل علی‏‎ ‎‏الترخیص»‏‎[4]‎‏.‏

أقول :‏ هذا ما أفاده السیّد المحقّق الوالد ـ مدّظلّه واستظهر أنّ ذلک هو مرام‏‎ ‎‏شیخه العلاّمة أعلی الله مقامه.‏

‏وأنت بعد المراجعة إلی «الدرر»‏‎[5]‎‏ تحیط خبراً بأنّ الأمر لیس کما قیل، وأنّ‏‎ ‎‏ما أفاده غیر مقبول؛ ضرورة أنّ العقلاء ینسبون الإرادة الحتمیّة والوجوب واللزوم‏‎ ‎‏إلی المولیٰ، والفقهاءَ وأرباب النظر بناؤهم علی الإفتاء بالوجوب فی هذه المواقف،‏‎ ‎‏ولو کان الأمر کما ذکر لما کان لذلک وجه.‏

الطریقة الخامسة :‏ «أنّ قضیّة مقدّمات الحکمة هو الوجوب واللزوم؛ وذلک‏‎ ‎‏لأنّ الوجوب واللزوم من العناوین الاعتباریّة التی لاتحتاج فی مقام الإفادة‏‎ ‎‏والاستفادة إلی القید الزائد، بخلاف الاستحباب والندب.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 94
وإن شئت قلت :‏ الإرادة التی توجد فی النفس لإفادة الوجوب، لا حدّ لها،‏‎ ‎‏بخلاف الإرادة التی توجد فیها لإفادة الندب.‏

وبعبارة ثالثة :‏ إنّ کلّ طالب إنّما یأمر لأجل التوسّل إلیٰ إیجاد المأمور به،‏‎ ‎‏فلابدّ وأن لایکون طلبه قاصراً عن ذلک، وإلاّ فعلیه البیان، والطلب الإلزامیّ غیر‏‎ ‎‏قاصر عنه، دون الاستحبابیّ، فلابدّ أن یحمل علیه الطلب»‏‎[6]‎‏ انتهیٰ.‏

أقول :‏ هذا هو الوجه الذی اعتمد علیه صاحب «المقالات» ولعمری، إنّه‏‎ ‎‏أسخف الوجوه، وکأنّه نسب إلیه ما لا یرضیٰ به؛ لأنّه کیف یمکن أن یکون نقاط‏‎ ‎‏الضعف فیه، مخفیةً علیٰ مثله ‏‏قدس سره‏‏؟!‏

فبالجملة :‏ کلّ مفهوم إذا کان مقابل مفهوم آخر؛ إمّا یکون تقابلهما بتمام‏‎ ‎‏ذاتهما البسیطة، أو المرکّبة، أو ببعض الذات:‏

‏فإذا کان ببعض الذات، فلابدّ من الاشتراک فی البعض الآخر.‏

‏وإن کان الوجوب والندب من قبیل الأوّل، أو من قبیل الثانی، فلایمکن کفایة‏‎ ‎‏الصیغة المطلقة لاستفادة أحدهما المعیّن بالضرورة؛ لاحتیاج کلّ إلی القید والقرینة.‏

‏وإن کان ما به الاختلاف عین ما به الامتیاز، وتکون النسبة بینهما نسبةَ الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر، فهو لایتصوّر فی العناوین مطلقاً، والوجوب والندب منها بالضرورة.‏

‏ولو سلّمنا أنّ المقصود إثبات الأمر الآخر؛ وهو الوجوب، وعدم الوجوب؛‏‎ ‎‏أی یکون النظر إلیٰ حقیقة خارجیّة تکون هی منشأ انتزاعهما، ولیس الوجوب من‏‎ ‎‏الاُمور الاعتباریّة، بل هو من الانتزاعیّات، فإنّه عند ذلک یأتی ما مرّ منّا‏‎[7]‎‏: من أنّ‏‎ ‎‏التشکیک الخاصّی بین الإرادات، لایستلزم کون الإرادة فی أوّل وجودها، منشأً‏‎ ‎‏لانتزاع مفهوم الوجوب، بل الأمر بالعکس؛ لأنّ الوجوب ینتزع من المرتبة الشدیدة،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 95
‏ولا دلیل علیٰ وجود هذه المرتبة، بل القدر المتیقّن هو أصل الإرادة الذی هو منشأ‏‎ ‎‏انتزاع مفهوم اللاوجوب.‏

فتحصّل :‏ أنّ التمسّک بمقدّمات الحکمة، موقوفة صحّته علیٰ إثبات أنّ‏‎ ‎‏الإطلاق یقتضی الوجوب، وهو ممنوع؛ لما مرّ من اختلاف العناوین بحسب‏‎ ‎‏المفهوم، واختلاف الإرادات بحسب الوجود، واختلافُها فی الشدّة والضعف، تابع‏‎ ‎‏لاختلاف المصالح والمفاسد المدرکة فی المرادات والمتعلّقات، ولیس ذات الإرادة‏‎ ‎‏ـ بما هی إرادة ـ ذات تشکیک، بل التشکیک فیها بتبع التشکیک فی الجهات الاُخر.‏‎ ‎‏ولو کانت ذواتها مشکّکة بالتشکیک الخاصّی ـ کما لایبعد ذلک فی بادی النظر ـ‏‎ ‎‏ولکنّه أجنبیّ عن المرام والمقصود فی المقام.‏

‏فینحصر الاستفادة بالطریقة الرابعة: وهی أنّ طریقة العقلاء علی استکشاف‏‎ ‎‏الإرادة الجدّیة الحتمیّة من القرینة العدمیّة؛ وهی عدم ذکر القرینة الوجودیّة علیٰ‏‎ ‎‏سائر الدواعی فی الاستعمال.‏

فتحصّل :‏ أنّ الشبهة کانت موقوفة علیٰ مقدّمات :‏

أحدها :‏ کون الصیغة موضوعة للتحریک الاعتباریّ، أو البعث والإغراء، أو‏‎ ‎‏إنشاء الطلب، أو إیقاع النسبة.‏

ثانیها :‏ عدم اتکاء المتکلّم علی القرینة.‏

ثالثها :‏ استفادة العرف والعقلاء الوجوب منها.‏

‏فإنّه عند تمامیّة هذه المقدّمات یلزم التناقض، فإنّه کیف یعقل الجمع بینها، مع‏‎ ‎‏کون المفروض هذه الاُمور الثلاثة؟!‏

‏وکان الجواب : إنکار المقدّمة الثانیة؛ بإثبات اتکاء المتکلّم علی القرینة،‏‎ ‎‏ولکنّها عدمیّة، وهذه القرینة والعادة العرفیّة، نشأت من أوائل الأمر قبل ظهور‏‎ ‎‏الإسلام، بل وسائر الأدیان، فلاحظ وتدبّر جیّداً.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 96
‏ولعمری، إنّ المسألة واضحة، وما کانت تحتاج إلیٰ هذه الإطالة، ولاسیّما بعد‏‎ ‎‏کونها علمیّة لا عملیّة، إلاّ فی بعض الموارد الآتیة.‏

‏ومن العجیب إطالة الأعلام هنا حول بعض ما لا ربط له بالمقام؛ من ذکر‏‎ ‎‏الأقوال، والاحتمالات فی تعریف الوجوب والندب، ومع ذلک لم یأت بما هو‏‎ ‎‏الحقّ!! فإن شئت فراجع «نهایة الاُصول» للسیّد الاُستاذ البروجردی ‏‏رحمه الله‏‎[8]‎‏ حتّیٰ‏‎ ‎‏تقف علیٰ ما اُشیر إلیه.‏

‏ثمّ إنّ هاهنا طرقاً اُخر، کدعویٰ حکم العقل بلزوم الإطاعة‏‎[9]‎‏، أو دعویٰ: أنّ‏‎ ‎‏العقل یحکم بلزوم الامتثال‏‎[10]‎‏، وأمثال ذلک ممّا غیر خفیّ وجه ضعفها فی حدّ ذاتها.‏

‏مع أنّ مقتضیٰ هذه الطرق، عدم جواز إفتاء الفقیه بالوجوب الشرعیّ؛ فی‏‎ ‎‏المواقف التی وردت الأوامر فی الکتاب أو السنّة، مع أنّ الضرورة عند کلّ ذی‏‎ ‎‏وجدان قاضیة؛ بأنّ العقلاء ینتقلون من الصیغ والإشارة والکتابة، إلی المقاصد‏‎ ‎‏والأغراض الحتمیّة؛ والإرادات اللزومیّة، حاکین ذلک بالألفاظ والمفاهیم الاسمیّة،‏‎ ‎‏ناسبین کلّ ذلک إلی المولیٰ؛ بلا شائبة شبهة، وخطور إشکال.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 97

  • )) هدایة المسترشدین : 139 / السطر 39 ، نهایة الدرایة 1 : 308 .
  • )) تهذیب الاُصول 1: 139 ـ 140.
  • )) لاحظ نهایة الاُصول: 103.
  • )) مناهج الوصول 1: 255 ـ 256.
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری: 74 ـ 75.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1: 213 ـ 214.
  • )) تقدّم فی الصفحة 93 ـ 94 .
  • )) نهایة الاُصول: 99 ـ 104.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1: 136.
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 2: 132.