المرحلة الاُولیٰ : فیما اُقیم علی الامتناع الذاتیّ ؛ وممنوعیّته
فی مرحلة الجعل والتشریع
وهو اُمور:
أحدها : لزوم الدور فی مرحلة التصوّر، وهذا أمر قبل المرحلتین کما لایخفیٰ، وهو أنّ تصوّر الأمر موقوف علیٰ تصوّر متعلّقه، فلو کان قصد الأمر من أجزائه وقیوده وشرائطه ـ بناءً علیٰ رجوعها إلیٰ تقیّد الطبیعة بها ـ لتوقّف تصوّر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 118
المتعلّق علیٰ تصوّر الأمر أیضاً؛ لأنّ تصوّر المرکّب متوقّف علیٰ تصوّر أجزائه وقیوده برمّتها.
ثانیها : لا شبهة فی تقدّم الموضوع علیٰ حکمه ـ بملاک تقدّم المعروض علیٰ عرضه ـ تقدّماً بالرتبة، وإذا کان الموضوع متوقّفاً علی الأمر؛ لأخذ قصد الأمر وداعیه فیه، فهو موقوف علیٰ نفسه، ففی مرحلة الجعل یلزم تقدّم الشیء ـ وهو الأمر ـ علیٰ نفسه برتبتین: رتبة لتقدّم جزء الموضوع علی الکلّ، ورتبة لتقدّم الموضوع علی الحکم.
أو یقال : رتبة لتقدّم الموضوع علی الحکم، ورتبة لتقدّم الحکم والأمر علیٰ قصد الأمر، فما هو المتأخّر عن الأمر المتأخّر عن الموضوع، مأخوذ فی الموضوع، وهذا أفحش من الدور فساداً.
ثالثها : الأمر موقوف علی الموضوع، والموضوع متوقّف علی الأمر، فیلزم الدور، فکیف یعقل جعل الحکم علی الموضوع بنفس الأمر المتعلّق به؟! وفی کونه برهاناً آخر إشکال، بل منع.
رابعها : أخذ قصد الأمر، موجب لتقدّم الشیء علیٰ نفسه فی مرحلة الإنشاء؛ وذلک لأنّ المأخوذ فی متعلّق التکالیف فی القضایا الحقیقیّة، لابدّ وأن یکون مفروض الوجود؛ سواء کان من قبیل الوقت الخارج عن القدرة، أو من قبیل الطهور الداخل تحت القدرة، فلو اُخذ قصد الامتثال قیداً للمأمور به، فلا محالة یکون الأمر مفروض الوجود، وهذا هو تقدّم الشیء علیٰ نفسه. وفی کونه برهاناً آخر نظر، بل منع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 119
وأمّا توهّم : أنّ هذا الوجه یرجع إلی مستحیل آخر؛ وهو اتحاد الموضوع والحکم، فهو فاسد، ولا أریٰ له وجهاً؛ لأنّ الموضوع المأخوذ مفروض الوجود، لیس هو الأمر حتّیٰ یکون الحکم نفس ذلک الأمر فیتّحدان، بل الموضوع المأخوذ مفروض الوجود مشتمل علیٰ أجزاء، ومنها: قصد الأمر، فیلزم تقدّم الشیء علیٰ نفسه، فلاتخلط.
أقول : ظاهر هذه التقاریر فی إحداث الإشکال فی المسألة، واضح المنع؛ ضرورة انتقاضه أوّلاً: بأنّ جمیع الفواعل الاختیاریّة، تحتاج فی فاعلیّتها إلیٰ تقدیر العلل الغائیّة، ولو کانت العلل الغائیّة مترتّبة علی الأفعال الاختیاریّة للزم الدور.
وثانیاً : حلّه أنّ ماهو المتقدّم لیس عین ماهو المتأخّر؛ فإنّ ماهو المتقدّم هو المعنی التصوّری الموجود فی الذهن، وماهو المتأخّر هو المعنی الخارجیّ، فهما شخصان من الوجود.
وفیما نحن فیه أیضاً ماهو المتقدّم هو المعنی التصوّری من الأمر، وماهو المتأخّر هو المعنی الواقعیّ والتصدیقیّ؛ أی کما یلاحظ الحاکم سائر القیود، ویتعلّق حکمه وأمره بها، کذلک یتصوّر قصد الأمر، وهو لیس إلاّ مفهوماً کسائر القیود المأخوذة ، ویتعلّق به بعین تعلّقه بالکلّ، وبنفس المقیّد والقید؛ من غیر فرق بینهما.
هذا، وفی دفع الإشکال الأوّل المربوط بأصل التصوّر نقول : إنّه لا یتوقّف تصوّر مفهوم «الأمر» بالحمل الأوّلی علی الموضوع؛ لعدم التضایف بینهما، وأمّا فی مرحلة الجعل والإنشاء، فلا دور وإن کان توقّف فی البین، کما عرفت.
خامسها : لزوم تقدّم المتأخّر بالطبع؛ وذلک لأنّ الحکم لیس من العوارض الخارجیّة، کعوارض الوجود، ولا من العوارض الذهنیّة، کعوارض الماهیّة بما هی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 120
ذهنیّة، بل هو من قبیل عوارض الماهیّة اعتباراً ووهماً؛ لأنّ المقصود منه لیس نفس الإرادة؛ حتّیٰ تکون تکوینیّة، وخارجة عن الإنشاء والجعل؛ وعن قابلیّتها للإنشاء، وتکون خارجة عن المقولات؛ حسبما عرفت منّا سابقاً.
فعلیٰ هذا، لا تقدّم للموضوع علی الحکم، بل هما معاً، ولا علّیة بینهما، بل هما معلولا علّة ثالثة . إلاّ أنّ الموضوع ـ بما هو موضوع ـ متقدّم بالطبع علی الحکم، ولو اُخذ الحکم فیه یلزم تقدّمه علیه، مع تأخّره عنه.
ولعلّ غرض المستشکلین کان یرجع إلیٰ ذلک؛ لأنّ علّیة الموضوع للحکم، واضحة المنع وبالعکس، ومعلولیّة کلّ واحد منهما للحاکم المتصوّر، واضحة جدّاً.
أقول : ماله المعیّة مع الموضوع، غیر ما هو المتقدّم علیه؛ فإنّ ماهو المتقدّم علیه، هو المعنی التصوّری العلمیّ الذی لیس إلاّ کسائر الشرائط والقیود، وماهو مع الموضوع هو الحکم بالحمل الشائع، وهو شخص الأمر المتعلّق بالصلاة.
فبالجملة : للحاکم تصویر الصلاة التی أوّلها التکبیر، وآخرها التسلیم، وتصویر الشرائط والقیود، ومنها : تصویر مفهوم «قصد الأمر» ثمّ بعد ذلک یقوم ویقول مثلاً: «صلّ مع الطهور، وقصد الأمر، والستر، والقبلة».
نعم، لو اُرید من «قصد الأمر» المأخوذ، هو المعنی المتأخّر عن شخص الأمر المتعلّق بالکلّ؛ بأن یرید أخذ قصد الأمر الشخصیّ، لا الطبیعیّ والنوعیّ والمفهومیّ، فهو ممتنع بالضرورة، وسیأتی إمکانه بالدلیل المنفصل إن شاء الله تعالیٰ.
هذا مع أنّ إمکان قصد الأمر العنوانیّ بالحمل الأوّلی فی المتعلّق، کافٍ لصحّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 121
التمسّک بالإطلاق، فالامتناع المذکور لایضرّ بالمقصود، فلاتغفل.
سادسها : لزوم الجمع بین اللحاظین: الآلیّ، والاستقلالیّ؛ ضرورة أنّ الأمر آلة البعث؛ ومغفول عنه قهراً، وقصد الأمر قید وملحوظ استقلالاً؛ لاحتیاجه ـ فی سرایة الأمر إلیه ـ إلی اللحاظ الاستقلالیّ، فلایکون مغفولاً، والشیء الواحد کیف یکون مغفولاً، وغیر مغفول؟!
وأمّا اختلاف الزمانین، فهو وإن کان یثمر لحلّ الإعضال، إلاّ أنّه لا حاجة إلیه هنا؛ وذلک لأنّ ماهو الملحوظ استقلالاً، هو مفهوم «قصد الأمر» وماهو المغفول عنه هو الأمر بالحمل الشائع الحاصل من استعمال هیئة الأمر وصیغته، فلایکون الشیء الواحد مغفولاً وغیر مغفول، فافهم، ولاتکن من الخالطین.
سابعها : لزوم الخلف؛ وذلک لأنّ الأمر المتعلّق بالصلاة المتقیّدة بقصد الأمر، یکون متعلّقه مقیّداً، مع أنّ المفروض لزوم الإتیان بالصلاة بداعی أمرها، فتکون هی واجبة ومأموراً بها.
وبعبارة اُخریٰ : ماهو الواجب والمأمور به هی الصلاة، ولو کانت المقیّدة بالأمر واجبةً، لزم کونها واجبة بالعرض والمجاز، أو بالأمر الضمنیّ والغیریّ؛ بناءً علی تصویرهما، وهذا خلف ومخالف للوجدان.
أقول : یرد علیه نقض بسائر الأجزاء التحلیلیّة؛ وهی الشرائط والقیود المأخوذة فی متعلّق الأمر.
وحلّه : أنّ ماهو المأمور به هی الصلاة بقصد الأمر، فإذا اشتغل بها قاصداً الأمر فهو قد أتیٰ بالمأمور به، وإلاّ فلا یسقط الأمر.
ودعویٰ : أن الواجب هی الصلاة بدون قید قصد الأمر، خلف دون العکس.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 122
وإن شئت قلت : الواجب هی الصلاة المقیّدة، ولکنّه إذا تحرّک بالأمر نحوها، غافلاً عن قصد الأمر، فقد امتثل الأمر وسقط.
هذا مع أنّ انحلال الأمر إلی الأجزاء التحلیلیّة؛ حتّیٰ تصیر الطبیعة واجبة بالأمر الضمنیّ، محلّ إشکال، فلاتغفل.
وللعلاّمة صاحب «المقالات» کلام یمشی معه فیکثیر من المباحث الاُصولیّة والفقهیّة، فتوهّم هنا أیضاً: أنّ ماهو المأمور به هی الحصّة غیر المتقیّدة، ومع ذلک لیست مطلقة، فما هو الواجب هی الصلاة، مع أنّها لاتسقط بإتیانها علی الإطلاق.
وأنت خبیر بفساده، کما مرّ مراراً توضیحه، ولا نطیل بتکراره تفصیلاً.
ثامنها : لزوم الجمع بین المتقابلین والمتنافیین؛ وذلک أنّه لاریب فی أنّ موضوع الحکم، متقدّم فی اللحاظ علیٰ حکمه، وهو متأخّر عنه، کما أنّه لاریب فی أنّ قصد الامتثال ونحوه، یکون مترتّباً فی وجوده وتحقّقه علیٰ وجود الأمر، الذی هو متأخّر فی اللحاظ عن الأمر أیضاً، فیکون متأخّراً برتبتین عن موضوع الأمر، فإذا اُخذ جزءً من موضوع الأمر، أو قیداً فیه، لزم أن یکون الشیء الواحد ـ فی اللحاظ الواحد ـ متقدّماً فی اللحاظ، ومتأخّراً فیه، وهذا مستحیل.
أقول : هذا ما أفاده صاحب «المقالات» واتکأ علیه فی المقام، وأنت خبیر بأنّه إن اُرید الأمر الشخصیّ الذی لم یصدر بعد، فجمیع المحذورات متوجهة، وتکون المسألة واضحة المنع؛ من غیر حاجة إلی التأمّل والبرهان.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 123
وإن اُرید منه ما اُرید من سائر القیود، کالستر والاستقبال والطهور؛ ممّا لیس موجوداً حال الأمر، وتعلّق الأمر بإیجاد الطبیعة المتقیّدة بها، مع عدم کونها خارجة عن الاختیار، ومع عدم لزوم کون المکلّف حال الأمر واجداً لهذه الشرائط والقیود ـ وإن کان من الشرائط ماهو خارج عن الاختیار، کالوقت مثلاً ـ فهذا أیضاً ممکن لحاظه؛ من غیر لزوم إشکال وامتناع فی مرحلة الجعل والإنشاء.
وأمّا لزوم الإشکال فی مرحلة الامتثال، فهو أمر آخر سیأتی تفصیله.
ولعمری، إنّ المسألة لمکان عدم اتضاح المراد منها، وقعت مصبّ النفی والإثبات، وإلاّ إذا کان المقصود معلوماً فطرفاها من البدیهیّات. وممّا یؤسف له أنّ مثل هذا الخلط فی محلّ التشاحّ والنزاع، کثیر الدور فی المسائل العلمیّة، فلاتغفل.
تاسعها : لو أمکن أخذ قصد الأمر والامتثال فی متعلّق الحکم، لأمکن أخذ العلم بالحکم فی متعلّقه، وحیث یکون الثانی مستحیلاً، فکذلک الأوّل؛ وذلک لأنّ وجه الامتناع لزوم الدور، وسرّ لزوم الدور: أنّه من الانقسامات اللاحقة بالحکم، فی مقابل سائر القیود التی هی من الانقسامات السابقة علی الحکم، ککون الصلاة فی مکان کذا، وزمان کذا، وفی وضع کذا، وهکذا، وقصد الأمر من تلک الانقسامات بالضرورة، فهو أیضاً یمتنع.
وفیه : ـ مضافاً إلی أنّ ذلک لیس وجهاً علیٰ حدة، بل تقریب لتثبیت الدور ـ أنّ العلم وقصد الأمر من تلک الانقسامات؛ إذا کان المراد ماهو العلم بالحمل الشائع وماهو قصد الأمر بعد تحقّقه وجعله ووجوده، ومن الانقسامات السابقة علی الحکم، إن کان المراد منها عنوانهما ومفهومهما بالحمل الأوّلی، وعند ذلک لایلزم إشکال.
نعم، لامعنیٰ لأخذ عنوان «العلم بالحکم» فی الموضوع؛ لأنّ المراد هو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 124
مصداقه، بخلاف قصد الأمر؛ فإنّ المراد هو أخذ عنوانه، حتّیٰ یکون الأمر باعثاً إلیه إذا تحقّق، فلا معنیٰ للمقایسة بین العلم وقصد الأمر فی المقام، فلاتخلط.
وربّما یخطر بالبال أن یقال : بأنّ أخذ قصد الأمر الشخصیّ، غیر ممکن؛ لأنّ الأمر ـ بوجوده الشخصیّ ـ متأخّر عن تصوّر الموضوع، مع أنّه لابدّ من تصویر الموضوع حتّیٰ یمکن ترشّح الإرادة؛ ویمکنَ الأمر به والبعث إلیه.
ولکنّه إذا کان ذات الصلاة مثلاً متصوّرة، وکانت هی ذات مصلحة باعثة إلی الأمر بها، فإذا تصدّی الآمر للأمر بها، وخاطب المکلّفین بقوله: «صلّوا» فبدا له فی أن یزید فیها قیداً آخر؛ لأنّ المصلحة تکون قائمة بالمقیّدة، فزاد فی کلامه وقال: «صلّوا مع قصد هذا الأمر المتعلّق بها» فإنّه عند ذلک یدعو إلی المقیّد، وقد اُخذ القصد فی متعلّق الأمر الشخصیّ، ولکنّه تصویر ممتنع فی حقّ الشارع المقدّس جلّ وعلا، وممکن فی حقّنا.
عاشرها : لازم التقیید بداعی الأمر، هو لزوم عدمه من وجوده؛ وذلک لأنّ أخذ الإتیان بداعی الأمر فی متعلّق الأمر، یقتضی اختصاص ما عداه بالأمر، وقد تبیّن فی محلّه: أنّ الأمر لایدعو إلاّ إلی متعلّقه، وهذا مساوق لعدم أخذه فیه؛ إذ لا معنیٰ لأخذه فیه إلاّ تعلّق الأمر بالمجموع من الصلاة، والإتیان بداعی الأمر، فیلزم من أخذه فیه عدم أخذه فیه، وما یلزم من وجوده عدمه محال.
أقول : هذا ما سطّره العلاّمة المحشّی رحمه الله وفیه ما لا یخفیٰ؛ فإنّ قید الإتیان بقصد الأمر، من القیود الراجعة إلی المادّة بحسب الثبوت، فلا معنی لتعلّق الهیئة فی مقام الاستعمال والإنشاء، بغیر ما تصوّره المقنّن، ولا وجه لدعوة الأمر إلیٰ غیر ما یتعلّق به؛ وهو المقیّد، فالاقتضاء المزبور فی کلامه ممنوع.
وهذا أیضاً لیس من الوجوه المستقلّة فی المسألة، کما هو الظاهر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 125