المرحلة الثانیة : حول الوجوه الناهضة علی امتناعه بالغیر
واستحالته فی مقام الامتثال والإطاعة
وهی کثیرة :
الوجه الأوّل : ما أفاده «الکفایة» فقال ما مجمله: أنّ القدرة علی الامتثال، مسلوبة إذا کان قصد الامتثال مأخوذاً فی المتعلّق؛ وذلک لأنّ المأمور به بداعی الأمر، لیس الطبیعة المطلقة، کالمأمور به مع الستر والطهور، بل هی الحصّة المقیّدة، فالصلاة لیست مأموراً بها وحدها، بل الصلاة جزء المأمور به؛ لأنّ ماهو المأمور به مرکّب بالفرض، فکیف یعقل إتیانها بقصد الامتثال؟! لأنّ معنیٰ إتیانها بداعی أمرها، أنّها واجبة، وأنّها مأمور بها، انتهیٰ.
وبعبارة اُخریٰ، وهی مقصوده الأعلیٰ: إنّ العبد لابدّ له من تصوّر الداعی فی إتیانه بالواجب، فلو کان الداعی داخلاً فی المأمور به، یحتاج إلیٰ تصوّر الداعی الآخر، وهکذا فیتسلسل. وإن شئت جعلته وجهاً آخر فی بیان الاستحالة فتدبّر.
ثمّ إنّ ظاهر ما یستظهر من التقریر الأوّل امتناعه الذاتیّ فی مرحلة الجعل أیضاً، والأمر سهل.
الوجه الثانی : ما أفاده المحشّی المزبور قدس سره کما هو فی «الدرر» وهو أنّ أخذ قصد الأمر فی المتعلّق، یستلزم داعویّة الشیء إلیٰ داعویّة نفسه، وهذه هی علّیة الشیء لنفسه؛ ضرورة أنّ الأمر هو تحریک المکلّف نحو ما تعلّق به، فلو کان
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 126
متعلّقه هی الصلاة بداعی الأمر، فقد دعا إلی إتیانها، وإلیٰ داعویّة الأمر، وهذا یرجع إلیٰ علّیة الشیء لعلیّة نفسه، وهذا مستحیل؛ لأنّ العلّیة وصف لذات العلّة، من دون التقیید بأمر فی ناحیة المعلول حتّیٰ یلزم الدور، أو التسلسل، کما لایخفیٰ.
الوجه الثالث : الأمر الذی لابدّ من إتیان المأمور به بداعیه، هو الأمر النفسیّ؛ لأنّه أمر یمکن أن یکون مقرّباً، ولأنّه أمر شرعیّ مولویّ تأسیسیّ. والأمر المأخوذ فی المتعلّق هو الأمر النفسیّ الاختراعیّ، الذی لیس ممّا یتقرب به بنفسه، فإن قام لأجل الأمر الضمنیّ، فلایسقط الأمر النفسیّ، وإن قام لأجل الأمر النفسیّ، فلایأتی بجمیع أجزاء المأمور به، کمالایخفیٰ.
الوجه الرابع : العبد إمّا یتحرّک بالأمر المتوجّه إلیه بقوله: «اغتسل» أو لایتحرّک، فإنّ تحرّک به فقد أتیٰ بما هو الواجب اللـبّی ـ وهو المأمور به ـ بقصد الأمر وبتحریکه.
وإن لم یتحرّک به، فلا حاجة إلیٰ أخذه فیه؛ لأنّه به لایزداد فی باعثیته، فأخذ قصد الأمر فی المتعلّق، لغو غیر محتاج إلیه.
أقول : الجواب عن هذه التقاریر المختلفة الراجعة إلیٰ أمر واحد فی الواقع: هو أنّ المقصود الأصلیّ فی مرحلة الثبوت؛ هو تحقّق المأمور به علیٰ وجه التعبّد، والإتیان به مع کون الداعی هو الأمر المتعلّق به، قبال الإتیان بذات الفعل مع الغفلة عن أمر المولیٰ.
فإذا رأی المولیٰ أنّ هذا الأمر یمکن أن یتوسّل إلیه؛ إذا جعل عنوان «قصد الأمر» فی متعلّقه، فلابدّ أن یأمر بالصلاة مع قصد الأمر؛ وذلک لأنّ المکلّف الملتفت إلی الأمر وأطرافه، وقیود المأمور به، ینتقل من هذا التقیید إلی أنّ نفس الصلاة، لیست کافیة فی سقوط الأمر، بل لابدّ من امتثال الأمر والانبعاث به؛ لأنّه یجد العقوبة فی مخالفة الأمر، فیتحرّک قهراً نحو المأمور به.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 127
وبعبارة اُخریٰ : التحرّک نحو المأمور به، لایکون لأجل الأمر فقط، بل التحرّک ناشئ من اللواحق والجهات الاُخر؛ من العقاب، والثواب، أو الاُمور العالیة الموجودة فی نفوس المقرّبین.
ولکنّه إذا کان متوجّهاً إلیٰ أنّ العقاب فی ترک المأمور به، ویریٰ أنّ المأمور به الصلاة، مع کون الانبعاث نحوها عن الأمر، فلابدّ أن یتوجّه إلیها بذلک الأمر، فیحصل المأمور به، ویسقط الأمر؛ فإنّ ماهو المأخوذ فی متعلّق الأمر بالحمل الشائع، هو مفهوم «قصد الأمر» وإذا کان هو فی الخارج آتیاً بالصلاة بداعی الأمر، فقد امتثل.
ولکنّه إذا أتیٰ بها غفلة عن الأمر، ثمّ توجّه إلی الأمر، فیجد لزوم إعادتها، فلایکون لغواً، ولا یکون التحرّک بالأمر النفسیّ؛ فإنّ ما هو القید هو مفهوم «الأمر» الذی لا باعثیّة له أصلاً، بل الباعثیّة من صفات الأمر بالحمل الشائع، فهو إذا امتثل بالأمر بالحمل الشائع، فقد امتثل الأمر المأخوذ فی المتعلّق؛ لأنّه مصداقه، وهو القید المأخوذ لا بشخصه، بل بالعنوان المتوسّل إلی الشخص بعد الأخذ فی المتعلّق.
وبعبارة اُخریٰ : لیس قصد الأمر داخلاً فی المأمور به، دخولَ سائر الأجزاء والشرائط، بل هو عنوان مشیر إلیٰ تضیّق المرام؛ وأخصّیة المطلوب، فلو کان ینحلّ الأمر إلی الأوامر الضمنیّة؛ حسب الأجزاء الذهنیّة، والتحلیلیّة، فلاینحلّ إلیٰ هذا الأمر المأخوذ فی المتعلّق؛ فإنّ مجرّد أخذه فی المتعلّق غیر کافٍ، بل المناط کونه من الاُمور الدخیلة بعنوانها الذاتیّ فی المأمور به، وأمّا إذا کان مثل قصد الأمر الذی لایریٰ دخالته فی المأمور به لسقوط الأمر ولو کان جاهلاً به ـ إذا کان انبعاثه نحو المأمور به بالأمر ـ فلاینحلّ إلیه، ولا یتوجّه إلیه الأمر الضمنیّ أو الغیریّ، وسیوافیک بحث ینفعک، فانتظر.
ومن ذلک البیان الوافی والتقریر الکافی، یتمکّن الخبیر البصیر من الاطلاع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 128
علیٰ مواضع الخلط فی کلمات القوم والأعلام ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم ـ .
فتحصّل : أنّه قادر علی الامتثال، وعرفت أنّه لایلزم التسلسل؛ لانقطاع السلسلة بالانبعاث عن الأمر بالحمل الشائع، من غیر لزوم العلم بالأمر بالحمل الأوّلی، فضلاً عمّا إذا کان عالماً به، کما لایخفیٰ.
وأحطت خبراً بعدم لزوم کون الشیء داعیاً إلیٰ داعویّة نفسه؛ لأنّه إذا کان داعیاً إلی الطبیعة المتقیّدة، فلیس القید له الداعویّة والمحرّکیة رأساً، حتّیٰ یلزم ذلک؛ لأنّ ماهو المحرّک، هو البعث الخارجیّ الذی توجّه إلی الصلاة، وإذا امتثل العبد وأتیٰ بالصلاة منبعثاً عن الأمر، ومتحرّکاً بتحریکه، فقد أتیٰ بجمیع المأمور به وقیده وشرطه بدون إشکال، من غیر فرق بین کون أخذ الأمر بعنوان «القیدیّة والشرطیّة» أو بنحو آخر، کما أفاده العلاّمة المحشّی رحمه الله.
مع أنّ النحو الآخر غیر ممکن؛ لما عرفت سابقاً: من أنّ التقیید بدون طریان القید علی الطبیعة، غیر ممکن.
فتوهّم تعلّق الأمر بذات المقیّد؛ أی بهذا الصنف من الصلاة، وذات هذه الحصّة من حصص الطبیعیّ، فلایلزم محذور، فی غایة الوهن؛ لرجوعه إمّا إلیٰ فرض کون القربة حاصلةً بغیر قصد الأمر، فهو خلف کما عرفت، أو إلیٰ کونها مضیّقة من غیر اللحاظ، وهو ممتنع.
إن قلت : إنّا إذا راجعنا وجداننا، فلانجد أنّ أخذ قصد الأمر فی المتعلّق، یوجب تحریک العبد إلی الصلاة، بل العبد ـ بما عنده من المبادئ الخاصّة، والعلوم المخصوصة بالآثار والتبعات ـ قد یتحرّک بالأمر، فیحصِّل غرض المولیٰ، وإذا کان لا یتحرّک بالأمر ، فلا یحرّکه أخذ قصد الأمر ، فلا وجه لتقیید الأمر به إذا کان الغرض مقیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 129
قلت : قد اشتهر بین العقلاء والعباد، التصدّی للمأمور به لأجل الأمر، ویقولون: «إنّ المولیٰ والسیّد أمرنا بکذا، فامتثالاً لأمره نأتی به» فهل هذا إلاّ التحرّک بالأمر؟!
فإذا اُخذ قصد الأمر فی المتعلّق، فإن کانوا متحرّکین نحوه للأمر بالحمل الشائع، فقد وقع جمیع المأمور به وإن کانوا غافلین عن القید المزبور، ولایجب العلم بأجزاء المأمور به وشرائطه بالضرورة؛ ضرورة کفایة کونه ساتراً حین الصلاة وإن کان معتقداً بعدم وجوبه.
وإن کان تحرّک نحوه، وأتیٰ به غفلة عن الأمر، ثمّ توجّه إلیٰ أنّه أمره بالإتیان بداعی الأمر، فیعید صلاته قهراً؛ لأنّه لوجود المبادئ فیه یتحرّک بذلک القید إلی الإعادة، ویعلم أنّ ما أتیٰ به غیر واقع علیٰ ماهو المطلوب الأعلیٰ والأقصیٰ.
فتحصّل من ذلک التفصیل الطویل الذیل: أنّ قصد الأمر المذکور فی ذیل الأمر، عنوان مشیر إلی الأمر الشخصیّ المتوجّه إلی المکلّف، وینتقل إلی أنّ المأمور به، لایکون بحیث کیفما تحقّق یکون مسقطاً للأمر، من غیر کونه واجباً ضمنیّاً أصلاً. وسیأتی زیادة توضیح إن شاء الله تعالیٰ.
ولامعنی لإمکان أخذه فی متعلّق الأوامر إلاّ ذلک؛ لأنّه به یتوسّل إلی تضیّق مرامه، وإذا أخلّ به یثبت الإطلاق بعد تمامیّة سائر مقدّماته.
الوجه الخامس : لا شبهة فی شرطیّة القدرة علی المکلّف به قبل التکلیف؛ حتّیٰ یتمکّن المکلِّف والآمر من الأمر والتکلیف، وهذا فیما نحن فیه غیر حاصل؛ لأنّه یصیر قادراً بالأمر.
وفیه : عدم قیام النصّ عقلاً ولا شرعاً، علی الکلّیة المزبورة، بل المناط إمکان توسّل الآمر إلی المأمور به ولو کان بالأمر، فتدبّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 130
الوجه السادس : ما أفاده العلاّمة النائینی رحمه الله وإجماله ببیان منّا: أنّ مَثل قصد الأمر مَثل استقبال القبلة، فکما لامعنیٰ لأخذ الاستقبال إلاّ بعد موجودیّة القبلة والکعبة، کذلک لا معنیٰ لأخذ قصد الأمر إلاّ بعد وجود الأمر، فیلزم تقدّم الشیء علیٰ نفسه.
وهذا الوجه من الوجوه الناهضة علی الامتناع الذاتیّ؛ والامتناع فی مرحلة الجعل، وقد عرفت ما فیه بما لا مزید علیه.
وإن شئت قلت : إنّ فعلیّة الموضوع متوقّفة علیٰ تحقّق متعلّقات المتعلّق، ومن تلک المتعلّقات هو الأمر، ففعلیّة الموضوع متوقّفة علیٰ فعلیّة الأمر والحکم، فما لم یکن أمر فعلیّ لایمکن قصده، فإذا کانت فعلیّة الحکم ممتنعة، یصیر إنشاء التکلیف ممتنعاً بالغیر. ولکنّه غیر خفیّ عدم رجوعه إلی الامتناع فی مرحلة الامتثال.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ الامتناع الغیریّ کما ینشأ من الامتناع فی مرحلة الفعلیّة، ینشأ من الامتناع فی مرحلة الامتثال، فیلزم حینئذٍ فرق بین الامتناع الغیریّ المذکور فی کلام الوالد المحقّق ـ مدّظلّه والامتناع فی مرحلة الامتثال المزبور فی کلام الاُستاذ البروجردی رحمه الله.
والذی یسهّل الخطب : أنّه وجه واضح المنع، ویلزم حینئذٍ إشکال علیٰ تقسیم السیّد الاُستاذ:
فأوّلاً : إنّ الامتناع فی مرحلة الفعلیّة، غیر راجع إلیٰ مرحلة الجعل والامتثال، بخلاف التقسیم الذی أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فإنّه یستوعب جمیع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 131
الشبهات کما لایخفیٰ؛ وذلک لأنّ الأمر المتعلّق بالطبیعة، إذا کان القید المأخوذ فیه غیر راجع إلی الموضوع والمکلَّف، لابدّ من إیجاده؛ لإطلاق الهیئة، فإذا قال: «طف بالبیت» لابدّ من إیجاد البیت، والطواف حوله، إلاّ مع قیام القرینة، وإذا قال: «استقبل القبلة» فهکذا.
والمیزان الکلّی: أنّ القیود ربّما تکون راجعة إلیٰ عناوین الموضوعات عرفاً، کما إذا قال: «حجّ إذا استطعت» فإنّه یرجع إلیٰ أنّ المستطیع یجب علیه الحجّ. وفی رجوعه إشکال، تفصیله فی مقام آخر.
وربّما تکون من قیود الطبیعة، أو قیود قیود الطبیعة، فإنّه یجب ـ حفظاً لإطلاق الهیئة ـ إیجادها، کما یجب إیجاد الطبیعة، فلاینبغی الخلط بین المأخوذات فی المتعلّقات، کما لایخفیٰ.
وأیضاً غیر خفیّ : أنّ ما اشتهر : «من أنّ الأمر لایدعو إلاّ إلیٰ متعلّقه» لیس معناه أنّه لایدعو إلی متعلّقات المتعلّق، بل المراد أنّه لایدعو إلیٰ ماهو الأجنبیّ عن المأمور به، فلاتخلط.
وثانیاً : استقبال القبلة کالطهور الوضوئیّ، فلو کان الأمر المتعلّق بالصلاة مستقبل القبلة، غیرَ باعث إلیٰ إیجاد القبلة، لما کان وجه لباعثیّته إلیٰ إیجاد الوضوء؛ لأنّ ماهو الشرط والجزء التحلیلیّ هو الطهور، أو الکون علی الطهارة کوناً رابطاً، وأمّا ماهو طرف هذه الإضافة وسبب تحقّقها ـ وهی الصلاة والوضوء ـ فهو خارج، کخروج القبلة والکعبة عن المأمور به؛ فإنّ القیود خارجة، والتقیّدات داخلة؛ حسبما تقرّر فی محلّه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 132
وثالثاً : ما مرّ منّا جواباً عن الشبهات: وهو أنّ قصد الأمر لیس مأخوذاً فی المتعلّق، کأخذ سائر الأجزاء والشرائط، حتّیٰ یکون محتاجاً إلی الداعی، کما فی غیره، بل قصد الأمر اُخذ مشیراً إلیٰ أنّ المرام ضیّق، وأنّ المأمور به لیس یسقط أمره بمجرّد تحقّقه فی الخارج، کما فی التوصّلی مثلاً.
ولقد علمت : أنّ وجدان کلّ ذی وجدان، حاکم بأنّ المکلّف العالم بالأمر، والجاهلَ بخصوصیّة مأخوذة فی المتعلّق؛ وهی قصد الأمر، إذا تحرّک بالأمر وأتیٰ بالمأمور به فقد سقط أمره، ولیس ذلک إلاّ لأنّ ماهو الغرض والمقصود حاصل بذلک قطعاً.
وأمّا إذا أخلّ المولیٰ بأخذه فیه، وأتی المکلّف الجاهل بالأمر بالمأمور به؛ حسب الدواعی النفسانیّة، فإنّه یسقط أمره.
ولکنّه إذا توجّه إلیٰ أنّه اُخذ فی المتعلّق فیه قصد الأمر، فیتوجّه إلی تضیّق المرام فینبعث؛ لما فیه من المبادئ إلی المکلّف به، ویعید صلاته وغسله وهکذا، فلابدّ من أخذ هذا العنوان المشیر فیه، من غیر انحلال الأمر إلیه؛ علیٰ تقدیر انحلاله إلیٰ سائر الأجزاء والشرائط.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 133