المقصد الثانی فی الأوامر

التذنیب الأوّل : حول أخذ قصد الأمر بأمر ثانٍ

التذنیب الأوّل : حول أخذ قصد الأمر بأمر ثانٍ

‏ ‏

‏لو سلّمنا امتناع توصّل المولیٰ إلیٰ أخذ قصد الأمر فی متعلّق التکلیف، فهل‏‎ ‎‏یتمکّن من ذلک بالأمر الثانی؛ بأن یدعو الأمر الأوّل إلی الطبیعة، والأمر الثانی إلیٰ‏‎ ‎‏قصد الأمر، أم لا؟ فیه قولان:‏

‏اختار «الکفایة» الثانی معلّلاً: بأنّ الأمر الأوّل إمّا یسقط بمجرّد الإتیان‏‎ ‎‏بالطبیعة، فلایبقیٰ مجال لامتثال الأمر الثانی؛ لارتفاع موضوعه، وانتفاء محلّه‏‎ ‎‏ومورده؛ لأنّ متعلّق الثانی هی الطبیعة مع قصد الأمر. وإن کان لایسقط بمجرّد‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 136
‏الإتیان بها، فلایکون له وجه إلاّ عدم تحقّق الغرض الباعث إلی الأمر؛ فإنّ الضرورة‏‎ ‎‏قاضیة بأنّ الإتیان بمتعلّق الأمر، یستلزم سقوطه، فإذا کان لایسقط فلیس إلاّ لبقاء‏‎ ‎‏الغرض، فلابدّ من الإتیان بقصد الأمر بحکم العقل، ولو کان یشکّ فی ذلک فبحکمه‏‎ ‎‏أیضاً یجب، فلاتصل النوبة إلی الأمر الثانی، وتلزم اللغویّة‏‎[1]‎‏.‏

أقول :‏ مرادهم من «الأمر الثانی» هو الأمر التأسیسیّ النفسیّ، وعلیه لایعقل‏‎ ‎‏تعلّق الأمر الثانی بالطبیعة المقیّدة؛ لما تقرّر منّا فی محلّه من امتناع ذلک‏‎[2]‎‏، وأنّ‏‎ ‎‏البعث التأسیسیّ إلیٰ شیء واحد، لایمکن إلاّ مرّة واحدة، وما یتعلّق به ثانیاً یکون‏‎ ‎‏تأکیداً، وإذا کان مشتملاً علیٰ القید یکون إرشاداً إلیٰ تقیید المتعلّق فی الأمر الأوّل،‏‎ ‎‏فتصویر الأمر الثانی ممنوع وممتنع، فلایعقل ما فرضه الأصحاب ‏‏رحمهم الله‏‏ معقولاً‏‎[3]‎‏.‏

‏هذا، ولو سلّمنا إمکان الأمر الثانی التأسیسیّ المتعلّق بالقید، فلا وجه لما اُفید‏‎ ‎‏فی المقام؛ لأنّ الالتزام بالشقّ الثانی ممکن، ضرورة أنّ المکلّف الملتفت إلی العقاب‏‎ ‎‏علیٰ ترک الأمر الثانی، لایبادر إلی امتثاله ؛ حتّیٰ یبقیٰ موضوع للأمر الأوّل، کمن‏‎ ‎‏نذر أن یصلّی صلاته جماعة أوّل الظهر، فإنّه إذا بادر إلی امتثال الأمر المتعلّق بصلاة‏‎ ‎‏الظهر أوّل الوقت ، فهو وإن امتثل أمره، ویسقط أمر الفریضة، ولکنّه عصیٰ وجوب‏‎ ‎‏الوفاء بالنذر، ولایتمکّن من تدارکه؛ لانتفاء موضوعه، وإذا کان یریٰ ذلک فلا یبادر‏‎ ‎‏إلیه إلاّ بالجماعة أوّل الوقت، فلایکون الأمر الثانی لغواً.‏

وربّما یقال :‏ بإمکان الالتزام بالشقّ الأوّل فی کلامه؛ لإمکان الالتزام بلزوم‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 137
‏الإعادة بعد کون المصلحة الموجودة فی متعلّق الأمر الثانی ملزمة.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ الامتثال عقیب الامتثال ممّا یمکن فرضه؛ فیما کان القید‏‎ ‎‏الموجب لحدوث الأمر الثانی، ذا مصلحة إلزامیّة، فإذا بادر المکلّف إلی امتثال الأمر‏‎ ‎‏الأوّل فهو یسقط، ولکنّه یجب علیه الإعادة؛ لإدراک المصلحة الملزمة المتصوّرة فی‏‎ ‎‏الأمر الثانی، وهی لاتتدارک إلاّ بإتیان الطبیعة بداعی الأمر الأوّل‏‎[4]‎‏، انتهیٰ.‏

‏وفیه ما لایخفیٰ؛ ضرورة أنّ الأمر الأوّل إمّا یسقط، أو لا، فإن سقط فلا‏‎ ‎‏إعادة؛ فإنّ المأمور به بالأمر الثانی، غیر المأمور به بالأمر الأوّل، وإن لم یسقط‏‎ ‎‏فلایکون الشقّ الأوّل مورد الالتزام.‏

وبعبارة اُخریٰ:‏ المصلحة الثانیة إن کانت استقلالیّة، فلا یتصوّر الإعادة، وإن‏‎ ‎‏کانت غیر استقلالیّة، فلا یتصوّر سقوط الأمر الأوّل، فافهم وتدبّر.‏

فتحصّل :‏ أنّه لا لغویّة فی الأمر الثانی. مع أنّ قضیّة ما یأتی هو البراءة عند‏‎ ‎‏الشکّ فی التعبّدیة والتوصّلیة‏‎[5]‎‏.‏

‏ثمّ إنّه ربّما یستظهر امتناع الأمر الثانی ولو کان إرشادیّاً؛ وذلک للغویّته بعد‏‎ ‎‏حکم العقل بالاشتغال، فما فی «الکفایة» من البرهان الضعیف، یقتضی امتناع الأمر‏‎ ‎‏الثانی الإرشادیّ أیضاً، کما لایخفیٰ، فتأمّل.‏

إن قلت :‏ کیف یعقل ترشّح الإرادة الجدّیة للأمر الأوّل، مع أنّ متعلّقها الطبیعة‏‎ ‎‏المطلقة التی لا مصلحة فیها، فإذا کان الأمر الأوّل قاصراً عن الباعثیّة، فکیف یمکن‏‎ ‎‏أن یصیر باعثاً بالأمر الثانی المتعلّق بالطبیعة المقیّدة، فیکون ماهو تمام الباعث هو‏‎ ‎‏الثانی؟! فلا معنی للأمر الأوّل.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 138
قلت :‏ هذه شبهة ترد علیٰ جمیع الأوامر الإنشائیّة التی تعلّقت بالاُمور العامّة‏‎ ‎‏الکلیّة، ثمّ بعد مضیّ مدّة یجیء وقت التقیید والتخصیص، أو بعد مضیّ مدّة یجیء‏‎ ‎‏وقت العمل بها، فکما إنّها لیست باعثة حین وجودها، وتصیر بعد التحاق قیودها‏‎ ‎‏باعثة، کذلک الأمر هنا؛ فإنّ الأمر الأوّل المتعلّق بالطبیعة إمّا لایکون إلاّ إنشائیّاً،‏‎ ‎‏فبلحوق الأمر الثانی یکشف الجدّ علی طبقه، فیصیر باعثاً.‏

‏أو یکون فعلیّاً، ولکن بعد مضیّ مدّة یصیر المصلحة فی الطبیعة المقیّدة،‏‎ ‎‏فیصدر الأمر الثانی، فلایلزم عدم باعثیّة الأمر الأوّل.‏

‏وحیث یکون الفرض الأوّل خارجاً عن مفروض المسألة؛ وهو کون الأمرین‏‎ ‎‏فعلیّین مستقلّین، ولکلّ واحد منهما موافقة ومخالفة، یتعیّن الفرض الثانی؛ وهو کون‏‎ ‎‏المصلحة بدواً فی الطبیعة المطلقة، ثمّ صارت فی المقیّدة، فاُمر بها، فإنّه حینئذٍ‏‎ ‎‏لایلزم عدم باعثیّة کلا الأمرین، ولا لغویّتهما.‏

‏نعم، بناءً علیٰ ما ذکرناه وجهاً للامتناع؛ وأنّ الأمر الثانی لایکون نفسیّاً‏‎ ‎‏تأسیسیّاً، فلایختصّ بالموافقة والمخالفة، ولا یکون ذا عتاب وعقاب، وذا امتثال‏‎ ‎‏وثواب، یتوجّه أیضاً: أنّ الأمر التأسیسیّ النفسیّ ـ بحسب الواقع ونفس الأمر ـ‏‎ ‎‏أحد أمرین:‏

‏إمّا یکون الأوّل، فیکون الثانی إرشاداً إلی القیدیّة.‏

‏أو یکون الثانی، فیکون الأوّل لغواً، أو منسوخاً.‏

‏وحیث لا سبیل إلی الثانی ثبوتاً، ولو أمکن لا وجه له إثباتاً، یتعیّن فیما إذا‏‎ ‎‏ورد الأمران، حمل الأوّل علی التأسیس، والثانی علی الإرشاد إلیٰ تقیّد متعلّق الأمر‏‎ ‎‏الأوّل، کقوله: «صلّ» وقوله ثانیاً: «صلّ فیما یؤکل لحمه» فافهم واغتنم.‏

‏نعم، فی المثال المزبور هو إرشاد إلیٰ قید فی المأمور به، وفیما نحن فیه هو‏‎ ‎‏إرشاد إلیٰ تضیّق المرام؛ وأخصّیة الغرض.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 139

  • )) کفایة الاُصول: 96 ـ 97.
  • )) یأتی فی الصفحة 257 ـ 259 .
  • )) أجود التقریرات 1: 116، بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1: 231 ـ 232، منتهی الاُصول 1: 139.
  • )) نهایة الدرایة 1: 332 ـ 333.
  • )) یأتی فی الصفحة 167 .