المقصد الثانی فی الأوامر

الوجوه العقلیّة علی أصالة التعبّدیة

‏ ‏

الوجوه العقلیّة علی أصالة التعبّدیة

‏ ‏

‏ثمّ إن هاهنا بعضاً من الوجوه الاُخر التی استند إلیها لأصالة التعبّدیة، لابأس‏‎ ‎‏بالإشارة إلیها:‏

أوّلها :‏ ما سلکه شیخ مشایخنا العلاّمة الحائریّ فی اُخریات عمره، وبنیٰ‏‎ ‎‏علیه جمعاً من المسائل العلمیّة‏‎[1]‎‏، کعدم التداخل فی الأسباب، وکظهور الأمر فی‏‎ ‎‏الفور، ودلالته علی المرّة، وهکذا اختار أصالة التعبّدیة بعد ذهابه إلی التوصّلیة فی‏‎ ‎‏«درره»‏‎[2]‎‏ والدورة الاُولیٰ من بحثه.‏

وملخّص ما أفاده :‏ أنّه قاس العلل التشریعیّة بالعلل التکوینیّة؛ وأنّ الإرادة‏‎ ‎‏بالنسبة إلی المراد کالعلّة التکوینیّة، وإن لم تکن عینها من جمیع الجهات، فإذا کانت‏‎ ‎‏العلّة التکوینیّة مستتبعة لمعلولها بلا تخلّل وبلا تخلّف، فتلک الإرادة الموجودة فی‏‎ ‎‏المقنّن مثل تلک العلل، فشأنیّة الإرادة التشریعیّة والتکوینیّة واحدة.‏

‏وکما إنّ علّیة الإرادة التکوینیّة، لیست مقیّدة بأمر فی ناحیة المعلول،‏‎ ‎‏فلایکون موجدیّتها منوطة بتقیّدها بالمعلول؛ للزوم الدور، ولا تکون ـ مع أنّها‏‎ ‎‏لیست مقیّدة ـ مطلقة؛ بحیث تؤثّر فی إحراق القطن کیفما اتفق، فلایکون المعلول‏‎ ‎‏قیداً، ولا العلّة مطلقة، بل ماهو العلّة هی الطبیعة المضیّقة التی لاتنطبق إلاّ علی‏‎ ‎‏المقیّد، وهی المعبّر عنها بـ «الحصّة التوأمة» فی کلام شقیقه العلاّمة الأراکیّ فی‏‎ ‎‏«مقالاته»‏‎[3]‎‏.‏

‏فعلیٰ هذا، لابدّ من الالتزام بأنّ الأمر المتعلّق بشیء، وإن لم یکن الشیء‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 155
‏مقیّداً بجهة من ناحیة الأمر، ولایکون الأمر مطلقاً، ولکن لایکون مجرّد تحقّق‏‎ ‎‏المأمور به، کافیاً فی سقوطه، بل ماهو مسقطه هی الطبیعة المضیّقة التی وجدت‏‎ ‎‏بتحریک الآمر.‏

‏وهکذا یجب الالتزام بالفوریّة، وبدلالته علی المرّة؛ لعدم التفکیک بین العلّة‏‎ ‎‏ومعلولها، ولعدم اقتضاء العلّة الواحدة إلاّ معلولاً واحداً، انتهیٰ.‏

‏فکأنّه بمقیاس العلل التکوینیّة وخواصّها المختلفة وآثارها الشتّیٰ، استظهر‏‎ ‎‏المسائل المزبورة، فاستظهر التضیّق ـ الذی هو الحدّ المتوسّط بین الإطلاق‏‎ ‎‏والتقیید من التکوین؛ لأجل أنّه لا مطلق، ولا مقیّد، کما استظهر صاحب‏‎ ‎‏«المقالات» منه ذلک، وبنیٰ شتات المسائل العلمیّة علیه، وحلّ به الغوامض العقلیّة‏‎ ‎‏من أوّل الاُصول إلیٰ آخره.‏

‏ومن العجب، أنّه لایجری هذه المقالة فی هذه المسألة قائلاً: «بأنّ الحصّة‏‎ ‎‏التوأمة، غیر وافیة بحلّ معضلة أخذ قصد الأمر فی المتعلّق»!! فراجع، واستظهر‏‎ ‎‏الفوریّة من جهة اُخریٰ، والمرّة من جهة ثالثة‏‎[4]‎‏.‏

‏وما هذا إلاّ للاستظهار، فلایرد علیه بعض ما أورده علیه السیّد الوالد‏‎ ‎‏ـ مدّظلّه ‏‎[5]‎‏: من أنّ وزان العلل التکوینیّة یکون کذا وکذا، وأنّ المعالیل ربط محض‏‎ ‎‏بعللها، فإنّه ‏‏رحمه الله‏‏ ما کان فی هذا الموقف، وما کان أهلاً لذلک المیدان، ولکنّه لمکان‏‎ ‎‏التقریب إلی الأذهان؛ وأنّ العرف یساعد علیٰ ذلک لأجل ما یرون فی التکوین،‏‎ ‎‏التجأ إلیٰ هذا القیاس، الذی هو الممنوع فی الشرع الأقدس إلاّ فی هذه المحالّ،‏‎ ‎‏فلیتدبّر جیّداً.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 156
أقول :‏ یالیته ما کان عادلاً عن الفکرة الاُولیٰ، وما خطر بباله هذه المقایسة‏‎ ‎‏الهلکاء، کی یقع فیما لا ینبغی، ولقد مرّ منّا فی الصحائف السابقة: أنّ مقایسة العلل‏‎ ‎‏الاعتباریّة بالتکوینیّة، غیر صحیحة، وتورث الزلل الکثیر، والخطأ غیر الیسیر.‏

فبالجملة :‏ لو سلّمنا تمامیّة جمیع المقدّمات، فإن ثبت إمکان أخذ قصد الأمر‏‎ ‎‏فی المتعلّق، فلا وجه للتضییق فی خصوص هذا القید، فلابدّ ـ بناءً علیٰ مرامه ـ من‏‎ ‎‏نفی الإطلاق بالنسبة إلیٰ سائر القیود والشرائط.‏

‏وإن ثبت امتناعه، فلا حاجة إلیٰ تلک الإطالة المنعطفة عن جادّة الاعتدال‏‎ ‎‏والواقع، ولاتکون طریقة جدیدة فی تحریر الأصل فی المسألة.‏

ثانیها :‏ الأمر الصادر من الآمر لایکون إلاّ لغرض؛ لاحتیاجه إلیه بالضرورة،‏‎ ‎‏ولایکون الغرض إلاّ جعل الداعی، فیأمر بداعی تحریک الأمر، فلو کان المأمور‏‎ ‎‏منبعثاً عن غیر هذا الداعی، یلزم لغویّة الداعی الموجود فی نفس المولیٰ، فلایکون‏‎ ‎‏الفعل المحقّق بغیر داعی الأمر، مسقطاً لأمره قهراً وطبعاً‏‎[6]‎‏.‏

أقول :‏ هذه مصادرة؛ ضرورة أنّ الواجبات التعبّدیة تکون هکذا، وأمّا‏‎ ‎‏الواجبات التوصّلیة، فأوامرها لیست إلاّ لانتقال المکلّفین إلیٰ لزوم تحقّق متعلّقاتها‏‎ ‎‏سواء کان الداعی إلیٰ إیجادها أمرها، أو أمراً آخر من الدواعی الاُخر النفسانیّة.‏

‏هذا مع أنّ من الممکن دعویٰ: أنّ غایة الأمر إمکان جعل الداعی، لا الداعی‏‎ ‎‏الفعلیّ، فلا تخلط.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ الهیئات موضوعة للتحریک الاعتباریّ الإنشائیّ، سواء‏‎ ‎‏صارت محرّکة بالفعل وباعثة، أو لم تصر کذلک.‏

‏ثمّ إنّه لو کان الأمر الصادر من الآمر مغیّا بما قیل، للزم إنکار الواجبات‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 157
‏التوصّلیة رأساً، وهو فاسد بالضرورة.‏

ثالثها :‏ لا شبهة فی وجوب إطاعة المولیٰ عقلاً ونقلاً؛ بمعنیٰ أنّ المستفاد من‏‎ ‎‏الکتاب العزیز، لزوم انتزاع عنوان «الإطاعة» من أعمال العباد، زائداً علیٰ حکم‏‎ ‎‏العقل بلزوم تبعیّة العبد للمولیٰ، ومفهوم «الطاعة» لایتحقّق بمجرّد التطابق القهریّ‏‎ ‎‏بین المأتیّ به والمأمور به؛ أی مجرّد تحقّق المأمور به غفلةً عن الأمر، لایکفی‏‎ ‎‏لانتزاع هذا المفهوم، بل اللازم فی ذلک کون العبد، متحرّکاً بالأمر فی إمکان انتزاع‏‎ ‎‏مفهوم «الطاعة والإطاعة».‏

‏فقوله تعالیٰ: ‏‏«‏أطِیعُوا الله َ وَرَسُولَهُ‏»‏‎[7]‎‏ إمّا إرشاد إلیٰ حکم العقل، فیعلم منه‏‎ ‎‏لزوم کون المأتیّ به متنزعاً منه عنوان «الطاعة» وإمّا إرشادیّ إلیٰ تقیید متعلّق سائر‏‎ ‎‏الأوامر بکونه بحیث ینتزع منه هذا المفهوم، وهو المطلوب‏‎[8]‎‏.‏

أقول :‏ ما یحکم به العقل هو لزوم القیام بالوظائف الثابتة بالأوامر، ولا یدعو‏‎ ‎‏الأمر إلاّ إلیٰ متعلّقه، وهی الصلاة، فلا سبیل للعقل إلیٰ الحکم بکون المأمور به مقیّداً‏‎ ‎‏بکذا، حتّیٰ ینتزع عنه عنوان «الطاعة» وهکذا فی جانب النواهی؛ فإنّ الترک‏‎ ‎‏والانتراک علیٰ حدّ سواء فی إسقاط النهی من غیر شرطیّة الانزجار بالنهی حتّیٰ‏‎ ‎‏یتضیّق دائرة المنهیّ عنه.‏

‏وأمّـا الآیة الشریفة، فلاینتقل منها العرف إلاّ إلیٰ هذا، وأمّا استفادة تقیید‏‎ ‎‏متعلّق الأمر والنهی بکونه قابلاً للانتزاع المزبور، أو استفادة کون المأتیّ به فی‏‎ ‎‏ظرف الامتثال، قابلاً لانتزاع مفهوم «الإطاعة» ـ علی اختلاف المسالک فی امتناع‏‎ ‎‏وإمکان إحدی الطریقین دون الاُخریٰ ـ فهو فی غایة الإشکال، ونهایة الصعوبة،‏‎ ‎‏وإلاّ یلزم الابتلاء بکون جمیع الأوامر والنواهی، متقیّدة بحسب الجعل، أو متضیّقة‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 158
‏بحسب الامتثال؛ بکون المأمور متحرّکاً بتحریکها، ومنزجراً بزجرها، وهذا غیر‏‎ ‎‏قابل للتصدیق.‏

‏ولو کان بعض الواجبات خارجاً یسقط الاستدلال؛ لما یکون من التمسّک‏‎ ‎‏بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة، بل یلزم التمسّک بالإطلاق فی الشبهة المصداقیّة لدلیل‏‎ ‎‏المقیّد؛ بناءً علیٰ رجوع التقییدات الکثیرة إلی التقیید بالعنوان الواحد، کما مضیٰ ذیل‏‎ ‎‏الوجه الأوّل‏‎[9]‎‏، فتأمّل.‏

ویمکن أن یقال :‏ بأنّ غایة ما یستدلّ به هو إطلاق الآیة ـ لحذف المتعلّق ـ‏‎ ‎‏علی المرام المزبور، وهو قابل للتقیید، وعندئذٍ لایتمّ المقصود کما لایخفیٰ.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 159

  • )) لاحظ مناهج الوصول 1: 275 ـ 276.
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری: 100 ـ 102.
  • )) مقالات الاُصول 1: 245.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّـق العراقی) الآملی 1 : 228 ، مقالات الاُصول 1 : 245 ـ 246 .
  • )) مناهج الوصول 1: 276 ـ 277، تهذیب الاُصول 1: 161 ـ 162.
  • )) لاحظ أجود التقریرات 1 : 113 ، فوائد الاُصول 1 : 156 .
  • )) الأنفال (8): 20 و46.
  • )) لاحظ إشارات الاُصول : 113 / السطر 1 ـ 3 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 154 .