المقام الثالث
حول متعلّق الأوامر؛ وما یتعلّق به الأمر
فی مقام الإنشاء والجعل
فاعلم : أنّه قد یظهر من بعضهم أنّ المسألة لغویّة؛ وأنّ البحث یکون حول مفاد الهیئة، وما یقوم مقامها، کالإشارة، والجمل الخبریّة؛ وأنّها هل هی موضوعة لطلب الوجود والإیجاد، أو هی موضوعة للتحریک الاعتباریّ؛ والبعث إلیٰ جانب المادّة المتعلّقة له؟.
وأمّا احتمال کون الموادّ موضوعة للطبائع بما هی موجودة، أو لا موجودة، فهو باطل، وإلاّ یلزم المجاز فی سلب الوجود عنها، وحمل العدم علیها، فهی ـ أی الموادّ ـ خالیة بالقطع والیقین من کونها موضوعة للطبیعة الموجودة، أو المعدومة، أو هما معاً فی اللحاظ.
فالصلاة والصوم والضرب، موضوعة لنفس الطبائع؛ من غیر إشراب مفهوم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 225
الوجود والعدم، کما یومئ إلیه الإجماع المحکیّ عن السکّاکی: من أنّ المصدر الخالی من اللام والتنوین، موضوع للطبیعة اللابشرط.
وربّما یظهر من بعضهم: أنّ البحث هنا حول أنّ المطلوب ماذا فی الأوامر، بل وفی النواهی؟ ولا یکون البحث حول مسألة إنشائیّة لفظیّة، بل البحث حول الفحص عن المطلوب؛ وأنّه هل هو إیجاد الطبیعة ووجودها، أو نفسها؟
وعن ثالث احتمال الثلاثة؛ وأنّ البحث حول أنّ المتعلّق أو المطلوب، هو الوجود المضاف إلی الطبیعة، أو فردها، أو نفسها؟ لما تقرّر من الفرق بین وجود الطبیعة وفردها؛ فإنّ وجودها عارٍ من جمیع الخصوصیّات المفرِّدة، وفردَها مشتمل علیٰ جمیع الخصوصیّات المفرِّدة من المقولات التسع العرضیّة.
وربّما یقال : کما فی کلام العلاّمة المحشّی رحمه الله: «إنّ المسألة عقلیّة، ونشأت من أنّ الطبائع بنفسها فی الخارج، أو بمصداقها وبفردها، أو هی ناشئة من بحث أصالة الوجود والماهیّة جعلاً، لا تحقّقاً، فإن کانت الماهیّة متعلّق الجعل، فهی مورد الأمر، وإن کان الوجود أصلاً فی الجعل، فهو متعلّق الأمر» وهکذا من الأقاویل المشروحة فی المطوّلات.
والذی لایکاد ینقضی منه تعجّبی؛ أنّ المادّة عند المحقّقین، لیست موضوعة إلاّ لنفس الطبیعة، والهیئة لیست إلاّ للبعث نحوها والتحریک إلیٰ جانبها، أو لإیقاع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 226
النسبة، أو للطلب الفارغ عن قید الوجود والعدم، فإذا تعلّقت الهیئة بالمادّة، ولم یکن هناک وضع علی حدة، فمن أین جاء مفهوم الوجود فی الأوامر، ومفهوم العدم فی النواهی؟!
وأمّا إرجاع البحث من مقام الإنشاء والاستعمال، إلیٰ مقام الإرادة والطلب النفسانیّ، فهو فی غایة الفساد؛ لأنّ ماهو متعلّق الأمر فی مقام الإثبات، لایمکن أن ینقلب إلیٰ أمر آخر، فما هو المأمور به، لیس إلاّ الطبیعة بحسب مقام الإنشاء. ولو اقتضی البرهان أنّ المقصود الأصلیّ أمر آخر غیرها، ویکون من لوازمها، فهو لایستدعی تعلّق الأمر به فی مقام الجعل قطعاً.
وبعبارة اُخریٰ: الخلط بین متعلّق الأوامر والنواهی، وبین ماهو المطلوب الذاتیّ والمقصود الأصلّی، أحدث هذه الغائلة بین أربابها وأصحابها، وإلاّ فالأمر هو الهیئة، ومتعلّقها هی المادّة، ولا شیء وراء هذین الأمرین، فما وجه هذا التشاحّ، والنزاع الطویل ذیله، والعدیم نفعه؟!
وهکذا توهّم : أنّ متعلّق الأمر هو الفرد بمفهومه وعنوانه، لا بواقعیّته وخارجیّته، فإنّه لایکون متعلّق الأمر، ولا ذاک أیضاً؛ لأنّ الطبیعة لاتکون حاکیة إلاّ عن معناها.
نعم، للآمر أن یبعث تارة: إلی وجود الطبیعة، فیقول: «أوجد الضرب» واُخریٰ: إلیٰ فرده فیقول: «أوجد فرداً من الضرب» بإلغاء خصوصیّة الوجود الملحوظ مع الهیئة، وثالثة: إلی الطبیعة نفسها فقط.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 227
فتحصّل : أنّ الجهة المبحوث عنها هنا؛ هی أنّ متعلّق الأمر والنهی ماذا؟ وهو تابع لما جعله المتکلّم موردهما ومصبّهما، ولایعقل الانقلاب فی مقام الإثبات، فلا وجه لهذا النزاع.
نعم، هنا نزاع آخر : وهو أنّ المطلوب الأصلیّ؛ وما یتعلّق به الشوق، هل هو ما تعلّق به الأمر والنهی ظاهراً، أم هو أمر آخر من الوجود والفرد؟ فافهم واغتنم.
ثمّ إنّ توهّم کون النزاع عقلیّاً، فی غایة السقوط؛ ضرورة أنّ المسائل العقلیّة المشار إلیها، بعیدة عن أذهان المحقّقین، فضلاً عن غیرهم.
نعم، فیما جعلناه مطرحاً للبحث یمکن، دعویٰ: أنّ المطلوب هو الوجود ارتکازاً، وهذا من الشواهد علیٰ أصالة الوجود، کما یأتی.
وأمّا توهّم : أنّ النزاع لغویّ، فهو أفحش؛ ضرورة أنّ المتبادر من المادّة لیس إلاّ نفس الطبیعة، والهیئة لیست إلاّ لأحد الاُمور المشار إلیها؛ من البعث، والتحریک، والطلب، وإیقاع النسبة، من غیر إشراب الوجود فیها. ولذلک تریٰ أنّ المرتکز العقلائیّ فی شرح قولنا: «اضرب زیداً» هو أطلب وجود الضرب، أو إیجاده، أو أبعث إلی الإیجاد وهکذا، فیکون الوجود داخلاً فی المتعلّق، مع أنّ الضرورة قاضیة بعدم اشتمال الطبیعة علی الوجود، فهذا التفسیر ناشئ من المطلوب النفسانیّ، دون الطلب الإنشائیّ، فلا تخلط.
إذا عرفت ذلک، وأحطت خبراً بضعف ما قیل أو یقال فی المقام، وتخلیط الأعلام بین مقام الثبوت والإثبات، فلابدّ من الإشارة إلیٰ شبهة عقلیّة فی المسألة علیٰ جمیع التقادیر، ولعلّها أورثت ذهاب جمع غفیر إلیٰ صرف الظهور فی مقام
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 228
الإثبات، والالتزام بأنّ متعلّق الأمر لیس ماهو المأخوذ فیه ظاهراً: وهو أنّ المحتملات والأقوال فی متعلّق الأوامر والنواهی متعدّدة ومختلفة، والکلّ لایخلو عن شبهة. والحقّ : کون المتعلّق نفس الطبیعة، کما هو مختار الوالد المحقّق ـ مدّظلّه والسیّد الاُستاذ البروجردیّ، وهو الظاهر من «الدرر».
والشبهة: هی أنّ الطبیعة من حیث هی، غیر وافیة بالغرض، وغیر شاملة للمصلحة؛ فإنّ المصالح من آثار الوجود، فکیف یعقل کونها متعلّق الأمر؟! فبحکم العقل متعلّقه الإیجاد والوجود، دون الطبیعة، ودون الفرد؛ لخروج الخصوصیّات عن الأغراض.
وربّما یجاب أوّلاً : بالنقض بأنّ الطبیعة بوجودها الخالی من خصوصیّات مفرّدة فی هذه النشأة، غیر مشتملة علی المصلحة، ولو أمکن فرض التخلیة هنا، لأمکن هذا الفرض هناک أیضاً.
وثانیاً : أنّها وإن کانت من حیث هی لیست إلاّ هی؛ لا مطلوبة، ولا لا مطلوبة، ولکنّها ـ بلحاظٍ خارج عن ذاتها ـ یتعلّق بها الطلب، ولا یلزم تعلّق الطلب بوجودها، فما تریٰ فی کتب القوم غیر خالٍ من التحصیل.
بل الحقّ : أنّ متعلّق الإرادة والعلم والشوق والمیل النفسانیّ، لیس إلاّ تلک الماهیّة، لا الأمر الزائد علیها فی اللحاظ الأوّل.
نعم، فی اللحاظ الثانی توصف بـ «أنّها کذا وکذا» فلأجل کون هذه الاُمور من الأوصاف ذات الإضافة، لا یلزم کون طرف الإضافة غیر ذات الماهیّة، ففی الأمر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 229
والنهی أیضاً کذلک.
ولو قیل : إنّ الطبیعة المبعوث إلیها، قابلة للوجود فی الذهن والخارج، فلو کان مراد المولیٰ ومطلوبه، نفسَها الأعمّ من الوجود فی النشأتین، یلزم کفایة تصوّرها الذهنیّ فی سقوط الأمر.
وإن کان المراد وجودها الخارجیّ، فیختلف متعلّق الأمر والمطلوب الحقیقیّ؛ فإنّ الأوّل هی الماهیّة، والثانی وجودها الخارجیّ، وهو خلاف الظاهر من الدلیل الناطق: بأنّ المطلوب ما تعلّق به الأمر والبعث من حیث هو هو، فعلیه لابدّ من التصرّف فیما تعلّق به الأمر، وجعل المتعلّق وجودها الخارجیّ بمفهومه الاسمیّ مثلاً، کما یأتی.
هذا مع أنّ الطبیعة من حیث هی وإن کانت قابلة لتعلّق الطلب بها، فتصیر مطلوبة بالأمر الزائد علیٰ ذاتها، ولکنّها خالیة من الصلاح والفساد، فکیف یتعلّق بها الأمر والنهی؟! فعلیه یکون ما هو المتعلّق فی مرحلة الإنشاء والإثبات، غیرَ ماهو المطلوب والمقصود فی مرحلة الثبوت والإرادة.
أقول : قضیّة ما تحرّر منّا فی تحریر محلّ النزاع؛ أنّ المراد من متعلّق الأمر، لیس إلاّ ما تعلّقت به الهیئة فی مقام الإنشاء؛ لعدم إمکان تعلّق الأمر بشیء فی مقام الثبوت، لأنّه لیس من الاُمور التی کانت له مرحلتان: مرحلة الثبوت، والإثبات، بل هو منحصر بمرحلة واحدة؛ وهی الإثبات، فلا یعقل فی مثل «صلّ» و «اضرب» إلاّ أن یتعلّق الهیئة بالمفهوم الکلّی؛ والأمر الاعتباریّ والطبیعیّ، ولو شاء الآمر أن یتعلّق أمره بشیء آخر غیر ذلک، فعلیه أن ینشیٔبوجه آخر، کما مضیٰ سبیله.
ولکن کون المطلوب الواقعی والمراد الحقیقیّ أمراً آخراً ـ وهو وجودها الخارجیّ بعنوانه ـ لایستلزم الانقلاب فی متعلّق الأمر؛ لعدم فائدة فی هذا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 230
الانقلاب، وذلک لأنّ مفهوم «إیجاد الطبیعة» کمفهوم «الطبیعة» فی عدم اشتماله علی المصلحة، وعدم کونه مطلوباً واقعاً؛ فإنّ ماهو المطلوب هو وجودها الخارجیّ، الذی لایعقل تعلّق الأمر به.
فتحصّل إلی هنا : أنّ الشبهة منحصرة فی أنّ الواجب بحسب اللبّ، هل هو الصلاة والصوم، أم الواجب إیجاد الصلاة والصوم، أم الواجب هی الصلاة بما هی مرآة للخارج؛ وحاکیة عن الوجود فی الأعیان، مع أنّ المفروض تعلّق الهیئة بالطبیعة، المقتضی لکون الواجب نفسها، لا أمراً آخر وراءها، أم الواجب فرد الصلاة والصوم؟!
وربّما یوجد فی کلام الوالد ـ مدّظلّه : أنّ المتعلّق هی الطبیعة، ولکنّ الطبیعة لیست طبیعة إلاّ إذا صارت خارجیّة.
وأنت خبیر : بأنّ ما تعلّق به الأمر لیس إلاّ عنواناً ومفهوماً، کلّما جعل وفی أیّ صقع من الأصقاع تحقّق، یکون هو ذاک العنوان بالضرورة. وقیاس الطبائع الأصلیّة بالعناوین الاعتباریّة مع الفارق؛ فإنّ ما قرع سمعه المبارک تامّ ـ فرضاً ـ فی الماهیّات الأصلیّة، فلا تخلط.
وربّما یوجد فی کلام شیخه العلاّمة وهو أیضاً: أنّ البعث إلی الطبیعة، یلازم عرفاً انتقال العبد إلیٰ إیجادها فی الخارج؛ وإلی إتیانها فی عمود الزمان.
وهذا مخدوش بأنّ الأمر وإن کان کذلک، ولکن یلزم ـ بناءً علیه ـ کون البعث إلی الطبیعة من الکنایات إلیٰ ماهو الواجب والمأمور به؛ وهو الإیجاد، وهذا خلف؛ لأنّ المقصود إثبات أنّ الواجب حقیقة هی الطبیعة، لا الأمر الآخر الملازم معها من الوجود، أو سائر الخصوصیّات المفرِّدة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 231
فتحصّل إلی هنا : أنّ ما أفاده القوم فی تحریر محلّ النزاع ساقط، وسببه القصور عن نیل حقائق الاُمور.
فالمحصول ممّا قدّمنا مع الإطالة التی لاتخلو من الإملال: أنّ العاقل لایمکن أن یتفوّه بأنّ متعلّق الأمر غیر الطبیعة، مع أنّ المراد من الأمر لیس إلاّ الهیئة، والمقصود من المادّة لیست إلاّ الطبیعة اللابشرط. فعلیه کلّ من التزم بخلاف ذلک، فقد حداه إلیه أمر من الاُمور العقلیّة؛ وبرهان من البراهین العقلائیّة:
فمن قال : بأنّ المتعلّق هی الطبیعة بما هی مرآة؛ وحاکیة عن الخارج، ومتّحدة معه، فقد رأیٰ أنّ الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی؛ لا مطلوبة، ولا لا مطلوبة.
ومن اعتقد بأنّ المتعلّق هو وجودها، ویکون البعث إلیٰ إیجاد ذلک الوجود فی الأعیان؛ وفی صفحة التکوین، فقد رأیٰ أنّ الطبیعة لا یتعلّق بها الجعل، وهی من الاُمور الانتزاعیّة المجعولة بالعرض.
ومن ظنّ أنّ المتعلّق هو الفرد، فقد رأیٰ أنّ ماهو ممکن التحقّق فی الخارج هی الأفراد، لا الطبائع بنفسها.
ومن قال : بأنّ المتعلّق هی الطبیعة بما هی هی، ابتلی بإشکال لم یدفع فی کلماتهم: وهو أنّ تلک الطبیعة لیست ذات مصالح ومفاسد، مع أنّ قضیّة المذهب کون متعلّق التکالیف الإلهیّة ذا مصالح ومفاسد.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 232
فعلیٰ ما تقرّر إلی هنا، یتوجّه إلی جمیع المقالات إشکال لابدّ من دفعه.
وأنت بعدما عرفت منّا، تقدر علیٰ دفع توهّم کون المتعلّق هو الفرد؛ ضرورة أنّ الطبیعة لیست حاکیة عنه، ولا وجودها، بداهة أنّ الوجود لو کان داخلاً فی الطبیعة، یلزم کونها واجبة الوجود، فینحصر الأمر بالأمرین.
ولا سبیل إلی الالتزام بأنّ متعلّق الأمر، الطبیعة بما هی مرآة للخارج؛ لعدم إمکان أخذها عنواناً مشیراً إلی أنّ الخارج متعلّق، فقهراً تصیر هی المتعلّق بالذات.
ولو اُرید من ذلک التعبیر، إیقاع المخاطب إلی الإیجاد فی الخارج؛ لأنّ المطلوب خارجیّة الطبیعة، فهو لایتوقّف علیٰ ذلک ، بل لک الاتکال علیٰ فهم العقلاء من البعث إلی الطبیعة ذلک؛ وأنّ الآمر إذا کان یجد وصوله إلیٰ مرامه بذلک النحو، فقهراً تصدر منه الإرادة إلیٰ جعل الهیئة متعلّقة بالطبیعة، فلاتخلط.
والذی هو الحقّ کما اُشیر إلیه: أنّ المتعلّق هی الطبیعة، وأنّ الواجب هی الصلاة والصوم. بل الذی یتعلّق به الإرادة التکوینیّة هی الماهیّات:
أمّا الأخیر : فذلک؛ لأنّ الإرادة لو تعلّقت بأمر آخر غیر الطبیعة، یلزم کون الأمر الآخر هو الوجود لیس إلاّ، فتکون الطبیعة ذات وجود، وهو خلف؛ لأنّها لیست مع قطع النظر عن الإرادة ، إلاّ هی ؛ لاموجودة، ولا لا موجودة. وهکذا یکون المطلوب والمعشوق والمتصوّر والمعلوم، نفسَ الطبیعة، لا الأمر الآخر القائم بها.
نعم، وجود الطبیعة هی الإرادة المتعلّقة بها، ویکون ماهو المجعول بالذات هی الإرادة، وماهو المجعول بالإرادة وبالعرض هی الطبیعة، فالإیجاد متعلّق بالطبیعة، ویکون وجود الطبیعة مورد الجعل. هذا کلّه فی الإرادة التکوینیّة؛ من غیر فرق بین إرادة الربّ والمربوب.
وأمّا الأوّل : وهی الهیئات، فإنّها أیضاً متعلّقات بالماهیّات الاعتباریّة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 233
کالصلاة والصوم، أو الحقیقیّة، کالضرب والقتل.
ولکن میزان الواجب النفسیّ والغیریّ، لیس ما توهّم: «من أنّ الواجب النفسیّ: هو الذی فیه الملاک والمصلحة، والغیریّ: ما لا یکون کذلک» بل میزان النفسیّ والغیریّ أمر إثباتیّ؛ أی ما تعلّق به الأمر، ویکون هو المأمور به ـ ظاهراً لنفسه، لا لأمر آخر: هو الواجب النفسیّ وإن کان الغرض الأقصیٰ أمراً آخر وراء ذلک، کما یأتی فی محلّه تفصیله.
فعلیه لا یشترط کون متعلّق الأمر والنهی ذا مصلحة شخصیّة، أو مفسدة، بل الأوامر والنواهی ـ حسب مذهب العدلیّة ـ لابدّ وأن تکون ذات مصالح ومفاسد وإن لم یکن فی شخص المتعلّق مصلحة أو مفسدة، فإذا أمر المولیٰ بالصلاة، وکان یریٰ أنّ المصالح المقصودة تحصل من وجودها، فلا یلزم کون الواجب ومتعلّق الأمر وجودها، بل انتهاء المتعلّق إلی المصلحة المقصودة، کافٍ فی نفسیّة المتعلّق ووجوبه؛ وکونِه متعلّق الأمر واقعاً.
فما قد یتوهّم من الإشکال علیٰ تعلّق الأمر بالطبیعة: من خلوّها من المصلحة والمفسدة، غیر وارد. مع أنّ جماعة من العقلاء یزعمون أنّ المصالح للطبائع، والوجودَ اعتباریّ، أو بالوجود تظهر آثار الماهیّات، فلا تخلط. فتعلّق الأمر بالطبیعة ـ حسب الظاهر ـ قطعیّ، وهو حسب الواقع والجدّ أیضاً کذلک.
وأمّا الإشکال : بأنّ الهیئة لاتکون باعثة إلاّ نحو ما تعلّقت به؛ وهی الماهیّة لیست إلاّ، فهو ـ کما اُشیر إلیهـ قابل للدفع: بأنّ الآمر المتوجّه إلیٰ أنّ العقلاء لایفهمون من ذلک إلاّ لزوم الإتیان بها خارجاً، فلا منع من جعل الأمر متعلّقاً بها،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 234
کما أنّه لو جعل متعلّق الأمر وجود الطبیعة، یعلم أنّه ینتقل منه العبید إلیٰ إیجادها، فالاتکال علی القرائن القطعیّة، دأب قاطبة العقلاء فی محاوراتهم.
نعم، لو جعل المتعلّق نفس الطبیعة، فالقائل بأصالة الوجود والماهیّة ینبعث نحوه، کما عرفت، ولو جعل المتعلّق وجودها، فللقائل بأصالة الماهیّة الإباء عنه؛ لأنّ المتعلّق غیر قابل للتحقّق فی الخارج، فافهم وتدبّر جیّداً.
إن قلت : هذا یستلزم الاستعمال الکنائیّ أیضاً؛ أی یکون الهیئة ـ بحسب الإرادة الاستعمالیّة ـ متعلّقة بالمادّة، وبحسب الإرادة الجدّیة متعلّقة بالإیجاد، فیکون الواجب النفسیّ إیجاد الصلاة، لا الصلاة.
قلت : فرق بین الاستعمال الکنائیّ، وبین توقّف الفرار من اللغویّة فی الاستعمال المطابقیّ، علی انتقال المخاطب إلی الأمر الآخر الملازم له، أو إلی المطلوب ذاتاً وواقعاً، والأمر فیما نحن فیه من القسم الثانی؛ فإنّ المجعول المطابقیّ والواجب ـ حسب الإنشاء ـ هی الطبیعة. وکون المراد من ذلک لبّاً أمراً آخر، لایستلزم الاستعمال الکنائیّ، کما لایخفیٰ.
مع أنّک قد عرفت : أنّ جعل الماهیّة متعلّق الأمر ـ بداعی حثّ المخاطب إلیٰ إیقاعها فی الخارج، أو إتیانها خارجاً، أو غیر ذلک من التعابیر ـ هو الأوفق من جعل أحد المفاهیم المضافة إلیٰ تلک الماهیّة موردَ الأمر. مع أنّه أسوأ حالاً من الماهیّة؛ ضرورة أنّها تأتی فی الخارج، بخلاف مفهوم «الوجود» وأنّها تکون ذات آثار تظهر بالوجود مثلاً، بخلاف مفهوم «الإیجاد والإیقاع» وغیر ذلک من التعابیر المختلفة.
فما تریٰ فی کتب القوم غیر صحیح؛ لا عقلاً، ولا عرفاً، لا واقعاً ولبّاً، ولا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 235
ظاهراً وإنشاءً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 236