المقصد الثانی فی الأوامر

المقام الثالث : متعلّق الأوامر؛ وما یتعلّق به الأمر فی مقام الإنشاء والجعل

المقام الثالث 

حول متعلّق الأوامر؛ وما یتعلّق به الأمر 

فی مقام الإنشاء والجعل

‏ ‏

فاعلم :‏ أنّه قد یظهر من بعضهم أنّ المسألة لغویّة؛ وأنّ البحث یکون حول‏‎ ‎‏مفاد الهیئة، وما یقوم مقامها، کالإشارة، والجمل الخبریّة؛ وأنّها هل هی موضوعة‏‎ ‎‏لطلب الوجود والإیجاد، أو هی موضوعة للتحریک الاعتباریّ؛ والبعث إلیٰ جانب‏‎ ‎‏المادّة المتعلّقة له؟‏‎[1]‎‏.‏

‏وأمّا احتمال کون الموادّ موضوعة للطبائع بما هی موجودة، أو لا موجودة،‏‎ ‎‏فهو باطل، وإلاّ یلزم المجاز فی سلب الوجود عنها، وحمل العدم علیها، فهی ـ أی‏‎ ‎‏الموادّ ـ خالیة بالقطع والیقین من کونها موضوعة للطبیعة الموجودة، أو المعدومة، أو‏‎ ‎‏هما معاً فی اللحاظ.‏

‏فالصلاة والصوم والضرب، موضوعة لنفس الطبائع؛ من غیر إشراب مفهوم‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 225
‏الوجود والعدم، کما یومئ إلیه الإجماع المحکیّ‏‎[2]‎‏ عن السکّاکی: من أنّ المصدر‏‎ ‎‏الخالی من اللام والتنوین، موضوع للطبیعة اللابشرط‏‎[3]‎‏.‏

‏وربّما یظهر من بعضهم: أنّ البحث هنا حول أنّ المطلوب ماذا فی الأوامر، بل‏‎ ‎‏وفی النواهی؟ ولا یکون البحث حول مسألة إنشائیّة لفظیّة، بل البحث حول الفحص‏‎ ‎‏عن المطلوب؛ وأنّه هل هو إیجاد الطبیعة ووجودها، أو نفسها؟‏‎[4]‎

‏وعن ثالث احتمال الثلاثة؛ وأنّ البحث حول أنّ المتعلّق أو المطلوب، هو‏‎ ‎‏الوجود المضاف إلی الطبیعة، أو فردها، أو نفسها؟ لما تقرّر من الفرق بین وجود‏‎ ‎‏الطبیعة وفردها؛ فإنّ وجودها عارٍ من جمیع الخصوصیّات المفرِّدة، وفردَها مشتمل‏‎ ‎‏علیٰ جمیع الخصوصیّات المفرِّدة من المقولات التسع العرضیّة.‏

‏وربّما یقال : کما فی کلام العلاّمة المحشّی ‏‏رحمه الله‏‏: «إنّ المسألة عقلیّة، ونشأت‏‎ ‎‏من أنّ الطبائع بنفسها فی الخارج، أو بمصداقها وبفردها، أو هی ناشئة من بحث‏‎ ‎‏أصالة الوجود والماهیّة جعلاً، لا تحقّقاً، فإن کانت الماهیّة متعلّق الجعل، فهی مورد‏‎ ‎‏الأمر، وإن کان الوجود أصلاً فی الجعل، فهو متعلّق الأمر»‏‎[5]‎‏ وهکذا من الأقاویل‏‎ ‎‏المشروحة فی المطوّلات‏‎[6]‎‏.‏

‏والذی لایکاد ینقضی منه تعجّبی؛ أنّ المادّة عند المحقّقین، لیست موضوعة‏‎ ‎‏إلاّ لنفس الطبیعة، والهیئة لیست إلاّ للبعث نحوها والتحریک إلیٰ جانبها‏‎[7]‎‏، أو لإیقاع‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 226
‏النسبة‏‎[8]‎‏، أو للطلب الفارغ عن قید الوجود والعدم‏‎[9]‎‏، فإذا تعلّقت الهیئة بالمادّة، ولم‏‎ ‎‏یکن هناک وضع علی حدة، فمن أین جاء مفهوم الوجود فی الأوامر، ومفهوم العدم‏‎ ‎‏فی النواهی؟!‏

‏وأمّا إرجاع البحث من مقام الإنشاء والاستعمال، إلیٰ مقام الإرادة والطلب‏‎ ‎‏النفسانیّ‏‎[10]‎‏، فهو فی غایة الفساد؛ لأنّ ماهو متعلّق الأمر فی مقام الإثبات، لایمکن‏‎ ‎‏أن ینقلب إلیٰ أمر آخر، فما هو المأمور به، لیس إلاّ الطبیعة بحسب مقام الإنشاء.‏‎ ‎‏ولو اقتضی البرهان أنّ المقصود الأصلیّ أمر آخر غیرها، ویکون من لوازمها، فهو‏‎ ‎‏لایستدعی تعلّق الأمر به فی مقام الجعل قطعاً.‏

وبعبارة اُخریٰ:‏ الخلط بین متعلّق الأوامر والنواهی، وبین ماهو المطلوب‏‎ ‎‏الذاتیّ والمقصود الأصلّی، أحدث هذه الغائلة بین أربابها وأصحابها، وإلاّ فالأمر هو‏‎ ‎‏الهیئة، ومتعلّقها هی المادّة، ولا شیء وراء هذین الأمرین، فما وجه هذا التشاحّ،‏‎ ‎‏والنزاع الطویل ذیله، والعدیم نفعه؟!‏

وهکذا توهّم :‏ أنّ متعلّق الأمر هو الفرد بمفهومه وعنوانه، لا بواقعیّته‏‎ ‎‏وخارجیّته، فإنّه لایکون متعلّق الأمر، ولا ذاک أیضاً؛ لأنّ الطبیعة لاتکون حاکیة إلاّ‏‎ ‎‏عن معناها.‏

‏نعم، للآمر أن یبعث تارة: إلی وجود الطبیعة، فیقول: «أوجد الضرب»‏‎ ‎‏واُخریٰ: إلیٰ فرده فیقول: «أوجد فرداً من الضرب» بإلغاء خصوصیّة الوجود‏‎ ‎‏الملحوظ مع الهیئة، وثالثة: إلی الطبیعة نفسها فقط.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 227
فتحصّل :‏ أنّ الجهة المبحوث عنها هنا؛ هی أنّ متعلّق الأمر والنهی ماذا؟ وهو‏‎ ‎‏تابع لما جعله المتکلّم موردهما ومصبّهما، ولایعقل الانقلاب فی مقام الإثبات، فلا‏‎ ‎‏وجه لهذا النزاع.‏

‏نعم، هنا نزاع آخر : وهو أنّ المطلوب الأصلیّ؛ وما یتعلّق به الشوق، هل هو‏‎ ‎‏ما تعلّق به الأمر والنهی ظاهراً، أم هو أمر آخر من الوجود والفرد؟ فافهم واغتنم.‏

‏ثمّ إنّ توهّم کون النزاع عقلیّاً، فی غایة السقوط؛ ضرورة أنّ المسائل العقلیّة‏‎ ‎‏المشار إلیها، بعیدة عن أذهان المحقّقین، فضلاً عن غیرهم.‏

‏نعم، فیما جعلناه مطرحاً للبحث یمکن، دعویٰ: أنّ المطلوب هو الوجود‏‎ ‎‏ارتکازاً، وهذا من الشواهد علیٰ أصالة الوجود، کما یأتی‏‎[11]‎‏.‏

وأمّا توهّم :‏ أنّ النزاع لغویّ، فهو أفحش؛ ضرورة أنّ المتبادر من المادّة لیس‏‎ ‎‏إلاّ نفس الطبیعة، والهیئة لیست إلاّ لأحد الاُمور المشار إلیها؛ من البعث، والتحریک،‏‎ ‎‏والطلب، وإیقاع النسبة، من غیر إشراب الوجود فیها. ولذلک تریٰ أنّ المرتکز‏‎ ‎‏العقلائیّ فی شرح قولنا: «اضرب زیداً» هو أطلب وجود الضرب، أو إیجاده، أو‏‎ ‎‏أبعث إلی الإیجاد وهکذا، فیکون الوجود داخلاً فی المتعلّق، مع أنّ الضرورة قاضیة‏‎ ‎‏بعدم اشتمال الطبیعة علی الوجود، فهذا التفسیر ناشئ من المطلوب النفسانیّ، دون‏‎ ‎‏الطلب الإنشائیّ، فلا تخلط.‏

‏إذا عرفت ذلک، وأحطت خبراً بضعف ما قیل أو یقال فی المقام، وتخلیط‏‎ ‎‏الأعلام بین مقام الثبوت والإثبات، فلابدّ من الإشارة إلیٰ شبهة عقلیّة فی المسألة‏‎ ‎‏علیٰ جمیع التقادیر، ولعلّها أورثت ذهاب جمع غفیر إلیٰ صرف الظهور فی مقام‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 228
‏الإثبات، والالتزام بأنّ متعلّق الأمر لیس ماهو المأخوذ فیه ظاهراً‏‎[12]‎‏: وهو أنّ‏‎ ‎‏المحتملات والأقوال فی متعلّق الأوامر والنواهی متعدّدة ومختلفة، والکلّ لایخلو‏‎ ‎‏عن شبهة. ‏والحقّ :‏ کون المتعلّق نفس الطبیعة، کما هو مختار الوالد المحقّق‏‎ ‎‏ـ مدّظلّه ‏‎[13]‎‏ والسیّد الاُستاذ البروجردیّ‏‎[14]‎‏، وهو الظاهر من «الدرر»‏‎[15]‎‏.‏

والشبهة:‏ هی أنّ الطبیعة من حیث هی، غیر وافیة بالغرض، وغیر شاملة‏‎ ‎‏للمصلحة؛ فإنّ المصالح من آثار الوجود، فکیف یعقل کونها متعلّق الأمر؟! فبحکم‏‎ ‎‏العقل متعلّقه الإیجاد والوجود، دون الطبیعة، ودون الفرد؛ لخروج الخصوصیّات‏‎ ‎‏عن الأغراض.‏

‏وربّما یجاب أوّلاً : بالنقض بأنّ الطبیعة بوجودها الخالی من خصوصیّات‏‎ ‎‏مفرّدة فی هذه النشأة، غیر مشتملة علی المصلحة، ولو أمکن فرض التخلیة هنا،‏‎ ‎‏لأمکن هذا الفرض هناک أیضاً.‏

وثانیاً :‏ أنّها وإن کانت من حیث هی لیست إلاّ هی؛ لا مطلوبة، ولا لا‏‎ ‎‏مطلوبة، ولکنّها ـ بلحاظٍ خارج عن ذاتها ـ یتعلّق بها الطلب، ولا یلزم تعلّق الطلب‏‎ ‎‏بوجودها، فما تریٰ فی کتب القوم غیر خالٍ من التحصیل.‏

بل الحقّ :‏ أنّ متعلّق الإرادة والعلم والشوق والمیل النفسانیّ، لیس إلاّ تلک‏‎ ‎‏الماهیّة، لا الأمر الزائد علیها فی اللحاظ الأوّل.‏

‏نعم، فی اللحاظ الثانی توصف بـ «أنّها کذا وکذا» فلأجل کون هذه الاُمور من‏‎ ‎‏الأوصاف ذات الإضافة، لا یلزم کون طرف الإضافة غیر ذات الماهیّة، ففی الأمر‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 229
‏والنهی أیضاً کذلک.‏

ولو قیل :‏ إنّ الطبیعة المبعوث إلیها، قابلة للوجود فی الذهن والخارج، فلو‏‎ ‎‏کان مراد المولیٰ ومطلوبه، نفسَها الأعمّ من الوجود فی النشأتین، یلزم کفایة‏‎ ‎‏تصوّرها الذهنیّ فی سقوط الأمر.‏

‏وإن کان المراد وجودها الخارجیّ، فیختلف متعلّق الأمر والمطلوب الحقیقیّ؛‏‎ ‎‏فإنّ الأوّل هی الماهیّة، والثانی وجودها الخارجیّ، وهو خلاف الظاهر من الدلیل‏‎ ‎‏الناطق: بأنّ المطلوب ما تعلّق به الأمر والبعث من حیث هو هو، فعلیه لابدّ من‏‎ ‎‏التصرّف فیما تعلّق به الأمر، وجعل المتعلّق وجودها الخارجیّ بمفهومه الاسمیّ‏‎ ‎‏مثلاً، کما یأتی‏‎[16]‎‏.‏

‏هذا مع أنّ الطبیعة من حیث هی وإن کانت قابلة لتعلّق الطلب بها، فتصیر‏‎ ‎‏مطلوبة بالأمر الزائد علیٰ ذاتها، ولکنّها خالیة من الصلاح والفساد، فکیف یتعلّق بها‏‎ ‎‏الأمر والنهی؟! فعلیه یکون ما هو المتعلّق فی مرحلة الإنشاء والإثبات، غیرَ ماهو‏‎ ‎‏المطلوب والمقصود فی مرحلة الثبوت والإرادة.‏

أقول :‏ قضیّة ما تحرّر منّا فی تحریر محلّ النزاع؛ أنّ المراد من متعلّق الأمر،‏‎ ‎‏لیس إلاّ ما تعلّقت به الهیئة فی مقام الإنشاء؛ لعدم إمکان تعلّق الأمر بشیء فی مقام‏‎ ‎‏الثبوت، لأنّه لیس من الاُمور التی کانت له مرحلتان: مرحلة الثبوت، والإثبات، بل‏‎ ‎‏هو منحصر بمرحلة واحدة؛ وهی الإثبات، فلا یعقل فی مثل «صلّ» و «اضرب» إلاّ‏‎ ‎‏أن یتعلّق الهیئة بالمفهوم الکلّی؛ والأمر الاعتباریّ والطبیعیّ، ولو شاء الآمر أن‏‎ ‎‏یتعلّق أمره بشیء آخر غیر ذلک، فعلیه أن ینشیٔبوجه آخر، کما مضیٰ سبیله.‏

‏ولکن کون المطلوب الواقعی والمراد الحقیقیّ أمراً آخراً ـ وهو وجودها‏‎ ‎‏الخارجیّ بعنوانه ـ لایستلزم الانقلاب فی متعلّق الأمر؛ لعدم فائدة فی هذا‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 230
‏الانقلاب، وذلک لأنّ مفهوم «إیجاد الطبیعة» کمفهوم «الطبیعة» فی عدم اشتماله علی‏‎ ‎‏المصلحة، وعدم کونه مطلوباً واقعاً؛ فإنّ ماهو المطلوب هو وجودها الخارجیّ،‏‎ ‎‏الذی لایعقل تعلّق الأمر به.‏

فتحصّل إلی هنا :‏ أنّ الشبهة منحصرة فی أنّ الواجب بحسب اللبّ، هل هو‏‎ ‎‏الصلاة والصوم، أم الواجب إیجاد الصلاة والصوم، أم الواجب هی الصلاة بما هی‏‎ ‎‏مرآة للخارج؛ وحاکیة عن الوجود فی الأعیان، مع أنّ المفروض تعلّق الهیئة‏‎ ‎‏بالطبیعة، المقتضی لکون الواجب نفسها، لا أمراً آخر وراءها، أم الواجب فرد‏‎ ‎‏الصلاة والصوم؟!‏

‏وربّما یوجد فی کلام الوالد ـ مدّظلّه : أنّ المتعلّق هی الطبیعة، ولکنّ الطبیعة‏‎ ‎‏لیست طبیعة إلاّ إذا صارت خارجیّة‏‎[17]‎‏.‏

وأنت خبیر :‏ بأنّ ما تعلّق به الأمر لیس إلاّ عنواناً ومفهوماً، کلّما جعل وفی‏‎ ‎‏أیّ صقع من الأصقاع تحقّق، یکون هو ذاک العنوان بالضرورة. وقیاس الطبائع‏‎ ‎‏الأصلیّة بالعناوین الاعتباریّة مع الفارق؛ فإنّ ما قرع سمعه المبارک تامّ ـ فرضاً ـ فی‏‎ ‎‏الماهیّات الأصلیّة، فلا تخلط.‏

‏وربّما یوجد فی کلام شیخه العلاّمة وهو أیضاً: أنّ البعث إلی الطبیعة، یلازم‏‎ ‎‏عرفاً انتقال العبد إلیٰ إیجادها فی الخارج؛ وإلی إتیانها فی عمود الزمان‏‎[18]‎‏.‏

‏وهذا مخدوش بأنّ الأمر وإن کان کذلک، ولکن یلزم ـ بناءً علیه ـ کون البعث‏‎ ‎‏إلی الطبیعة من الکنایات إلیٰ ماهو الواجب والمأمور به؛ وهو الإیجاد، وهذا خلف؛‏‎ ‎‏لأنّ المقصود إثبات أنّ الواجب حقیقة هی الطبیعة، لا الأمر الآخر الملازم معها من‏‎ ‎‏الوجود، أو سائر الخصوصیّات المفرِّدة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 231
فتحصّل إلی هنا :‏ أنّ ما أفاده القوم فی تحریر محلّ النزاع‏‎[19]‎‏ ساقط، وسببه‏‎ ‎‏القصور عن نیل حقائق الاُمور.‏

‏فالمحصول ممّا قدّمنا مع الإطالة التی لاتخلو من الإملال: أنّ العاقل لایمکن‏‎ ‎‏أن یتفوّه بأنّ متعلّق الأمر غیر الطبیعة، مع أنّ المراد من الأمر لیس إلاّ الهیئة،‏‎ ‎‏والمقصود من المادّة لیست إلاّ الطبیعة اللابشرط. فعلیه کلّ من التزم بخلاف ذلک،‏‎ ‎‏فقد حداه إلیه أمر من الاُمور العقلیّة؛ وبرهان من البراهین العقلائیّة:‏

فمن قال :‏ بأنّ المتعلّق هی الطبیعة بما هی مرآة؛ وحاکیة عن الخارج،‏‎ ‎‏ومتّحدة معه، فقد رأیٰ أنّ الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی؛ لا مطلوبة، ولا‏‎ ‎‏لا مطلوبة‏‎[20]‎‏.‏

‏ومن اعتقد بأنّ المتعلّق هو وجودها، ویکون البعث إلیٰ إیجاد ذلک الوجود‏‎ ‎‏فی الأعیان؛ وفی صفحة التکوین، فقد رأیٰ أنّ الطبیعة لا یتعلّق بها الجعل، وهی من‏‎ ‎‏الاُمور الانتزاعیّة المجعولة بالعرض‏‎[21]‎‏.‏

‏ومن ظنّ أنّ المتعلّق هو الفرد، فقد رأیٰ أنّ ماهو ممکن التحقّق فی الخارج‏‎ ‎‏هی الأفراد، لا الطبائع بنفسها‏‎[22]‎‏.‏

ومن قال :‏ بأنّ المتعلّق هی الطبیعة بما هی هی‏‎[23]‎‏، ابتلی بإشکال لم یدفع فی‏‎ ‎‏کلماتهم: وهو أنّ تلک الطبیعة لیست ذات مصالح ومفاسد، مع أنّ قضیّة المذهب‏‎ ‎‏کون متعلّق التکالیف الإلهیّة ذا مصالح ومفاسد.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 232
‏فعلیٰ ما تقرّر إلی هنا، یتوجّه إلی جمیع المقالات إشکال لابدّ من دفعه.‏

‏وأنت بعدما عرفت منّا، تقدر علیٰ دفع توهّم کون المتعلّق هو الفرد؛ ضرورة‏‎ ‎‏أنّ الطبیعة لیست حاکیة عنه، ولا وجودها، بداهة أنّ الوجود لو کان داخلاً فی‏‎ ‎‏الطبیعة، یلزم کونها واجبة الوجود، فینحصر الأمر بالأمرین.‏

‏ولا سبیل إلی الالتزام بأنّ متعلّق الأمر، الطبیعة بما هی مرآة للخارج؛ لعدم‏‎ ‎‏إمکان أخذها عنواناً مشیراً إلی أنّ الخارج متعلّق، فقهراً تصیر هی المتعلّق بالذات.‏

‏ولو اُرید من ذلک التعبیر، إیقاع المخاطب إلی الإیجاد فی الخارج؛ لأنّ‏‎ ‎‏المطلوب خارجیّة الطبیعة، فهو لایتوقّف علیٰ ذلک ، بل لک الاتکال علیٰ فهم العقلاء‏‎ ‎‏من البعث إلی الطبیعة ذلک؛ وأنّ الآمر إذا کان یجد وصوله إلیٰ مرامه بذلک النحو،‏‎ ‎‏فقهراً تصدر منه الإرادة إلیٰ جعل الهیئة متعلّقة بالطبیعة، فلاتخلط.‏

‏والذی هو الحقّ کما اُشیر إلیه‏‎[24]‎‏: أنّ المتعلّق هی الطبیعة، وأنّ الواجب هی‏‎ ‎‏الصلاة والصوم. بل الذی یتعلّق به الإرادة التکوینیّة هی الماهیّات:‏

أمّا الأخیر :‏ فذلک؛ لأنّ الإرادة لو تعلّقت بأمر آخر غیر الطبیعة، یلزم کون‏‎ ‎‏الأمر الآخر هو الوجود لیس إلاّ، فتکون الطبیعة ذات وجود، وهو خلف؛ لأنّها‏‎ ‎‏لیست مع قطع النظر عن الإرادة ، إلاّ هی ؛ لاموجودة، ولا لا موجودة. وهکذا یکون‏‎ ‎‏المطلوب والمعشوق والمتصوّر والمعلوم، نفسَ الطبیعة، لا الأمر الآخر القائم بها.‏

‏نعم، وجود الطبیعة هی الإرادة المتعلّقة بها، ویکون ماهو المجعول بالذات‏‎ ‎‏هی الإرادة، وماهو المجعول بالإرادة وبالعرض هی الطبیعة، فالإیجاد متعلّق‏‎ ‎‏بالطبیعة، ویکون وجود الطبیعة مورد الجعل. هذا کلّه فی الإرادة التکوینیّة؛ من غیر‏‎ ‎‏فرق بین إرادة الربّ والمربوب.‏

وأمّا الأوّل :‏ وهی الهیئات، فإنّها أیضاً متعلّقات بالماهیّات الاعتباریّة،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 233
‏کالصلاة والصوم، أو الحقیقیّة، کالضرب والقتل.‏

‏ولکن میزان الواجب النفسیّ والغیریّ، لیس ما توهّم: «من أنّ الواجب‏‎ ‎‏النفسیّ: هو الذی فیه الملاک والمصلحة، والغیریّ: ما لا یکون کذلک»‏‎[25]‎‏ بل میزان‏‎ ‎‏النفسیّ والغیریّ أمر إثباتیّ؛ أی ما تعلّق به الأمر، ویکون هو المأمور به ـ ظاهراً ‏‎ ‎‏لنفسه، لا لأمر آخر: هو الواجب النفسیّ وإن کان الغرض الأقصیٰ أمراً آخر وراء‏‎ ‎‏ذلک، کما یأتی فی محلّه تفصیله‏‎[26]‎‏.‏

‏فعلیه لا یشترط کون متعلّق الأمر والنهی ذا مصلحة شخصیّة، أو مفسدة، بل‏‎ ‎‏الأوامر والنواهی ـ حسب مذهب العدلیّة ـ لابدّ وأن تکون ذات مصالح ومفاسد وإن‏‎ ‎‏لم یکن فی شخص المتعلّق مصلحة أو مفسدة، فإذا أمر المولیٰ بالصلاة، وکان یریٰ‏‎ ‎‏أنّ المصالح المقصودة تحصل من وجودها، فلا یلزم کون الواجب ومتعلّق الأمر‏‎ ‎‏وجودها، بل انتهاء المتعلّق إلی المصلحة المقصودة، کافٍ فی نفسیّة المتعلّق‏‎ ‎‏ووجوبه؛ وکونِه متعلّق الأمر واقعاً.‏

‏فما قد یتوهّم من الإشکال علیٰ تعلّق الأمر بالطبیعة: من خلوّها من‏‎ ‎‏المصلحة والمفسدة‏‎[27]‎‏، غیر وارد. مع أنّ جماعة من العقلاء یزعمون أنّ المصالح‏‎ ‎‏للطبائع، والوجودَ اعتباریّ، أو بالوجود تظهر آثار الماهیّات، فلا تخلط. فتعلّق الأمر‏‎ ‎‏بالطبیعة ـ حسب الظاهر ـ قطعیّ، وهو حسب الواقع والجدّ أیضاً کذلک.‏

وأمّا الإشکال :‏ بأنّ الهیئة لاتکون باعثة إلاّ نحو ما تعلّقت به؛ وهی الماهیّة‏‎ ‎‏لیست إلاّ، فهو ـ کما اُشیر إلیه‏‎[28]‎‏ـ قابل للدفع: بأنّ الآمر المتوجّه إلیٰ أنّ العقلاء‏‎ ‎‏لایفهمون من ذلک إلاّ لزوم الإتیان بها خارجاً، فلا منع من جعل الأمر متعلّقاً بها،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 234
‏کما أنّه لو جعل متعلّق الأمر وجود الطبیعة، یعلم أنّه ینتقل منه العبید إلیٰ إیجادها،‏‎ ‎‏فالاتکال علی القرائن القطعیّة، دأب قاطبة العقلاء فی محاوراتهم.‏

‏نعم، لو جعل المتعلّق نفس الطبیعة، فالقائل بأصالة الوجود والماهیّة ینبعث‏‎ ‎‏نحوه، کما عرفت، ولو جعل المتعلّق وجودها، فللقائل بأصالة الماهیّة الإباء عنه؛‏‎ ‎‏لأنّ المتعلّق غیر قابل للتحقّق فی الخارج، فافهم وتدبّر جیّداً.‏

إن قلت :‏ هذا یستلزم الاستعمال الکنائیّ أیضاً؛ أی یکون الهیئة ـ بحسب‏‎ ‎‏الإرادة الاستعمالیّة ـ متعلّقة بالمادّة، وبحسب الإرادة الجدّیة متعلّقة بالإیجاد،‏‎ ‎‏فیکون الواجب النفسیّ إیجاد الصلاة، لا الصلاة.‏

قلت :‏ فرق بین الاستعمال الکنائیّ، وبین توقّف الفرار من اللغویّة فی‏‎ ‎‏الاستعمال المطابقیّ، علی انتقال المخاطب إلی الأمر الآخر الملازم له، أو إلی‏‎ ‎‏المطلوب ذاتاً وواقعاً، والأمر فیما نحن فیه من القسم الثانی؛ فإنّ المجعول المطابقیّ‏‎ ‎‏والواجب ـ حسب الإنشاء ـ هی الطبیعة. وکون المراد من ذلک لبّاً أمراً آخر،‏‎ ‎‏لایستلزم الاستعمال الکنائیّ، کما لایخفیٰ.‏

‏مع أنّک قد عرفت : أنّ جعل الماهیّة متعلّق الأمر ـ بداعی حثّ المخاطب إلیٰ‏‎ ‎‏إیقاعها فی الخارج، أو إتیانها خارجاً، أو غیر ذلک من التعابیر ـ هو الأوفق من جعل‏‎ ‎‏أحد المفاهیم المضافة إلیٰ تلک الماهیّة موردَ الأمر‏‎[29]‎‏. مع أنّه أسوأ حالاً من الماهیّة؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّها تأتی فی الخارج، بخلاف مفهوم «الوجود» وأنّها تکون ذات آثار تظهر‏‎ ‎‏بالوجود مثلاً، بخلاف مفهوم «الإیجاد والإیقاع» وغیر ذلک من التعابیر المختلفة.‏

‏فما تریٰ فی کتب القوم‏‎[30]‎‏ غیر صحیح؛ لا عقلاً، ولا عرفاً، لا واقعاً ولبّاً، ولا‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 235
‏ظاهراً وإنشاءً.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 236

  • )) الفصول الغرویّة: 107 / السطر 37.
  • )) قوانین الاُصول 1: 121 / السطر 22، کفایة الاُصول: 100.
  • )) مفتاح العلوم: 93.
  • )) قوانین الاُصول 1: 121 / السطر 19، کفایة الاُصول: 171 نهایة النهایة 1: 196.
  • )) نهایة الدرایة 2: 253 ـ 256.
  • )) لاحظ فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1: 417، نهایة الأفکار 1: 380 381.
  • )) تهذیب الاُصول 1: 346.
  • )) فوائد الاُصول 1: 129.
  • )) کفایة الاُصول: 90 ـ 91.
  • )) أجود التقریرات 1 : 211 ـ 212 ، اُنظر بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 405.
  • )) یأتی فی الصفحة 230 ـ 231 .
  • )) نهایة الأفکار 1 : 380 ـ 381 ، منتهی الاُصول 1 : 268 ، محاضرات فی اُصول الفقه 4 : 12 ـ 13 .
  • )) مناهج الوصول 2: 65، تهذیب الاُصول 1: 343.
  • )) نهایة الاُصول: 240 ـ 241.
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری: 148 ـ 151.
  • )) یأتی فی الصفحة 233 ـ 235 .
  • )) مناهج الوصول 2: 67 ـ 69، تهذیب الاُصول 1: 347 ـ 348.
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 151.
  • )) تقدّم فی الصفحة 225 ـ 226 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1: 404 ـ 405.
  • )) نهایة الدرایة 2: 256 ـ 257.
  • )) مناهج الأحکام والاُصول: 66 / السطر 8 .
  • )) کفایة الاُصول: 171، نهایة النهایة 1: 196.
  • )) تقدّم فی الصفحة 229 .
  • )) کفایة الاُصول: 136.
  • )) یأتی فی الجزء الثالث : 129 ـ 138 .
  • )) لاحظ بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1: 404، نهایة الأفکار 1: 380.
  • )) تقدّم فی الصفحة 229 ـ 230 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 229 ـ 231 .
  • )) الفصول الغرویّة: 107 / السطر 36 ـ 38، کفایة الاُصول: 171، نهایة النهایة 1: 196 ـ 197، نهایة الأفکار 1: 380 ـ 381.