المقصد الثانی فی الأوامر

المقام الرابع : أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

المقام الرابع 

فی أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

‏ ‏

‏المعروف بین أکثر المخالفین أو الأشاعرة فقط، جواز أمر الآمر مع العلم‏‎ ‎‏بانتفاء شرطه‏‎[1]‎‏. والمشهور بین المتأخّرین عدم جوازه‏‎[2]‎‏.‏

‏واختار السیّد المحقّق الوالد ـ مدّظلّه جوازه فی الخطابات الکلّیة القانونیّة‏‎ ‎‏فی الجملة‏‎[3]‎‏.‏

‏وقبل الإشارة إلیٰ ماهو التحقیق فی المسألة، لابدّ من الإشارة إلیٰ مقدّمة‏‎ ‎‏نافعة: وهی أنّ القوم توهّموا أنّ النزاع فی مسألة علمیّة نافعة فی الفقه، وتکون‏‎ ‎‏ـ کسائر المسائل الاُصولیّة ـ قابلة للاستنباط بها فی المسائل الفرعیّة. وخاضوا فی‏‎ ‎‏المراد من عنوان البحث، ومن القیود الواقعة فی محطّ النزاع؛ علی احتمالات ثلاثة‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 237
‏فی کلمة «یجوز» واحتمالات أربعة فی «الشرط» واحتمالین فی «الانتفاء» فبضرب‏‎ ‎‏بعضها ببعض تحصل احتمالات أکثر من عشرین مثلاً. وهکذا.‏

‏غافلین عن أنّ هذه المسألة، جواب عن الشبهة الواقع فیها الناس کلّهم، ولابدّ‏‎ ‎‏لکلّ أحد من دفعها وحلّها، وتلک الشبهة: هی أنّ الله تبارک وتعالیٰ یکون عالماً‏‎ ‎‏بالمکلّفین وحالاتهم، ویکون هو الأمر والمقنّن، وهو الناهی، فإذا کان الأمر کذلک،‏‎ ‎‏فهل یمکن ترشّح الإرادة الجدّیة والأمر الحقیقیّ من العالم بالوقائع؛ وهو عصیان‏‎ ‎‏العبید وطغیانهم، فلا یأتمرون، ولا ینتهون، وعند ذلک کیف یعقل صدور الأمر‏‎ ‎‏والنهی منه جلّ وعلا؟! من غیر اختصاص بالأمر، بل النهی مثله فی الجواز وعدمه.‏

‏فالمراد انتفاء شرط الأمر؛ وهو احتمال الانبعاث ، أو القطع به، أو انتفاء ما‏‎ ‎‏یؤدّی إلی انتفاء هذا الشرط؛ وهو العجز عن المأمور به.‏

وأمّا توهّم :‏ أنّ انتفاء الشرط بعد الإقرار بالشرطیّة، یستلزم انتفاء الأمر، کما‏‎ ‎‏فی «الفصول» و «الکفایة»‏‎[4]‎‏ ففی غیر محلّه؛ ضرورة أنّ من الممکن الالتزام بأنّ‏‎ ‎‏الأوامر الامتحانیّة والإعذاریّة، أمر یورث استحقاق العقوبة، کما مرّ منّا تصدیقه‏‎[5]‎‏،‏‎ ‎‏فلاتخلط.‏

‏وأمّا جعل هذه المسألة من متفرّعات بحث الطلب والإرادة‏‎[6]‎‏، فهو فی غیر‏‎ ‎‏محلّه، ولقد علمت منّا الأدلّة الناهضة علیٰ تعدّد الطلب والإرادة، وما کان فیها هذه‏‎ ‎‏المسألة؛ فإنّها لاتنتهی إلی الالتزام بالتعدّد‏‎[7]‎‏؛ ضرورة أنّ تلک المسألة حول وحدة‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 238
‏الطلب والإرادة، وهذه المسألة راجعة إلی الأمر، وهو مقام الإنشاء والجعل. ولو‏‎ ‎‏کانت من متفرّعات تلک المسألة، کان علی الأشاعرة إنکار إمکان الأمر مع العلم‏‎ ‎‏بانتفاء شرطه، دون الطلب، حتّیٰ یثبت بذلک تعدّد الأمر؛ وهو الإرادة المظهرة مع‏‎ ‎‏الطلب، فما تریٰ فی کتب أصحابنا الاُصولیّـین‏‎[8]‎‏، أیضاً لا یخلو من تأسّف.‏

فبالجملة :‏ البحث فی المقام، یکون حول تصویر إصدار الأمر والنهی من‏‎ ‎‏العالم بانتفاء شرط تنفیذهما، وشرط نافعیّتهما، وعدم کونهما لغواً، وهذا مشکل‏‎ ‎‏وإعضال لابدّ من حلّه، فإرجاع البحث إلی أنّ الأمر مع العلم بانتفاء شرط وجوده،‏‎ ‎‏کما فی «الفصول» و «الکفایة»‏‎[9]‎‏ بعد الاعتراف بالشرطیّة، أو إرجاع البحث إلیٰ فقد‏‎ ‎‏شرط المأمور به والمکلّف به، کما فی کلام جمع آخرین‏‎[10]‎‏، غیر سدید، بل البحث‏‎ ‎‏یرجع إلیٰ أنّ فقد شرط الأمر مع العلم بفقدانه، هل یستلزم امتناع صدور الإرادة‏‎ ‎‏والجدّ من المولی العالم الحکیم، أم لا ؟‏

‏فهذه المسألة سیقت لرفع شبهة عقلیّة، وراجعة إلیٰ مقام الإثبات؛ وهو فرض‏‎ ‎‏علم الآمر بعدم تأثیر الأمر ولغویّته، فکیف یمکن عقاب عصاة الناس، مع عدم‏‎ ‎‏إمکان توجیه الخطاب الجدّی إلیهم؟! من غیر فرق بین الکفّار ومن بحکمهم، ومن‏‎ ‎‏غیر فرق بین کون الحکم الصادر من العالم بانتفاء الشرط أصلاً تکلیفیّاً، أو‏‎ ‎‏وضعیّاً؛ فإنّ جعل الأحکام الوضعیّة، بلحاظ الثمرات المترتّبة علیها، فإذا کان عالماً‏‎ ‎‏بانتفاء الثمرة ـ وهی التکالیف المستتبعة لها ـ لایعقل صدور الجدّ منه إلیٰ جعلها،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 239
‏فلیتدبّر جیّداً.‏

‏ثمّ إنّ انتفاء الشرط تارة : یکون لأجل عصیان المأمور، وخبث سریرته، وأنّه‏‎ ‎‏یعاند الآمر ویستهزئ به.‏

واُخریٰ :‏ یکون لأجل عجزه وجهله. والکلّ شریک فی امتناع توجیه الخطاب‏‎ ‎‏الجدّی إلیهم المستتبع للعقاب.‏

فتحصّل :‏ أنّ المراد لیس انتفاء شرط الأمر مع الإقرار بشرطیّته؛ فإنّه یناقض‏‎ ‎‏نفس العنوان، بل المراد أنّ ما توهّمه المشهور من الشرطیّة لصدور الأمر ـ وهو‏‎ ‎‏احتمال الانبعاث، أو القطع بالانبعاث ـ شرط عامّ، أو یمکن تحقّق الأمر بدونه،‏‎ ‎‏واختار الثانی جماعة‏‎[11]‎‏ وأیّ دلیل أدلّ علی الشیء من وقوعه؟! فإنّ عصاة الناس‏‎ ‎‏یعاقبون علی الفروع والتکالیف، وهی لاتصیر تکلیفاً إلاّ بالأمر الجدّی لا‏‎ ‎‏الامتحانیّ، ولا الإعذاری.‏

‏وبعدما عرفت ذلک یعلم : أنّ مجرّد اشتراک لفظة «الأمر» أورث اختیار هذا‏‎ ‎‏البحث فی الأوامر، وإلاّ فهو أجنبیّ عن المسألة الاُصولیّة.‏

‏نعم، ماهو البحث المنتج: هو أنّ احتمال الانبعاث أو القطع به، من شرائط‏‎ ‎‏تحقّق الأمر، أم لا، وإذا کان هو من الشرائط، فلایمکن وجوده بدونه، وإذا لم یکن‏‎ ‎‏من الشرائط فیمکن، وحیث إنّ التحقیق ـ علیٰ ما مرّ ـ أنّ الأوامر الامتحانیّة‏‎ ‎‏والإعذاریة تکون أمراً واقعاً وحقیقة، وأنّ المیزان المصحّح للعقوبة لیس کون‏‎ ‎‏الأمر بداعی الانبعاث، بل ماهو المصحّح أعمّ من ذلک، فلا منع من تحقّقه بدون‏‎ ‎‏الشرط المزبور.‏

‏هذا کلّه تمام الکلام فی إمکان تصویر الأمر مع فقد الشرط المراد فی العنوان.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 240
‏وأمّا حلّ الشبهة المشار إلیها، فهو من طریقین:‏

الطریق الأوّل :‏ ما مرّ منّا فی مباحث الطلب والإرادة: من أنّ استحقاق‏‎ ‎‏العقوبة، لا یتوقّف علی الأمر بداعی الانبعاث، ولا علیٰ غیره من الأوامر الامتحانیّة‏‎ ‎‏أو الإعذاریة‏‎[12]‎‏؛ فإنّ عدم ترشّح الإرادة الجدّیة من قبل المولیٰ تارة: یکون لأجل‏‎ ‎‏عدم المقتضی فی المتعلّق، أو لوجود المانع.‏

واُخریٰ :‏ یکون لأجل علمه بعدم قیام المکلّف بالوظیفة، فإنّه عند ذلک‏‎ ‎‏یستحقّ العقوبة عند العقلاء بالضرورة؛ لأنّ المکلّف عارف بغرض المولیٰ قهراً،‏‎ ‎‏فلابدّ من القیام علیٰ طبقه، فلایلزم من امتناع أمر الآمر عند فقد شرطه، عدم‏‎ ‎‏استحقاقه العقوبة.‏

الطریق الثانی:‏ ما سلکه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه : من أنّ الخطابات القانونیّة‏‎ ‎‏لاتنحلّ إلیٰ خطابات عدیدة، حتّیٰ یلزم مراعاة شرط الخطاب الشخصیّ فی تلک‏‎ ‎‏الخطابات طرّاً، وذلک الشرط هو احتمال الانبعاث، والمکلّف العاصی والعاجز‏‎ ‎‏والجاهل، غیر مخاطبین بالخطاب الجدّی قطعاً، بل الخطابات القانونیّة لا تنحلّ إلی‏‎ ‎‏الکثیر؛ فیکون الخطاب واحداً، والمخاطب کثیراً.‏

‏فإن کان جمیع المخاطبین فاقدین لقابلیّة التأثیر، فهو خطاب لغو؛ غیر ممکن‏‎ ‎‏ترشّح الجدّ علیٰ طبقه.‏

‏وإن کانوا مختلفین کما هو المتعارف، فإرادة الجدّ مترشّحة علی العنوان‏‎ ‎‏الکلّی المنطبق، ولایکون لأحد عذر عند العلم والقدرة، فیکون الحکم بالنسبة إلی‏‎ ‎‏العصاة جدّیاً مع فقد شرطه، فترتفع الشبهة، وتصیر النتیجة إمکان أمر الآمر مع العلم‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 241
‏بانتفاء شرطه فی بعض المواقف، فلیتدبّر‏‎[13]‎‏.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 242

  • )) شرح العضدی : 106 ـ 107 ، معالم الدین : 85 ، قوانین الاُصول 1 : 126 ، الفصول الغرویّة : 109 / السطر 16 .
  • )) معالم الدین : 85 ، قوانین الاُصول 1 : 124 / السطر 5 ، و125 / السطر الأخیر، کفایة الاُصول : 169 ، نهایة الأفکار 1 : 378 ـ 379 .
  • )) مناهج الوصول 2 : 61 ، تهذیب الاُصول 1 : 340 ـ 341 .
  • )) الفصول الغرویّة: 109 / السطر 17، کفایة الاُصول: 170.
  • )) تقدّم فی الصفحة 27 ـ 31 .
  • )) نهایة الأفکار 1: 379، مناهج الوصول 2: 59 ـ 60.
  • )) تقدّم فی الصفحة 27 وما بعدها .
  • )) قوانین الاُصول 1: 124 ـ 126، الفصول الغرویّة: 109، کفایة الاُصول: 169 ـ 170، بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1: 411 ـ 412.
  • )) الفصول الغرویّة 1: 109 / السطر 17، کفایة الاُصول: 170.
  • )) نهایة الأفکار 1: 378، منتهی الاُصول 1: 267.
  • )) لاحظ مناهج الوصول 2: 60 ـ 61، تهذیب الاُصول 1: 340.
  • )) تقدّم فی الصفحة 31 .
  • )) مناهج الوصول 2: 60 ـ 61، تهذیب الاُصول 1: 340 ـ 342.