الموقف الأوّل
فی أنّ الإجزاء عند الامتثال لیس قهریّاً
المعروف والمشهور بین أبناء التحقیق: أنّ إتیان المأمور به علیٰ قیوده وشرائطه، علّة تامّة لسقوط الأمر وحصول الغرض، فلا معنیٰ للبحث عن الإجزاء بالنسبة إلی الأمر المتعلّق بذلک المأمور به، واقعیّاً کان، أو اضطراریّاً، أو ظاهریّاً.
وبعبارة اُخریٰ : الأمر الداعی إلی الصلاة المائیّة، بعد الإتیان بها یسقط قطعاً، وهکذا ماهو الداعی إلی الترابیّة، أو الطهارة الاستصحابیّة الظاهریّة، فإنّه بمجرّد الإتیان بکلّ واحد منها، لایبقیٰ له أثر، ولا معنیٰ للتعبّد به ثانیاً وثالثاً، من غیر الحاجة إلی البرهان، فکما أنّ الامتثال عقیب الامتثال ممتـنع، کذلک تبدیل الامتثال بالامتثال الآخر ممتنع، والامتثال عقیب العصیان ـ مع فرض وحدة الأمر والطلب ـ ممتنع، وبالعکس.
وکلّ ذلک لملاک واحد؛ وهو أنّ مفهوم «الامتثال» و «العصیان» متقوّمان بالأمر، وحیث لا أمر لسقوطه، لایمکن أن یتحقّق أحد هذین المفهومین ثانیاً.
وأمّا سقوط الأمر بعد الامتثال فهو واضح؛ فإنّه کسقوط الإرادة فی الأفعال المباشریّة، فکما لایعقل بقاء الإرادة مع تحقّق المراد، لا یعقل بقاء الأمر مع تحقّق المأمور به علی الوجه المعتبر، ومع جامعیّته لما اعتبر فیه، وقد مرّ شطر من الکلام
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 268
حول المقام فی مباحث المرّة والتکرار، ولا نعیده. هذا ما عندهم.
وأمّا ما خطر ببال «الکفایة» فهو خروج عن البحث، کما فصّلناه فی السابق، فلانطیله.
وأمّا ما عندنا ، فهو أنّ الامتثال لیس من الاُمور القهریّة، بل هو من الاُمور الاختیاریّة، کسائر الاختیاریّات، وقد شرحنا ذلک فی تلک المسألة مستوفیٰ.
وإجمال ما أقوله هنا : هو أنّ الأمر الصادر فی القوانین الکلّیة، لایسقط بامتثال المأمور؛ ضرورة أنّ ذلک بعث ـ بنحوٍ ـ إلی کلّی، ولایعقل سقوطه؛ بمعنی انخلاع المادّة عن الهیئة، وفناء الهیئة، فلابدّ أن یراد من «السقوط» سقوطه عن الباعثیّة ثانیاً بعد الإتیان بالمأمور به.
فإن کان الموجود فی الأدلّة نفس الدلیل الأوّل، فلا دلیل علیٰ بقاء الباعثیّة بنحو الباعثیّة الإلزامیّة، ولا الباعثیّة الاستحبابیّة والندبیّة؛ أی التی رخّص ترک متعلّقه فی النصّ مثلاً.
وأمّا إذا قام دلیل علیٰ بقاء الباعثیّة الاُولیٰ ـ أی الإلزامیّة ـ فیعلم منه تعدّد الأمر، ویکون خارجاً عن مفروض البحث؛ وهو وحدة الأمر.
وإن قام الدلیل علیٰ بقاء الأمر، مع ترخیص الترک، فلایکون الأمر الثانی غیر الأمر الأوّل؛ ضرورة أنّ وجه البقاء، عدم کون المأتیّ به مستوفیاً لتمام المصلحة، وحیث إنّ المصلحة الندبیّة باقیة، فیبقی الأمر الشخصیّ الأوّل، ویدعو إلیٰ متعلّقه مع الترخیص إلیٰ ترکه، کما تریٰ فی أخبار الصلاة المعادة، فالامتثال الثانی وإن کان یحتاج إلیٰ الأمر قطعاً، إلاّ أنّ الامتثال الأوّل لایورث سقوط الأمر؛ بمعنیٰ إعدامه،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 269
بل یورث سقوطه؛ بمعنیٰ قصور باعثیّته الإلزامیّة، فلاتخلط، واغتنم جدّاً.
فبالجملة : إن اُرید من «الإجزاء» هنا؛ أنّ المأتیّ به الواجد للشرائط، سبب لسقوط الأمر عن الباعثیّة الإلزامیّة، فهو مسلّم، ولاریب فیه؛ للزوم الخلف والمناقضة، وغیر ذلک من التوالی الفاسدة.
وإن اُرید منه سقوط الأمر بالمرّة، وعدم بقاء داعویّته إلی الطبیعة ثانیاً وثالثاً بنحو الندب، فهو ممنوع، ولا نرید من «الامتثال عقیب الامتثال» إلاّ ذلک.
وهذا غیر تعدّد الأمر وانحلاله؛ ضرورة أنّ الأوامر الانحلالیّة تابعة للأغراض المختلفة فی الوجود، وفیما نحن فیه لایکون کذلک. وأیضاً فإنّ الانحلال فیها من أوّل الأمر، فلاینبغی الخلط جدّاً.
وما قیل أو یمکن أن یقال فی بحث الصلاة المعادة من الاحتمالات والوجوه، کلّها بعیدة عن الصواب، وتفصیله فی محالّه.
ثمّ إنّ الأولیٰ والأحسن فی هذه المسألة وجه آخر أبدعناه، وذکرناه سابقاً.
وإجماله : أنّ السقوط کما عرفت؛ بمعنیٰ عدم بقاء الأمر علیٰ صفة الباعثیّة، وهذه الصفة کما تزول بإیجاد المأمور به خارجاً، تعود بإعدام ذلک الفرد واقعاً، أو فی الاعتبار.
مثلاً : إذا قال المولیٰ: «تصدّق بدرهم» فإعطاء الدرهم یورث سقوط باعثیّة الأمر، ولکنّه إذا تمکّن من إعدام ذلک الإعطاء واقعاً؛ بتعقّبه بالمنّ والأذیٰ، أو اعتباراً، تعود تلک الصفة؛ لأنّ معنی الإعدام عدم تحقّق الامتثال.
فإذا ورد فی الشریعة: «یجعلها الفریضة» وورود «وإن شئت فصلّ معهم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 270
واجعلها تسبیحاً» فیعلم أنّ ذلک فی اختیار العبد، فإذا جعل ما أتیٰ به أوّلاً تسبیحاً فکأنّه ما صلّی بعد، فعلیه إعادته وجوباً.
فبالجملة : الإجزاء ـ بمعنیٰ عدم وجوب الإعادة والقضاء، وبمعنی عدم التعبّد ثانیاً، مع قطع النظر عن الدلیل الآخر ـ قطعیّ، وبمعنی امتناع بقاء الأمر الواحد الشخصیّ، أو بمعنی امتناع إعدام الامتثال الأوّل حتّیٰ یوجد محلّ للامتثال الثانی ممنوع، بل هو واقع.
فما اشتهر: «من أنّ الامتثال والإجزاء أمر قهریّ غیر اختیاریّ» صحیح؛ بمعنیٰ أنّ ذلک یؤدّی إلیٰ سقوط الباعثیّة الإلزامیّة مثلاً فی التکالیف الإلزامیّة، أو سقوط الباعثیّة بالنسبة إلی المصلحة الملزمة، أو المصلحة الأهمّ. وهذا لایستلزم سقوط أصل باعثیّته إذا قامت القرینة علیه؛ ضرورة أنّ أوصاف الباعثیّة ـ من الإلزام والندب ـ مستفادة من القرائن الخارجیّة، ولا تستعمل الهیئة إلاّ فیما هو موضوعها؛ وهو التحریک الاعتباریّ.
وغیر صحیح؛ بمعنیٰ إمکان الامتثال عقیب الامتثال، وإمکان تبدیله بالآخر وهکذا، مع اعتبار الوحدة فی الأمر فیما إذا أتیٰ به، ثمّ أعدم وأفنیٰ فی الاعتبار ما أتیٰ به، وهذا هو المقصود فی الباب.
وأمّا لو اُرید من تصویر الامتثال عقیب الامتثال وغیر ذلک، تصویره بدون الأمر، فهو غیر ممکن، وغیر مقصود، کما ذکرنا تفصیله فی مباحث المرّة والتکرار.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 271
ثمّ إنّ المراجعة إلیٰ أخبار الجماعة، والصلاة المعادة، وإلیٰ ما ورد فی صلاة الآیات، یورث الاطمئنان بأنّ کلّ واحدة من الطریقتین اللّتین أشرنا إلیهما، قابلة لحمل المآثیر علیها. ولکن قضیّة ما ورد فی المعادة أنّ الثانیة هی المرادة، وقضیّة ما ورد فی الکسوف أنّ الاُولیٰ مرادة، والله العالم، فلاحظ وتدبّر جیّداً.
وربّما یخطر بالبال دعویٰ : أن الإعادة لایناسب إلاّ مع اعتبار إعدام المأتی به فی الرتبة السابقة کما لایخفیٰ.
ثمّ إنّ مقتضی الطریقة الاُولیٰ أنّ المعادة مستحبّة، والأمرَ الأوّلی والإنشاء الابتدائیّ باقٍ علیٰ نعت الندبیّة؛ لقیام القرینة، وقضیّة الطریقة الثانیة أنّ المعادة تنویٰ وجوباً، وعلیه فتویٰ بعض المعاصرین.
إن قلت : بناءً علی الأخیرة ـ وهی الأوفق بالأدلّة ـ یلزم وجوب المعادة إذا اعتبر عدم الامتثال الأوّل؛ بجعله تسبیحاً وغیر صلاة، والالتزام بذلک مشکل جدّاً.
قلت : لا دلیل علیٰ نفوذ إعدامه وتبدیل الصلاة تسبیحاً إلاّ إذا تعقّبه ـ بحسب الواقع ـ الصلاة المعادة، فإن اعتبره تسبیحاً، ثمّ ترک المعادة، یعلم أنّه لیس تنقلب صلاته بذلک لا صلاة، حتّیٰ یجب علیه الإعادة.
إن قلت : اعتبار الانقلاب یستلزم انعدام الأمر؛ لأنّ ماهو المنقلب هی الصلاة بقصد الوجوب والمأمور بها، فإذا انقلبت انعدم الأمر؛ للتضایف والملازمة.
قلت : قد مضیٰ أنّ الامتثال لا یورث سقوط الأمر، ولا یوصف المأتیّ به
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 272
بالمأمور به بالوصف الخارجیّ، بل معنی السقوط هو سقوط الباعثیّة، وهو یجامع بقاء الأمر الإنشائیّ الذی لا روح له؛ لسقوط الغرض المستلزم لسقوط الإرادة، ولکنّه إذا اعتبر تبدیل الامتثال وجعله تسبیحاً، فلابدّ أن یعود الغرض، وتعود الإرادة، ویکون الإنشاء باعثه.
هذا مع أنّ فی سقوط الغرض بنحو کلّی لا الإرادة، إشکالاً اُشیر إلیه فی الطریقة الاُولیٰ.
ولعمری، إنّ من تدبّر فیما أسمعناکم، لایحصل له إلاّ الاطمئنان بأنّ ظاهر أخبار المسألة ذلک. وفی المسألة (إن قلت قلتات) ترجع إلیٰ جهات فقهیّة خارجة عن هذه المسألة، ومن شاء فلیرجع هناک.
والذی هو المقصود بالبحث: أنّ ما اشتهر فی هذه المسألة، وکان مفروغاً عنه عند الکلّ، مخدوش جدّاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 273