الأقوال فی إجزاء الأمارات وبیان الحقّ
إذا عرفت تلک الجهات فاعلم: أنّ المنسوب إلی الشهرة القدیمة والحدیثة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 306
إلی عصر الشیخ الأعظم الأنصاریّ قدس سره هو الإجزاء فی الأمارات، وظاهر المدّعی عدم الفرق بین أنحاء الأمارات، کما یظهر منه عدم الفرق بین الأمارات فی الأحکام، والموضوعات.
هذا، ویظهر ممّا اُسند إلی الشهید؛ أنّ القول بالإجزاء من التصویب المجمع علیٰ بطلانه.
وحیث إنّ المسألة هنا تدور مدار القاعدة العقلیّة؛ من غیر النظر إلیٰ خصوصیّات اُخر من الأدلّة اللفظیّة فی بعض المرکّبات، أو الإجماع فی بعض، فلابدّ من النظر إلیٰ ماهو قضیّة الصناعة العلمیّة.
والمعروف بین أبناء الفضل والتحقیق فی العصر عدم الإجزاء، وقد خالفهم السیّد الاُستاذ البروجردی قدس سره وکان یصرّ علی الإجزاء، وکنّا من أوّل الأمر نوافقه، وکان ذلک عندنا من الواضحات.
فنقول : إنّ هذه المسألة، من متفرّعات مسألة کیفیّـة الجمع بین الأحکام الظاهریّة والواقعیّة، فإن قلنا هناک: بانحفاظ الحکم الواقعیّ علیٰ ما هو علیه من الجدّ والإلزام فی جمیع النواحی، فلابدّ من القول بعدم الإجزاء؛ لأنّ الطرق لیست إلاّ معذّرات ومنجّزات.
وإذا قلنا : بعدم انحفاظ الأحکام الواقعیّة فی مرتبة الحکم الظاهریّ، ومع الترخیص والإمضاء والرضا بالطرق المؤدّیة إلیٰ خلافها أحیاناً، فلابدّ من القول بالإجزاء؛ وذلک لامتناع الجمع بینهما عقلاً، فإنّه لایعقل ترشّح الإرادة الجدّیة من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 307
المولی الملتفت إلیٰ جعل السورة مثلاً جزءً علیٰ جمیع التقادیر، مع عدم رفع الید عن جزئیّتها، سواء أدّت الأمارة إلیها، أو أدّت إلی خلافها، ومع ذلک یترشّح منه الإرادة والرضا بجعل الطرق والأمارات، بل یجب علیه حینئذٍ السکوت، وإحالة الأمر إلی العقل، وإعلام عدم الرضا بالطرق، أو جعل الاحتیاط.
وثمرة هذا القول هو الالتزام بأنّ الطرق والأمارات منجّزات عند الإصابة، ولیست معذّرات؛ لعدم بقاء الإرادة علیٰ حالها، کما لایخفیٰ.
إذا أحطت خبراً بما تلوناه علیک، یظهر لک: أنّ دلیل الإمضاء وإظهار الرضا، لایفرّق بین الأمارات التی لایکشف خلافها، أو التی کشف خلافها؛ لوحدة الدلیل والإمضاء، فإذن لایفهم العقلاء من تلک الأدلّة، إلاّ أنّ الشرع الأقدس فی مورد المخالفة، رفع الید عن الواقع، وانصرف عن مطلوبه الأعلیٰ؛ لمصالح عالیة من حفظ النظام، ومن تسهیل الأمر، وترغیب الناس إلیٰ أساس الدیانة والإسلام، وغیر ذلک.
وبعبارة اُخریٰ : الجمع بین الحکم الواقعیّ والظاهریّ فی مورد الأمارات، لایمکن ثبوتاً إلاّ بما اُشیر إلیه، وهو مختار السیّد، والوالد المحقّق ـ مدّظلّه أیضاً.
وتوهّم : أنّه من التصویب المجمع علیٰ بطلانه، فی غیر محلّه. مع أنّ الإجماع علیٰ أمر غیر معقول، لایورث شیئاً، ولذلک التزم صاحب «الکفایة» قدس سره بأنّ الحکم الواقعیّ إنشائیّ، وهذا یرجع إلیٰ عدم إرادة جدّیة علی الحکم الواقعیّ.
وأمّا الإجزاء فیمکن دعویٰ عدمه هنا؛ لأنّه لا مانع من الالتزام برفع الید عن الواقع؛ بالنسبة إلیٰ ما لا ینکشف خلافه.
مثلاً : إذا قام دلیل علیٰ عدم وجوب السورة، أو عدم مفطریّة الارتماس، أو عدم لزوم طهارة ماء الوضوء، أو علیٰ أنّ القبلة هکذا، أو غیر ذلک من الأحکام
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 308
والموضوعات الوضعیّة والتکلیفیّة، وکان بحسب الواقع تجب السورة وهکذا فی الصلاة وغیرها، فإنّ الترخیص فی التطرّق والعمل بالأمارات غیر المنکشفة إلیٰ آخر العمر، أو آخر الوقت المضروب للطبیعة، لایعقل مع بقاء الجدّ والإرادة الإلزامیّة علی الشرطیّة، فقهراً بالنسبة إلیها تضمحلّ الإرادة.
ولکن بالنسبة إلی الأمارة التی تنکشف فی أثناء الوقت ـ بحسب الواقع واللبّ ـ لاتضمحلّ الإرادة، بل الواقع محفوظ، فلایکون حینئذٍ تصویب اصطلاحیّ إلاّ فی صورة واحدة، فعلیه تجب الإعادة، ویجب القضاء إذا تبیّن خارج الوقت، وقام دلیل علیٰ تعدّد المطلوب؛ لأنّه بحسب التصوّر کان قد رفع الید عن مصلحة الوقت، ولکنّه لایرفع الید عن مصلحة الطبیعة.
فبالجملة : لا إلزام ثبوتاً بالإجزاء، ولکنّه یتمّ إثباتاً بعد وحدة دلیل إمضاء الأمارة، وبعد عدم تعرّض الشرع للأمارات التی ینکشف خلافها، فإنّه عند ذلک لایفهم إلاّ رفع الید بمجرّد قیام الأمارة.
إن قلت : إذا کان الإجماع علیٰ بطلان التصویب، وکانت بعض الروایات المتعرّضة لإمضاء الطرق والأمارات، ناظرةً إلی المعذّریة والمنجّزیة، فالقدر المتیقّن من لزوم رفع الید هو المتعیّن، وهو ما إذا لم ینکشف خلافه، وأمّا لو کشف الخلاف حتّیٰ بعد الموت، فیترتّب آثار الأحکام الواقعیّة، ویجب علی الوصیّ العمل بوظائفه، وعلی الولد الأکبر قضاء ما فات منه، وهکذا.
قلت : أمّا الإجماع المزبور، فلایفید إلاّ بطلان التصویب قبال التخطئة، وهذا ممّا لا یقول به الإمامیّة، والذی نقول به هو صرف نظر الشرع عن الواقع فیما نحن فیه؛ لأمر أهمّ، وهذا ممّا لا دلیل علیٰ بطلانه.
هذا مع أنّ حجّیة الإجماع المزبور ممنوعة؛ لما یظهر من الشیخ فی «العدّة»
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 309
أنّ المسألة عقلیّة، لا شرعیّة، فراجع.
وأمّا توهّم دلالة مثل قوله علیه السلام: «لا عذر لأحد من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا» علی المعذّریة والمنجّزیة، ولا معنیٰ للمعذّریة إلاّ محفوظیّة الأحکام الواقعیّة فی رتبة الظاهریّة، وإلاّ فلا حکم حتّیٰ یسأل عنه، ویحتاجَ العبد إلی الاعتذار بتأدیة الطرق خلاف الواقع، فهو غیر سدید؛ ضرورة أنّه دلیل علیٰ منجّزیة الطرق، وأنّه إذا قامت الطرق وخبر الثقة علیٰ حکم، فلا عذر لأحد فی ترک العمل به؛ باحتمال عدم کونه موافقاً للواقع، فإنّه لایکون عند الإصابة معذوراً، وأمّا أنّ الطریق عذر عند المخالفة فلا یستکشف منه، إن لم نقل بدلالته علیٰ منجّزیتها فقط، فما تریٰ فی حاشیة العلاّمة المحشّی قدس سره فی غیر محلّه.
فتحصّل : أنّ قضیّة وحدة دلیل الأمارات ـ بعد کونها مستلزمة لصرف النظر؛ ورفع الید عن الواقع فی صورة عدم کشف الخلاف ـ هو الإجزاء عرفاً حتّیٰ فی صورة کشف الخلاف، فتکون الأمارات منجّزات، لا معذّرات.
وبعبارة اُخریٰ : یمکن دعویٰ أنّ فهم العقلاء والعرف فی الجمع بین الأحکام الواقعیّة والظاهریّة یختلف ، فإن لاحظنا النسبة بین الواقعیّات النفسیّة ـ کوجوب صلاة الجمعة، ووجوب الحجّ، وغیر ذلک ـ وبین أدلّة تنفیذ الطرق والأمارات، تعیّن وأن یقال بانحفاظ الواقع مع إمکان الاستیفاء، فلو دلّ دلیل علیٰ عدم وجوب شیء نفسیّ، ثمّ قبل مضیّ وقته تبیّن وجوبه، فإنّه لامعنیٰ لرفع الید عن الواقع.
وأمّا إذا لاحظنا النسبة بین الأحکام الغیریّة، وتلک الأدلّة، فحیث إنّ الأمر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 310
الداعی إلی الطبیعة، یدعو إلیها فی جمیع الوقت، فلا یستفاد من الجمع بین هذه الأدلّة إلاّ أنّه إذا صادف دلیل الأمارة الواقعَ فهو، وإلاّ فقد رفع المولیٰ یده ـ لمصالح عن واقعه ومطلوبه، وحینئذٍ یکون الناقص والمأتیّ به الفاقد للشرط والجزء والواجد للمانع، مسقطاً لأمره المتعلّق بالطبیعة.
إن قلت : لا دلیل علیٰ حجّیة الأمارات والطرق، إلاّ إمضاء الشرع والسکوت وعدم الردع، وعند ذلک یتعیّن الأخذ بإطلاق الأحکام الواقعیّة وانحفاظها حتّیٰ یخرج وقتها، ولایتمکّن العبد من امتثالها، وعلیٰ هذا یلزم التفصیل بین الأمارات الإمضائیّة، وبین الأمارات التأسیسیّة، کالاستصحاب مثلاً، وفتوی الفقیه، وغیرهما ممّا قام الدلیل الشرعی علیٰ حجّیته علیٰ نعت حجّیة الأمارات.
قلت أوّلاً : قد تواترت النصوص علیٰ حجّیة خبر الثقات والعدول، ومن شاء فلیرجع إلیٰ مقدّمات کتاب «جامع الأحادیث» للاُستاذ البروجردی قدس سره.
وثانیاً : العقلاء یستکشفون من السکوت رضا الشرع بالطرق، فلابدّ وأن یتوجّهوا إلی المناقضة بین الواقعیّات، وهذا الرضا والطیب، فینتقلوا منه إلیٰ صورة التخلّف عن الواقع، ومنه إلیٰ سکوت الشرع حذاء ذلک، فإنّه یعلم من ذلک عدم الفرق بین الصورتین: صورة عدم انکشاف الخلاف، وصورة کشف الخلاف، فلیتأمّل جیّداً.
وإن شئت قلت : إنّا إذا راجعنا دلیل الصلاة ووجوبها من أوّل الوقت إلیٰ آخره، ودلیل عدم وجوب السورة مثلاً فیها، ودلیلَ جواز العمل بخبر الثقة، لانجد إلاّ أنّ الشرع أراد من إیجاب العمل بقوله؛ وترخیصِ التبعیّة له، التسهیلَ علی العباد، ولا یکون للتسهیل معنیٰ محصّل إلاّ جواز ترتیب آثار الواقع علی الصلاة بدون السورة، وإلاّ یلزم وجوب الإعادة ، وهو خلاف المنّـة المرعیّـة فی ذلک.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 311
مثلاً : إذا قام دلیل علیٰ عدم وجوب السورة، ودلیلٌ علیٰ عدم وجوب جلسة الاستراحة، ودلیل علیٰ عدم شرطیّة الإجهار فی المغرب، ودلیل علیٰ عدم مانعیّة شعر المیتة وهکذا، فقام وصلّی صلاة کذائیّة، ثمّ بعد ساعة تبیّن وجوب السورة فأعاد، وبعد ساعة اُخریٰ تبیّن وجوب جلسة الاستراحة وهکذا، فهل تریٰ من نفسک صحّة نسبة هذا إلی الشرع المبعوث بالشریعة السهلة السمحة؟!
وتوهّم عدم اتفاق ذلک، لایستلزم صحّة النسبة؛ لأنّ القانون لابدّ وأن یکون بحیث لایلزم منه أمثال هذه اللوازم.
ولو کانت تجب الإعادة فی الوقت، ویجب القضاء خارج الوقت، وعلی الولد الأکبر بعد الموت، کان علیه أن یأمر بالاحتیاط إلی أواخر الوقت، أو یقول بعدم جواز الاتکاء إلاّ علی البیّنة، وغیر ذلک؛ حتّیٰ یحافظ علیٰ حکمه الواقعیّ.
ولایستلزم مثل هذه المحاذیر هذا، ولاسیّما فیما إذا تعیّن العمل بخبر الثقة، کما فی ضیق الوقت، فإنّه لو لم یرفع الید عن السورة مثلاً فی ضیق الوقت، فلایکون ترخیص العمل بخبر الثقة، إلاّ لحفظ مصلحة الوقت؛ وأنّه لمکان احتمال الإصابة یجب علیه الطبیعة؛ لإمکان تدارک الوقت، مع أنّ الضرورة قاضیة بأنّ ترخیص الشرع فی العمل بالطرق والأمارات، لیس إلاّ قبال إیجاب الاحتیاط، المستلزم لوقوع الاُمّة الإسلامیّة فی الصعوبة، أو کان یؤدّی أحیاناً إلی الانزجار عن أساس الدیانة.
ومن هنا یظهر وجه القول بالإجزاء بالنسبة إلیٰ خارج الوقت، وعدم الإجزاء بالنسبة إلی الأداء والإعادة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 312