شبهات علی إجزاء الأمارات والاُصول وجوابها
وهاهنا شبهات علی القول بالإجزاء، لابدّ من دفعها، وتتوجّه إلی الأمارات والاُصول:
منها : لو کان مفاد الأمارات عند الشکّ فی طهارة شیء ونجاسته، هو الکاشفیّة التکوینیّة بحسب طبعها، ولکنّ هذا المقدار غیر کافٍ لجواز ترتیب الآثار
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 338
علی الکشف، بل لابدّ من لحوق إمضاء الشرع لها، وهو یرجع إلی الترخیص فی البناء العملیّ علیٰ طبقها.
فإذا ورد: «صدّق العادل» فمعناه أنّه ابن علی طهارة الثوب والماء المشکوکین، وهکذا، فبناءً علیٰ هذا، یلزم طهارة ملاقیه، فیصیر الثوب طاهراً، وما لاقاه لیس بنجس؛ لعدم ملاقاته إلاّ للطاهر. ولأنّ من شرائط مطهّریة الماء کونه طاهراً، فإذا ورد من الشرع لزوم البناء العملیّ علیٰ طبقها، فلابدّ من الأخذ بآثارها، ومنها ذلک، وهذا فی الاُصول بطریق أولیٰ.
وتوهّم عدم توجّه هذه الشبهة إلی مَن یقول بالطهارة الظاهریّة العذریّة عند الشکّ، غیر صحیح؛ لأنّ قضیّة ادعاء الطهارة هو ترتیب آثارها إجمالاً، ومقتضیٰ إطلاق الادعاء ترتیب جمیع الآثار، ومن الآثار البارزة فی الماء طهارة ملاقیه، وعدم نجاسة ما لاقاه تعبّداً أو ادعاءً ولو انکشف الخلاف.
وتوهّم : أنّ طهارة الملاقی لیست من آثار الملاقاة شرعاً، فی غیر محلّه؛ لأنّ المقصود هو عدم لزوم ترتیب آثار النجاسة علی الملاقی بعد الملاقاة، وهذا غیر ممکن بعد تعبّد الشرع بطهارة الملاقیٰ بالفتح.
منها : بناءً علیٰ هذا، یلزم الإجزاء فی الوضوء والغسل والتیمّم، وکلّ شیء اشترط بالطهارة فی تأثیره، أو موضوعیّته للأثر، مثل طهارة الأرض لمطهّریته، والتراب لمطهّریته فی الولوغ، وهکذا کطهارة المعقود علیه. ویلزم عدم لزوم الإعادة بالنسبة إلیٰ ذات الطهارات الثلاث؛ لأنّها وقعت من أوّل الأمر صحیحة، ولایلتزم بهذه التوالی أحد من الفقهاء.
منها : یلزم بناءً علی الإجزاء، صحّة العقد والإیقاع واقعاً ولو کان علی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 339
المحرّمات الرضاعیّة والنسبیّة، مثلاً لو عقد علیٰ من شکّ فی حصول رضاعه، ثمّ تبیّن الخلاف، أنّه یصحّ العقد، ویترتّب علیه آثاره.
وهکذا لو استصحب مالکیّة زید لفلان، ثمّ باعه، ثمّ تبیّن الخلاف، صحّ البیع، ویجوز له ترتیب آثار ملک زید حتّیٰ بعد الانکشاف، وهکذا من الأشباه والنظائر.
منها : بناءً علیٰ أنّ النجاسة مانعة عن صحّة البیع فی الأعیان النجسة، ویلتحق بها المتنجّسات غیر القابلة للتطهیر، فلو شکّ، وأجرینا البراءة الشرعیّة عن المانعیّة؛ بناءً علیٰ عدم کونها مثبتة هنا، کما فی المرکّبات العبادیّة، فیصحّ البیع، ویترتّب علیه الآثار إلی الأبد، ویصیر المشتری مالکاً للمثمن، وهکذا.
منها : لو صحّ الإجزاء یلزم جواز أکل الذبیحة إذا اتکل علیٰ أصل من الاُصول فی صحّة الذبح ظاهراً، ثمّ تبیّن الخلاف، مثلاً لو شکّ فی إسلام الذابح واستصحب، أو فی حدیدیّة القاطع فاستصحب، أو فی بقاء القابلیّة فاستصحب، ثمّ تبیّن خلاف الکلّ، فإنّه یترتّب آثار الحلّیة حتّیٰ بعد التبیّن.
ومن هنا یظهر الشبهات الاُخر الکثیرة فی أدوار الفقه علیٰ هذا المعنی الحدیث.
ومنها : إنکار الضمان إذا أتلف مال الغیر؛ بتوهّم أنّه ماله استصحاباً، فتأمّل.
ومنها : الإجزاء فی مستثنیٰ قاعدة «لاتعاد...» فلو صلّیٰ باستصحاب الطهور، أو باستصحاب بقاء الوقت، ثمّ تبیّن الخلاف، فلایعید، مع أنّ ضرورة الفقه علیٰ خلافه.
ومنها : غیر ذلک.
أقول : قد یشکل تارة: بأنّ الاُصول الجاریة فی کثیر من الأمثلة المزبورة مثبتة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 340
وفیه : أنّ ذلک ممنوع إلاّ فیما شذّ. مع أنّ الاستصحاب عندنا حجّة فی مثبتاته. والإشکالات مشترکة الورود بین الأمارات والاُصول، فلابدّ من حلّ هذه المعضلات.
واُخریٰ : بأنّ قضیّة ما سلف من اشتهار القول بالإجزاء حتّیٰ فی الأمارات، هو الالتزام بهذه الاُمور.
وفیه : أنّ القدر المتیقّن منها فی الصلاة ، ولا دلیل علیٰ ذهاب الإمامیّة إلیٰ الإجزاء فی مطلق المرکّبات، ولعلّ استنادهم فیها إلیٰ قاعدة «لاتعاد...» القواعد العامّة، فلیتأمّل جیّداً.
والذی هو الحقّ : أنّ وجه الإجزاء فی الأمارات کان أمراً وحیداً، وهو الاستظهار من أدلّة تنفیذها بأنّ الشرع المقدّس، لایکون ملتزماً بواقعیّاته علیٰ کلّ تقدیر، وقد فرغنا من سدّ ثغوره، فأذن إن أمکن فی کلّ مورد الالتزام بالإجزاء فهو، وإلاّ فیعلم من الخارج أنّ الواقع محفوظ علیٰ جمیع التقادیر.
وبعبارة اُخریٰ : الواقعیّات مختلفة المراتب: فطائفة منها محفوظة علیٰ جمیع التقادیر؛ بحیث لایجوّز الشرع العمل علیٰ طبق الأمارات والاُصول، بل یوجب الاحتیاط والتورّع.
وبعض منها یرخّـص فی العمل علیٰ طبق الأمارات، دون الاُصول.
وبعض منها یرخّص علی الإطلاق، ولکنّه بعد انکشاف الخلاف یعلم أنّه لایتجاوز عن واقعه.
وبعض منها یکون مورد التجاوز، ولایوجب الإعادة والقضاء، کما فی مثل الصلاة مثلاً بالنسبة إلیٰ کثیر من أجزائها وشروطها، وهکذا.
فعلیٰ هذا، إن لم یقم دلیل من الإجماع والعقل أو النقل علیٰ محفوظیّة تلک الواقعیّات، فقضیّة القاعدة الأوّلیة هو الإجزاء، فالتفکیک ـ بناءً علیٰ هذا ـ بین
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 341
الأحکام المهتمّ بها، وبین غیرها، ممکن جدّاً.
ومن تلک الأمارات هو الاستصحاب علیٰ رأینا، فإذا رأینا أنّ مفاد النصوص الخاصّة؛ هی الإعادة بعد التوجّه إلیٰ فقد الصلاة للطهور والوقت، فیعلم من ذلک: أنّ الشرع ملتزم بذلک، ولایکون رافع الید عنه، فاغتنم. فکثیر من الإشکالات المزبورة، کان منشؤها التمسّک بالاستصحاب، ویکون طریق الحلّ والدفع منحصراً بذلک.
وأمّا مجرّد استیحاش الفقهاء فی العصر عن الالتزام بأمر، فهو غیر کافٍ للکشف عن الأهمیّة عند الشرع، ولذلک یمکن الالتزام بحلیّة الذبیحة بعد انکشاف الخلاف فی الموارد التی أشرنا إلیها، هذا فی الأمارات.
وأمّا الاُصول، فقد عرفت منّا وجوهاً للإجزاء، وکان أوّل هذه الوجوه الوجه الذی اخترناه للإجزاء فی الأمارات، فعلیٰ هذا فی مورد الاُصول أیضاً یمکن التفکیک کما لایخفیٰ.
وعلیٰ هذا، لایتوجّه الشبهة الاُولیٰ إلینا؛ لأنّ رفع الید عن الواقعیّات الأوّلیة فی موارد الأمارات والاُصول، لایورث الحکم بطهارة ملاقی النجس، أو الحکم بعدم نجاسته؛ لأجنبیّة ذلک عمّا هو المقصود.
نعم، یلزم رفع الید عن شرطیّة طهارة الماء فی الوضوء وغیره، وعن شرطیّة طهارة الثوب فی الصلاة، لا عن شرطیّة طهارة الماء فی رفع النجاسة عن الثوب الملاقی إیّاه.
ولو قلنا : بأنّه یلزم علیه رفع الید عن شرطیّة الصلاة بالطهور، لا عن شرطیّة الوضوء بالماء الطاهر، کان أولیٰ؛ لأنّه بناءً علیه یلزم علیه الوضوء للصلاة الآتیة، وتجب علیه إعادة الصلاة وقضاؤها؛ لأنّها تکون صلاة بلا طهور، وقضیّة المستثنیٰ فی قاعدة «لاتعاد...» وبعض النصوص الاُخر، أهمیّة هذا الشرط، فیعلم من هنا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 342
عدم رفع الید عن واقعه؛ وهو اشتراط الصلاة بالوضوء.
وممّا یؤیّد ذلک: أنّ ما هو المطلوب النفسیّ، هو المقیاس فی المقام، لا المطلوبات الغیریّة، کالطهارات الثلاث.
فعلیٰ ما تقرّر هنا، ارتفعت الشبهة الثانیة أیضاً؛ لأنّ التوسّع فی الواقعیّات والانصراف عنها بمقدار الضرورة؛ واللاّزم بحکم العقل، فلا معنیٰ للحکم بطهارة باطن القدم أو الولوغ، بل غایة ما یغمض الشرع عنه نظره هی القیود المعتبرة فی الواجبات النفسیّة.
فهذه الطریقة قابلة للدفع بها عن الشبهات کلّها، مثلاً فی مثل العقود والإیقاعات، لامعنیٰ لتصحیح الشرع إیّاها، حتّیٰ یترتّب علیها آثار الصحّة من الأوّل إلیٰ حین الکشف، أو إلی الأبد، بل الشرع یرفع الید عن المحرّم والمبغوض الذی له فی البین؛ وهو النظر إلی الأجنبیّة، والدخول علیها، والتصرّف فی مال الغیر بغیر الإذن؛ لأنّ ما لا یجامع الترخیص فی العمل بالأمارات والاُصول ذلک، لا ذاک، فلو تبیّن الخلاف، وعلم فقد العقد أو الإیقاع للجزء أو الشرط، فلابدّ من إعادته.
وفی مثل رفع مانعیّة النجاسة عن صحّة العقد قرضاً، یرفع الید عن حرمة أکل الثمن، فلا معنیٰ للبناء علی الصحّة.
وفی مثل الذبح بغیر الشرائط الأوّلیة، یرفع الید عن حرمة أکل الذبیحة الفاسدة، لا نجاستها، وهکذا.
فبناءً علیه تبیّن إلیٰ هنا : أنّ القول بالإجزاء فی الأمارات والاُصول، لایستلزم هذه الشبهات رأساً؛ لما أنّ الوجه فی ذلک، غیر الوجوه التی توهّمها الأصحاب قدس سرهم.
وأمّا بناءً علیٰ بعض الوجوه فی الإجزاء فی الاُصول، فالشبهة تختصّ بطائفة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 343
القائلین بالإجزاء. ولکن قد عرفت : أنّ الإجزاء هو مقتضیٰ جمیع التقاریر فی مفاد قاعدة الحلّ والطهارة، فلابدّ من دفعها، ویدور الأمر بین أحد أمرین :
إمّا إنکار إطلاق القاعدتین، بل وحدیث الرفع ؛ بدعویٰ : أنّ مطلق الآثار، لیس مرفوعاً، ولا مترتّباً علی الحلال والطاهر الظاهریّین، واختیار الإجزاء علی الوجه الذی فصّلناه.
وإمّا الالتزام بهذه التوالی؛ بدعویٰ عدم الدلیل علیٰ بطلانها، والله العالم.
وعلیٰ کلّ تقدیر لا سبیل للفرار عن الإجزاء فی الجملة. وفیما یلزم منه الفقه الجدید لایلتزم به؛ للنصّ الخاصّ مثلاً، فلاتخلط.
فتحصّل إلی هنا : أنّ الإجزاء لایکون إلاّ من وجهین :
أحدهما : إسقاط شرطیّة ماهو الشرط حال الجهل؛ وعدم الاطلاع علی الواقع.
ثانیهما : إثبات واجدیّة المأتیّ به للشرط؛ لأنّه أعمّ من الشرط الواقعیّ الأوّلی.
فإن التزمنا بالأوّل، لایلزم شبهة إلاّ بعض ما دفعناها فی تقریر أصل المسألة. وإن التزمنا بالثانی، یلزم الشبهات العدیدة التی لایمکن الفرار عنها إلاّ بالالتزام بها.
وغیر خفیّ : أنّه بناءً علیٰ ما سلکناه من الإجزاء، لابدّ من القول به فی جمیع خصوصیّات المأمور به فی جمیع أبواب الفقه، کالحجّ، والصوم، والخمس، والزکاة مثلاً، فإذا امتثل حسب الأدلّة، فأدّیٰ وظیفته فی الوقت المضروب له، ثمّ تبیّن نقصان ما أتیٰ به، فهو یجزی عن الواقع والکامل. نعم فیما لا وقت له شرعاً، بحث یأتی إن شاء الله تعالیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 344