المقصد الرابع فی المفاهیـم

الوجوه الموجبة للتصرّف فی الإطلاق المثبت للمفهوم والانحصار

الوجوه الموجبة للتصرّف فی الإطلاق المثبت للمفهوم والانحصار

‏ ‏

‏إذا تبیّن محلّ البحث وحدود الخلاف ومعضلة المسألة، فما یمکن أن یکون‏‎ ‎‏وجهاً لکون الإطلاق المنتهی إلی إثبات الانحصار والمفهوم، مورد التصرّف دون‏‎ ‎‏غیره اُمور:‏

الأوّل :‏ أنّ استفادة العلّیة للمقدّم بالنسبة إلی التالی، مستندة إلی الوضع أو‏‎ ‎‏القرائن الخاصّة، دون الإطلاق ومقدّماته، فیکون التصرّف فیها علیٰ خلاف تلک‏‎ ‎‏القرائن التی مرّ تقریبها‏‎[1]‎‏، فلابدّ وأن یتعیّن التصرّف فی ناحیة الإطلاق المنتهی إلیٰ‏‎ ‎‏إثبات الحصر.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 64
وفیه أوّلاً :‏ أنّک قد عرفت منّا فی بعض التنبیهات السابقة‏‎[2]‎‏، إمکان التصریح‏‎ ‎‏بالعلّة فی القضیّة الشرطیّة، وهو یورث سقوط القضیّة عن إثبات المفهوم بالقضیّة‏‎ ‎‏الشرطیّة، ویشهد علیٰ أنّ استناد التالی إلی المقدّم بالعلّیة، یکون بالإطلاق وعدم‏‎ ‎‏التصریح بالعلّة.‏

‏وماهو الدلیل الوحید عندی فی استناد التالی فی القضایا الشرطیّة الشرعیّة‏‎ ‎‏إلی المقدّم؛ هو کون التالی حکماً إنشائیّاً، لا إخباریّاً، وعلیٰ هذا لیست القرینة‏‎ ‎‏المزبورة إلاّ عدم التصریح بالعلّة الواقعیّة.‏

‏فتوهّم الدلالة الوضعیّة للأداة‏‎[3]‎‏ والهیئة‏‎[4]‎‏ وغیرها لإثبات أصل العلّیة، غیر‏‎ ‎‏راجع إلیٰ المحصّل.‏

‏نعم، لو قلنا: بأنّها موضوعة لها یتعیّن ذلک، کما لو قلنا بأنّها موضوعة لإفادة‏‎ ‎‏العلّیة المنحصرة الأعمّ من الانحصار الحقیقیّ ـ بناءً علیٰ إمکان مثل ذلک الوضع ـ‏‎ ‎‏لایلزم من التصرّف المزبور مجازیّة وتصرّف فی أصالة الحقیقة.‏

‏وهکذا إذا قیل: بأنّ مقتضی الانصراف هو انحصار العلّة علی الوجه الأعمّ من‏‎ ‎‏الحقیقیّ، فإنّه لایلزم منه القصور فی الانصراف المدّعیٰ فی المسألة، خلافاً لما فی‏‎ ‎‏«تهذیب الاُصول»‏‎[5]‎‏ والأمر سهل جدّاً.‏

وثانیاً :‏ لنا أن نقول؛ بأنّ استفادة العلّیة بالإطلاق دون الانحصار، فإنّه مستند‏‎ ‎‏إلی القاعدة العقلیّة، فیتعیّن التصرّف فی ناحیة الإطلاق المنتهی إلیٰ إثبات العلّیة،‏‎ ‎‏دون مایثبت به الانحصار.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 65
‏نعم، من إسقاط العلّیة یلزم سقوط الحصر، کما یأتی الکلام حوله إن شاء‏‎ ‎‏الله تعالیٰ.‏

الثانی :‏ ما فی کلام العلاّمة المحشّی «وهو أنّ رفع الید عن إطلاق الحصر،‏‎ ‎‏أهون من رفع الید عن أصل الحصر فتدبّر»‏‎[6]‎‏ انتهیٰ.‏

وبالجملة :‏ إنّ التصرّف فی أصالة الاستقلال تصرّف فی أصل الحصر،‏‎ ‎‏والتصرّف فی أصالة الانحصار تصرّف فی إطلاق الحصر، وفی ذلک الدوران یتعیّن‏‎ ‎‏الثانی؛ أخذاً بحفظ الظهورات علیٰ حدّ الإمکان، من غیر أن یکون ذلک خروجاً عن‏‎ ‎‏الجمع العقلائیّ.‏

وفیه :‏ منع الصغریٰ بأنّ التصرّف فی العلّیة والاستقلال، لیس هدماً لأصل‏‎ ‎‏الحصر؛ لأنّ القضیّة باقیة علیٰ إفادة الحصر، ویکون مفادها بعد الجمع نفی العلّة‏‎ ‎‏الثانیة، کما عرفت فی ابتداء البحث.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ ترجع القضیّتان إلیٰ قضیّة «إذا خفی الجدران والأذان فقصّر»‏‎ ‎‏ولها المفهوم النافی بالضرورة. هذا أوّلاً.‏

وثانیاً :‏ أنّ التصرّف فی أصالة الاستقلال، لاتوجب الإخلال بمفاد أصالة‏‎ ‎‏الحصر؛ وهو أنّ الحکم المذکور فی التالی مستند إلی العلّة الواحدة؛ ضرورة أنّ ذلک‏‎ ‎‏محفوظ، لأنّ ترکّبها لاینافی وحدتها، بخلاف التصرّف فی أصالة الانحصار، فإنّه‏‎ ‎‏یوجب أن یکون للحکم المزبور علّتان، فتأمّل جیّداً.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ التصرّف فی أصالة الاستقلال، لایورث حمل الحصر علی‏‎ ‎‏الحصر الإضافیّ، بل یکون الحصر باقیاً علیٰ حقیقته، وتکون العلّة ذات جزءین،‏‎ ‎‏وأمّا التصرّف فی أصالة الحصر فیوجب حمل الحصر علی الإضافیّ.‏

الثالث :‏ أنّ مقتضی المکاذبة والتکافح بین المنطوقین؛ هو العلم الإجمالیّ:‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 66
‏بأنّ القضیّتین الشرطیّتین إمّا ترجعان إلی القضیّة الشرطیّة الواحدة المعطوفة ب«الواو»‏‎ ‎‏وهو قوله: «إذا خفی الأذان والجدران فقصّر» أو ترجعان إلی القضیّتین المعطوفتین‏‎ ‎‏بـ «أو» وهو قوله: «إذا خفی الأذان أو خفیت الجدران فقصّر».‏

‏وهذا العلم الإجمالیّ قابل للانحلال؛ لأنّ التصرّف إمّا یقع فی أصالة الحصر،‏‎ ‎‏أو فی أصالة الاستقلال، فإن وقع فی أصالة الحصر فهو.‏

‏وإن وقع فی أصالة الاستقلال فیلزم منه أیضاً التصرّف فی أصالة الحصر أیضاً‏‎ ‎‏بالضرورة؛ لأنّ خفاء الجدران إذا لم یکن مستقلاًّ، فلایعقل الانحصار بالنسبة إلیه،‏‎ ‎‏فیتولّد هناک علم تفصیلیّ بالتصرّف فی أصالة الحصر، وشکّ بدویّ فی التصرّف فی‏‎ ‎‏أصالة الاستقلال، فیرجع إلیٰ أصالة الإطلاق لحفظ الاستقلال، دون الإطلاق‏‎ ‎‏المنتهی إلی إثبات الحصر، کما هو الظاهر.‏

فبالجملة :‏ قضیّة انحلال العلم الإجمالیّ إلی العلم التفصیلیّ والشکّ البدویّ،‏‎ ‎‏هی المحافظة علیٰ أصالة الإطلاق والاستقلال فی ناحیة الشکّ فی التصرّف فی‏‎ ‎‏العلّیة التامّة، ویتعیّن التصرّف فی ناحیة الإطلاق وأصالة الانحصار‏‎[7]‎‏.‏

أقول :‏ ربّما یقال إنّ هذا العلم التفصیلیّ المتولّد من العلم الإجمالیّ، لایتمکّن‏‎ ‎‏من حلّه؛ لما یلزم منه الدور والخلف‏‎[8]‎‏، کما تحرّر فی بحوث الأقلّ والأکثر‏‎[9]‎‏،‏‎ ‎‏واختار ذلک «الکفایة» هناک‏‎[10]‎‏، وأیّده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ‏‎[11]‎‏.‏

‏نعم، فی بعض الأحیان لا منع من الالتزام بانحلاله حکماً؛ نظراً إلی التفکیک‏‎ ‎‏بین الأحکام الواقعیّة والظاهریّة، فیجری الأصل لنفی الزائد بغیر معارض، کما فی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 67
‏الأقلّ والأکثر، وأمّا فیما نحن فیه فلیس النظر إلی إجراء الاُصول العملیّة فی مورد‏‎ ‎‏الشکّ البدویّ، بل المقصود هو التمسّک بأصالة الإطلاق العقلائیّة، وهو غیر ممکن.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ بناء العقلاء أیضاً علیٰ أصل آخر؛ وهو حمل کلّ کلام‏‎ ‎‏علی الإطلاق إلاّ ما اُحرز خلافه.‏

‏ولأحدٍ أن یقول: إنّه إحراز أعمّ من الإحراز التفصیلیّ، وفیما نحن فیه کذلک،‏‎ ‎‏فتأمّل جیّداً.‏

‏والذی هو الأقویٰ فی النظر کما أشرنا إلیه فی ذیل الوجه الثانی؛ هو أنّ تقیید‏‎ ‎‏أصالة الاستقلال والتصرّف فیها، لایوجب التصرّف فی أصالة الانحصار، کما أنّ‏‎ ‎‏التصرّف فی أصالة الانحصار، لایوجب شیئاً فی أصالة الاستقلال، فلا علم تفصیلیّ‏‎ ‎‏وشکّ بدویّ فی المقام.‏

‏أمّا الثانی فواضح.‏

‏وأمّا الأوّل؛ فلأنّ مفاد مقدّمات الإطلاق المنتهی إلی حصر العلّة، لیس إلاّ‏‎ ‎‏أنّ للحکم المذکور فی التالی علّة واحدة، وأمّا أنّ تلک العلّة هل هی خفاء الأذان،‏‎ ‎‏أم شیء آخر؟ فهو خارج عن عهدة ذلک الإطلاق وداخل فی عهدة أصالة الإطلاق‏‎ ‎‏المنتهی إلیٰ أنّ شخص خفاء الأذان علّة التقصیر.‏

‏فما توهّمه القوم : من أنّ التصرّف المزبور یورث التصرّف فی أصالة‏‎ ‎‏الانحصار، منشؤه تخیّل أنّ الإطلاق المنتهی إلیٰ أصالة الانحصار، یفید أنّ شخص‏‎ ‎‏الخفاء علّة منحصرة، مع أنّ دخالة شخص خفاء الأذان، مستندة إلی الإطلاق‏‎ ‎‏المنتهی إلیٰ أصالة الاستقلال.‏

‏ویتّضح ما ذکرناه بالنظر إلیٰ أنّ أصالة الانحصار إذا کانت مستندة إلی القاعدة‏‎ ‎‏العقلیّة، فکما یکون إثبات أنّ شخص الخفاء علّة تامّة علیٰ عهدة أصالة الاستقلال،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 68
‏والقاعدة لیست متعرّضة إلاّ لإفادة معنی کبرویّ، کذلک أصالة الانحصار لیست‏‎ ‎‏متعرّضة لحدود العلّة الشخصیّة، بل العلّة الشخصیّة مستفادة من الإطلاق الآخر،‏‎ ‎‏فافهم واغتنم وتدبّر.‏

‏فعلیٰ هذا، من التصرّف فی أصالة الاستقلال یلزم ترکّب العلّة، وتکون أصالة‏‎ ‎‏الانحصار باقیة علیٰ حالها، وهو أنّ الحکم المزبور له العلّة الواحدة، وهی بعد‏‎ ‎‏التصرّف هی خفاء الأذان والجدران معاً، فتبقیٰ أصالة الانحصار الحقیقیّ باقیة.‏

‏وإذا تصرّفنا فی أصالة الانحصار، یلزم انقلاب الانحصار الحقیقیّ إلی‏‎ ‎‏الإضافی؛ للزوم کون الحکم المزبور ذا علّتین؛ هما خفاء الأذان، وخفاء الجدران.‏

‏ومن هنا یظهر مواضع النظر فی کلمات العلاّمة المحشّی‏‎[12]‎‏، وتقریرات‏‎ ‎‏الکاظمیّ‏‎[13]‎‏، و«تهذیب الاُصول»‏‎[14]‎‏ وغیره‏‎[15]‎‏.‏

وإن شئت قلت :‏ إنّ أصالة الانحصار فی کلّ واحد منهما، تنادی بأنّ العلّة‏‎ ‎‏وحیدة، ولا تنادی بأنّ خفاء الأذان علّة وحیدة، وعندئذٍ بالتصرّف فی أصالة‏‎ ‎‏الاستقلال، لایلزم التصرّف فی أصالة الانحصار؛ لانحفاظ ندائهما بعد، کما تریٰ.‏

الرابع :‏ أنّ تقیید العلّة التامّة وجعل الشرط جزء العلّة، یستلزم تقیید‏‎ ‎‏الانحصار أیضاً؛ فإنّه لایعقل الانحصار مع کونه جزء العلّة، وهذا بخلاف تقیید‏‎ ‎‏الانحصار، فإنّه لایلزم منه تقیید العلّة التامّة کما لایخفیٰ، فیدور الأمر بین تقیید‏‎ ‎‏واحد وتقییدین، ومعلوم أنّ الأوّل أولیٰ.‏

‏وما فی تقریرات الکاظمیّ ‏‏رحمه الله‏‏: «من أنّ تقیید العلّة التامّة یوجب رفع موضوع‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 69
‏الانحصار، لا أنّه یوجب تقییداً زائداً، کما مرّ فی تقیید الهیئة والمادّة»‏‎[16]‎‏ غیر‏‎ ‎‏متحصّل؛ ضرورة أنّ الانحصار والعلّیة التامّة یمکن أن یثبتا فی عَرْض واحد،‏‎ ‎‏ولایصیر أحدهما موضوعاً للآخر.‏

‏بل قد عرفت : أنّ معنی الانحصار لیس إلاّ نفی العلّیة للآخر، وربّما لایکون‏‎ ‎‏من الأوصاف الثبوتیّة للشیء حتّیٰ یکون له الموضوع المفروض‏‎[17]‎‏، فلاتخلط.‏

‏فالجواب ما عرفت منّا؛ من إنکار أصل لزوم التقییدین من تقیید أصالة‏‎ ‎‏الاستقلال.‏

الخامس :‏ أنّ رتبة تقیید العلّة التامّة متقدّمة علیٰ رتبة تقیید الانحصار؛‏‎ ‎‏لوضوح أنّ کون الشیء علّة منحصرة أو غیر منحصرة، إنّما یکون بعد کون الشیء‏‎ ‎‏علّة تامّة، ومقتضیٰ تقدّم الرتبة هو إرجاع القید إلی العلّة التامّة، وجعل الشرط جزء‏‎ ‎‏العلّة‏‎[18]‎‏.‏

‏وما فی التقریرات : «من أنّ تقدّم الرتبة لاینفع بعد العلم الإجمالیّ بورود‏‎ ‎‏التقیید علیٰ أحد الإطلاقین، ولیس تقدّم الرتبة موجباً لانحلاله کما لایخفیٰ»‏‎[19]‎‎ ‎‏أیضاً فی غیر محلّه؛ ضرورة أنّ من یتمسّک بهذا الوجه یرید إحیاء الارتکاز بحلّ‏‎ ‎‏المشکلة من طریقه، ومن ناحیة العرف بأنّ حکم العقلاء فی أمثال المقام لیس‏‎ ‎‏الإجمال، بل العقلاء یرجعون القید إلیٰ أصالة الانحصار، دون الأصل الآخر؛ سواء‏‎ ‎‏انحلّ به العلم الإجمالیّ، أم لم ینحلّ؛ فإنّه خروج عن محیطهم، فلیتدبّر.‏

وإن شئت قلت :‏ نظر المستدلّ تحلیل العلم، وأنّ العرف ـ لأجل تلک الرتبة ـ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 70
‏یحکم بأنّ أصالة الانحصار متعیّنة للتصرّف، دون أصالة الاستقلال، وبذلک یکشف‏‎ ‎‏حدود الإرادة الجدّیة، وأنّ المجعول استقلال کلّ واحد من المقدّمین فی العلّیة.‏

‏والذی هو الجواب : أنّ صفة الانحصار إمّا لیست صفة ثبوتیّة، أو لا تکون‏‎ ‎‏معلول صفة العلّیة حتّیٰ یتأخّر عنها بالرتبة؛ ضرورة أنّ التأخّر والتقدّم بالرتبة‏‎ ‎‏لایتصوّر بین کلّ شیء مع ملازمه، فربّما تعتبر الصفتان المزبورتان معاً للموضوع‏‎ ‎‏الواحد، کما عرفت فی الوجه السابق.‏

السادس :‏ أنّ الموجب لوقوع المعارضة إنّما هو ظهور کلّ من القضیّتین فی‏‎ ‎‏الانحصار، دون الاستقلال، فما هو السبب الوحید وما هو منشأ المکاذبة أولیٰ‏‎ ‎‏بالتصرّف من غیره‏‎[20]‎‏.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ إنّ أصالة الاستقلال فی کلّ واحد منهما، لاتمنع الاُخریٰ،‏‎ ‎‏بخلاف أصالة الانحصار، فلا معنیٰ للتصرّف فیما لایوجب المکاذبة، بل یتعیّن‏‎ ‎‏التصرّف فیما هو المنشأ لها والسبب المولّد لتلک المعارضة؛ وبذلک تنحلّ المشکلة.‏

‏ولایقاومه ما قیل: «من أنّ العلم الإجمالیّ باقٍ علیٰ حاله»‏‎[21]‎‏ لما عرفت أنّ‏‎ ‎‏نظر المستدلّ إلیٰ حلّه حسب فهم العقلاء بأنّ من ذلک التقریب یستکشف محطّ‏‎ ‎‏التصرّف والتقیید، وینحلّ العلم انحلالاً حقیقیّاً طبعاً.‏

وإن شئت قلت :‏ مجرّد إمکان رفع المعارضة بالتصرّف فی أصالة الاستقلال‏‎ ‎‏لو کان کافیاً؛ بدعوی العلم الإجمالیّ کما ادعوه‏‎[22]‎‏، لکان لنا أن نقول: بأنّ رفع‏‎ ‎‏المعارضة یمکن بالتصرّف فی أصل علّیة المقدّم للتالی، وقد مرّ منّا: أنّ إثبات أصل‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 71
‏العلّیة أیضاً مستند إلی الإطلاق، دون الوضع‏‎[23]‎‏.‏

‏وتصیر النتیجة علیٰ هذا: أنّ قضیّة العلم الإجمالیّ رجوع القید إمّا إلیٰ أصالة‏‎ ‎‏الإطلاق المنتهیة إلیٰ إثبات أصل العلّیة، أو إلیٰ أصالة الإطلاق المنتهیة إلی‏‎ ‎‏الاستقلال فی العلّیة، أو إلیٰ أصالة الانحصار، ولا مرجّح لکون أحدهما المعیّن‏‎ ‎‏مرجعاً للقید المزبور.‏

‏ولکن کما أنّ ظهور القضیّة فی أصل علّیة المقدّم بالنسبة إلی التالی ـ الذی‏‎ ‎‏هو حکم شرعیّ ـ محفوظ کما عرفت‏‎[24]‎‏، کذلک ظهور القضیة بالنسبة إلیٰ أصالة‏‎ ‎‏الاستقلال محفوظ، ولا موجب لسریان الإخلال إلیه، ولایجوز بعد کون منشأ‏‎ ‎‏المکاذبة هو الظهور الثالث لها، وهو ظهورها فی الانحصار، ولایبقیٰ حینئذٍ لدعوی‏‎ ‎‏العلم الإجمالیّ محلّ ولا مقام، فافهم وتأمّل تأمّلاً تامّاً؛ فإنّه من مزالّ الأقدام.‏

‏ ‏

وهم ودفع

‏ ‏

‏ربّما یخطر بالبال أن یقال: بأنّ ما یتراءیٰ فی کلماتهم من الإطلاقین ـ‏‎ ‎‏الإطلاق المنتهی إلیٰ إثبات العلّیة التامّة، والإطلاق المنتهی إلیٰ إثبات الانحصار ـ أو‏‎ ‎‏ثلاثة إطلاقات، أو ثلاث أصالات ـ أصالة العلّیة، أصالة الاستقلال، وأصالة‏‎ ‎‏الانحصار ـ أو أکثر من ذلک‏‎[25]‎‏، کلّه خال من التحصیل، ولیس هناک إلاّ إطلاق واحد‏‎ ‎‏ومقدّمات واحدة، منتهیة إلی أنّ الشرط هی العلّة التامّة، ولا شیء آخر یکون علّة.‏

‏فکما أنّ فی قولک : «أعتق رقبة مؤمنة» لاتنعقد ثلاث مقدّمات للإطلاق،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 72
‏ولاتنعقد الإطلاقات الثلاثة أو الأربعة، بل المقدّمات الواحدة تنتج أنّ مطلق العتق‏‎ ‎‏واجب، ومطلق الرقبة المؤمنة واجب عتقها، ویکون الوجوب نفسیّاً... إلیٰ آخره،‏‎ ‎‏کذلک الأمرهنا، ولایجوز ملاحظة کلّ واحد منها مستقلاًّ، وترتیب المقدّمات الخاصّة‏‎ ‎‏المنتهیة إلی إطلاقه مستقلاًّ أیضاً، بل هناک مقدّمات واحدة منتهیة إلی_' ثبوت الإطلاق‏‎ ‎‏فیالکلام من کلّ ناحیة؛ من ناحیة الهیئة، والمادّة، والموضوع وغیرها، کما لایخفیٰ.‏

أقول :‏ هذا فی غایة المتانة بالنسبة إلی المتعلّق والموضوع، وأمّا بالنسبة إلی‏‎ ‎‏الحکم فلا؛ وذلک لما تقرّر منّا‏‎[26]‎‏: من أنّ الإطلاق المتمسّک به لإثبات الوجوب‏‎ ‎‏النفسیّ... إلیٰ آخره، غیر الإطلاق المتمسّک به لإثبات أنّ الطبیعة بنفسها تمام‏‎ ‎‏الموضوع، ولا شریک ولا بدیل لها، فإنّ الإطلاق الأوّل یرجع إلی الانصراف،‏‎ ‎‏والإلقاء بلا قید لایثبت به القسم الخاصّ من الجامع لو کان فی البین جامع،‏‎ ‎‏والإطلاقَ الثانی هو الإطلاق المصطلح علیه فی المطلق والمقیّد، المنتهی إلی إثبات‏‎ ‎‏أنّ ماهو المتعلّق تمام الموضوع، وماهو الموضوع هو تمام المراد، ولا شریک ولا‏‎ ‎‏بدیل فی البین.‏

‏وفیما نحن فیه الإطلاق المتمسّک به لإثبات علّیة المقدّم للتالی هو الإطلاق‏‎ ‎‏الأوّل، والإطلاق المتمسّک به لإثبات أنّ الشرط والمقدّم تمام الموضوع ولا شریک‏‎ ‎‏له هو الثانی، ولاینبغی الخلط بینهما.‏

‏وبناءً علیٰ هذا، تکفی المقدّمات الواحدة لإثبات أنّ الشرط والمقدّم تمام‏‎ ‎‏الموضوع، ولاشریک له، وبتلک الواحدة یثبت الإطلاق للکلام من کلّ جانب، فلابدّ‏‎ ‎‏حینئذٍ من النظر إلی الجانب المنتهی إلی المعارضة فی المقام حتّیٰ یتصرّف فیه.‏

‏فلا معنیٰ للعلم الإجمالیّ بورود القید إمّا علی الإطلاق الکذائیّ، أو الإطلاق‏‎ ‎‏الکذائی، إمّا بأصالة الاستقلال، أو أصالة الانحصار، بل نعلم بورود القید علی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 73
‏الإطلاق الواحد المزبور الثابت للکلام الواحد من کلّ جهة شکّ فی إطلاقه، فإذا‏‎ ‎‏قامت القرینة الخارجیّة علی الإخلال فی جانب یؤخذ به معیّناً، ولا شبهة فی أنّ‏‎ ‎‏ذلک هو الجانب المنتهی إلی المکاذبة والمعارضة، دون غیره.‏

وبالجملة تحصّل :‏ أنّه إمّا لا معنیٰ للعلم الإجمالیّ، أو علیٰ تقدیر وجوده فهو‏‎ ‎‏منحلّ حسب فهم العرف وحکمه؛ بأنّ المرجع للقید هیأصالة الانحصار، دون غیره.‏

الوجه السابع :‏ أنّ التصرّف فی أصالة الانحصار لایستلزم فساداً، وأمّا‏‎ ‎‏التصرّف فی أصالة الاستقلال فیستلزم کون کلّ واحدة من القضیّتین متضمّنة حین‏‎ ‎‏الصدور لجزء العلّة، وهو إخلال بالغرض البعید عن ساحة المولیٰ، وإلقاء فی‏‎ ‎‏الخلاف. وحمل ذلک علیٰ بعض المصالح حمل علیٰ خلاف الأفهام الابتدائیّة.‏

وقد مرّ :‏ أنّ الأصحاب ‏‏رحمهم الله‏‏ فی موقف استفادة علّیة المقدّم للجزاء علّیة تامّة،‏‎ ‎‏قد أقرّوا بهذا الإطلاق، وبنوا علی أنّ إنکاره یوجب الإخلال بالغرض‏‎[27]‎‏، بخلاف‏‎ ‎‏الإطلاق المنتهی إلیٰ إثبات أصالة الانحصار. ولو أمکن المناقشة فی هذا الأخیر،‏‎ ‎‏ولکن الإنصاف أنّ المحصول منه ومن الوجه السادس؛ هو تعیین التصرّف فی أصالة‏‎ ‎‏الانحصار، فلاحظ واغتنم.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 74

  • ))تقدّم فی الصفحة 29 .
  • ))تقدّم فی الصفحة 50 ـ 51 .
  • ))معالم الدین : 80 ، مطارح الأنظار : 170 / السطر 35 ـ 36 .
  • ))الفصول الغرویّة : 147 / السطر 26 .
  • ))تهذیب الاُصول 1 : 433 .
  • ))نهایة الدرایة 2 : 420 .
  • ))مناهج الوصول 2 : 191 .
  • ))مناهج الوصول 2 : 191 ـ 192، تهذیب الاُصول 1 : 434 .
  • ))یأتی فی الجزء الثامن : 26 ـ 27 .
  • ))کفایة الاُصول : 413 .
  • ))أنوار الهدایة 2 : 297، تهذیب الاُصول 2 : 338 ـ 340 .
  • ))نهایة الدرایة 2 : 419 ـ 420 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 489 .
  • ))تهذیب الاُصول 1 : 434 .
  • ))نهایة الأفکار 2 : 485 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 489 .
  • ))تقّدم فی الصفحة 47 ـ 48 .
  • ))لاحظ فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 489 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 489 .
  • ))أجود التقریرات 1 : 424 ـ 425 ، الهامش 1 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 489، تهذیب الاُصول 1 : 434 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 488، أجود التقریرات 1 : 424، نهایة الأفکار 2 : 484، مناهج الوصول 2 : 191 .
  • ))تقّدم فی الصفحة 62 .
  • ))تقدّم فی الصفحة 63 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2: 487 ـ 489، حاشیة کفایة الاُصول، المشکینی 2 : 293، نهایة الدرایة 2 : 419 ـ 420 ، نهایة الأفکار 2 : 484 ـ 485، مناهج الوصول 2 : 190 ـ 191 .
  • ))تقدّم فی الجزء الثانی 190 ، وفی هذا الجزء : 26 .
  • ))تقدّم فی الصفحة 27 ـ 28 .