المبحث الرابع فی مفهوم الغایة
لو کان القانون مشتملاً علیٰ أداة الغایة کـ «حتّیٰ» و «إلیٰ» فهل یستفاد منه أنّ الحکم المزبور فی المنطوق، منتفٍ بالنسبة إلیٰ ما بعد الغایة بسنخه، بعد وضوح انتفائه بشخصه، أم لا؟
أقوال :
ثالثها : التفصیل بین کون الغایة راجعة إلیٰ حدّ الموضوع فلا تدلّ، وکونها راجعة إلیٰ حدّ الحکم فتدلّ.
والمشهور ذهبوا إلی الأوّل.
ونسب إلی العلمین السیّد والشیخ الثانی، وهو مختار جمع من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 147
المتأخّرین، ومنهم صاحب «الدرر» قدس سره فی اُخریات عمره.
ورابعها : التفصیل بین کون الحکم المغیّا منشأ بالآلات الأدویّة والحروف الإیجادیّة، وبین کونه منشأ بالأسماء الکلّیة، ومثلها الحروف؛ بناءً علی کون الموضوع له فیها الکلّی والمعنی العامّ.
وأمّا التفصیل بین ما بعد الغایة، ونفس الغایة، وأن القضیّة المغیّاة تدلّ علی ارتفاع سنخ الحکم بالنسبة إلیٰ ما بعدها دونها؛ لأنّها داخلة فی المغیّا، فهو راجع إلیٰ مسألة اُخریٰ تأتی إن شاء الله تعالیٰ فی ذیل هذه المسألة، لأنّه بحث خارج عن مقصد المفاهیم، ولایکون من مباحثه، وإن کان من یعتقد بدخول الغایة فی المغیّا لایقول بارتفاع سنخ الحکم عنها، لأنّها محکومة بشخص الحکم حسب المنطوق، فلاحظ.
ومن العجیب أنّ جمعاً من الأعلام رحمهم الله توهّموا: أنّ تحریر النزاع فی مفهوم الغایة، منوط بتحریر هذه المسألة!! مع أنّها أجنبیّة عن بحث المفاهیم رأساً؛ لأنّ النظر هنا إلیٰ مسألة کلّیة، من غیر ارتباطها بدخول الغایة فی المغیّا وعدمه.
إذا عرفت ذلک فلیعلم : أنّ النزاع مقصور بصورة إمکان اتصاف ما بعد الغایة بحکم المغیّا، وأمّا إذا امتنع ذلک فلا وجه للنزاع؛ ضرورة أنّ مقتضی الامتناع انتفاء الحکم بسنخه قطعاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 148
مثلاً : فی قولهم علیهم السلام : «کلّ شیء حلال حتّیٰ تعرف الحرام» أو «کلّ شیء طاهر حتّیٰ تعلم أنّه قذر» لایمکن النزاع؛ لامتناع اتصاف ما بعد الغایة بحکم المغیّا وهی الحلّیة والطهارة، فعلیه تکون الحلّیة والطهارة منتفیتین بسنخهما بعد معروفیّة الحرمة والنجاسة، ولا یعقل جعل الحلّیة والطهارة لما بعد الغایة.
فما تریٰ فی کلماتهم قدس سرهم من البحث حول هذه الغایة؛ وأنّها غایة الحکم مثلاً، فهو خارج عن الجهة المبحوث عنها فی المقام، فالبحث مقصور بأمثال «سر من البصرة إلی الکوفة» أو «اغسلوا أیدیکم إلی المرافق» أو فی القضایا الإخباریّة حول «سرت من البصرة إلی الکوفة» ممّا یمکن أن یتکفّل دلیل آخر لإثبات الحکم المماثل علیه.
وبعبارة اُخریٰ : انتفاء سنخ الحکم فی تلک القضایا واضح بالضرورة، ولا حاجة إلی الاستدلال، فما هو مورد النزاع هو ما یکون محتاجاً إلی الاستدلال مقابل من یقول بالإهمال.
إذا تبیّنت هذه المقدّمة الوجیزة، فالذی هو الأقرب إلی النظر مقالة العلَمینوسیظهر فی طول البحث تمامیّة هذه المقالة؛ لما سیتبیّن وجه الأقوال وما فیها.
وأمّا ما یوجّه به هذه المقالة؛ وهو أنّ القضایا الإنشائیّة والإخباریّة فی هذه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 149
المرحلة واحدة، وإذا راجعنا إلی الإخباریّة وقولهم: «سرت من البصرة إلی الکوفة» فلا نجد منه ـ مضافاً إلی الإخبار بالسیر ما بینهما ـ إخباراً آخر عن عدم السیر ما بعد الکوفة، ولا یجوز إسناد ذلک إلی المتکلّم المخبر بأنّه أخبر خبرین:
أحدهما : الإخبار عن سیره من البصرة إلی الکوفة.
وثانیهما : الإخبار عن عدم سیره من الکوفة إلیٰ ما بعدها. وهذا واضح بالضرورة.
وأمّا التحدید فربّما یکون لجهات اُخر کثیرة؛ فربّما کان سیره إلیٰ ما بعدها، ولکن لایهتمّ بنقله وإخباره أو غیر ذلک.
وهذا من غیر فرق بین اختلاف تعابیره، فلو قال: «کان سیری بین البصرة والکوفة» أو قال: «بین البصرة والکوفة سرت» أو قال: «من البصرة سرت إلی الکوفة» أو غیر ذلک، فإنّ الکلّ مشترک فی ذلک، ولایمکن فی المحاکم العرفیّة وعند القاضی دعویٰ إقراره بعدم السیر بعد الغایة، حتّیٰ یناقض إقراره بالسیر بعدها.
ومن هنا یعلم : أنّ هذه الأدوات لیست موضوعة للدلالة المزبورة، ولا هیئة الجملة المذکورة دالّة علیها، ولا منصرفة إلیها.
وأیضاً یعلم : أنّ فی القضایا الشرعیّة الإنشائیّة، لیس للغایة دلالة وضعیّة، ولا للهیئة دلالة خاصّة أو تخصّصیة، بل قولنا: «من الذقن إلیٰ قصاص الشعر یجب غسله» وقولنا: «اغسل وجهک من القصاص إلی الذقن» مثل ما إذا قیل: «یجب غسل الوجه من القصاص إلی الذقن» وهکذا فی سائر الأمثلة، فإنّ الکلّ لایفید إلاّ حدود المطلوب عرفاً، وأنّ ما وراء کلمة «إلیٰ» کما قبل کلمة «من» فی کون القضیّة بالنسبة إلیهما مهملة، ولا تدلّ علیٰ شیء.
فإذا قیل : «أقم الصلاة من الصبح إلی الزوال» أو قیل: «من الصبح إلی الزوال
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 150
أقم الصلاة» فإنّه لایجد العرف مناقضة بینه وبین قوله بعد ذلک: «إن جاءک زید أقم الصلاة من الزوال إلی الغروب» وقوله: «من الزوال إلی الغروب أقم الصلاة» فإنّ کلّ ذلک بحسب المتفاهم العرفیّ واحد.
والسرّ کلّ السرّ : قصور الدلالة الوضعیّة عن ذلک، وأنّ کثیراً ما یقع الخلط بین انتفاء الحکم الشخصیّ والسنخیّ، فإنّ ماهو مرتکز العقلاء أنّ جعل الوجوب إلی المرافق، لابدّ وأن یکون لوجه، وإذاکان الأمر دائراً مداره فیعلم عدم وجه للإیجاب لما بعد الغایة، وأمّا إذا اقتضت جهة اُخریٰ إیجابه لما بعدها، فلایکون هو خلاف الارتکاز بالضرورة، فما فی «تهذیب الاُصول» وغیره من المناقشة فی الأمثلة وکیفیّة أداء المقصود، غیر راجع إلیٰ محصّل.
وبالجملة : مدّعی دلالة الغایة علی انتفاء سنخ الحکم عمّا بعدها، لابدّ وأن یسند إلی الشرع أنّه أوجب الغسل إلی المرافق، أو السیر إلی البصرة، ویسند إلی الشرع أیضاً أنّه اعتبر عدم وجوبه بعدها، ویکفی الإخبار بنحو السالبة المحصّلة بقوله: «إنّه ما أوجب الشرع ذلک» کما یکفی بنحو الموجبة المعدولة فیقول: «إن الشرع اعتبر عدم الوجوب لما بعدها» وهذا واضح للمتدبّر جدّاً، وتأمّل جیّداً، کما أنّ التزامه بذلک بعید قطعاً.
ثمّ إنّه لو کان الأمر کما زعم القائل بالمفهوم، لما کان وجه بین ما بعد الغایة وما قبل الابتداء؛ لاشتراک الصدر مع الذیل فی ذلک، فإذا قیل: «أقم الصلاة من الزوال إلی الغروب» وکان فیه الدلالة علیٰ عدم الوجوب بعد الغایة، ففیه الدلالة أیضاً بالنسبة إلیٰ ما قبل الزوال، ولا أظنّ التزامهم به.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 151