الصورة الثالثة : فیما إذا کان المخصّص لبّیاً
بأن علم بدلیل من العقل أو الإجماع أو بناء من العقلاء ، عدم تطابق الإرادتین بالنسبة إلیٰ مجموع مفاد العامّ، وأنّ تمام مفهوم العامّ لیس مراداً بالإرادة الجدّیة.
وهذا یتصوّر علیٰ وجوه، ضرورة أنّه تارة : یکون ذلک لاتصال القرائن بالعمومات اللفظیّة الموجبة لصرفها إلیٰ محطّ خاصّ، ولکونها واردة فی مصبّ مخصوص، وهو خارج عن محلّ الکلام؛ لأنّه لیس من التخصیص طبعاً.
ولعلّ منه عمومات القرعة، فإنّه ربّما یستکشف من القرائن المختلفة المذکورة فی محلّها؛ أنّ مصبّها تشاحّ الحقوق وتزاحمها من غیر کونها مخصّصة، بل هذا من قبیل ورود العامّ وأداته علی العنوان المقیّد من الأوّل.
واُخریٰ : یکون لأجل خروج العنوان عن تحت العامّ بحکم العقل أو الإجماع مثلاً، وذلک تارة: یکون عنواناً معلوم المراد، واُخریٰ: یکون مجمل المراد.
وثالثة : یکون لأجل خروج أفراد عن تحت العامّ، وهذا تارة: یکون لأجل حیثیّة واحدة مشترکة معلومة.
واُخریٰ : لایعلم ذلک، ولایمکن فهم الجهة الجامعة المشترکة. ولا شقّ خامس فی البین إلاّ ما یأتی مستقلاًّ.
فما کان من قبیل الفرض الأوّل، فهو من قبیل المخصّص اللفظیّ فی صور
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 243
إجماله وتفصیله، ویحذو حذوها فی السرایة وعدمها، وبقاء حجّـیّـة العامّ فی مورد الشبهة وعدمه؛ لأنّ العنوان المزبور الخارج إذا کان تامّاً عند العقل أو الإجماع، یکشف منه التمامیّة عند الشرع، ولا معنیٰ لکون سند العنوان خبر الواحد أو العقل أو الإجماع لیختلف حکم المسألة وحکم العقلاء.
إن قلت : یمکن دعوی الفرق کما فی «الکفایة» بأنّ فی اللفظیّات قد ألقیٰ المولیٰ حجّـتین، وبعد تحکیم الخاصّ یصیر العامّ مقصور الحجّیة من أوّل الأمر، وهذا بخلاف المخصّصات اللبیّة، فإنّ المولیٰ قد ألقی هنا حجّة واحدة یجب العمل علیٰ مقتضاها ما لم تقم حجّة أقویٰ.
وبالجملة : السیرة والطریقة المألوفة بین العقلاء، أقویٰ شاهد علی التفصیل المزبور، انتهیٰ ملخّص مرامه.
قلت : ـ مضافاً إلیٰ أنّ حجّیة العامّ لاتزول بورود المخصّص بالنسبة إلیٰ زمان قبل التخصیص، کما عرفت فی البحث السابقـ إنّ دلیله الذی ادعاه هو الدلیل الجاری بالنسبة إلی المخصّص اللفظیّ، فإنّ رفع الید عن العامّ الحجّة بما لیس بحجّة فی مورده، ممّا لایراه العقل ولا العقلاء، ولو کان اللفظیّ کافیاً للشکّ فی الحجّیة شکّاً مستقرّاً فاللبّی مثله.
وبالجملة : کما اُشیر إلیه العنوان المزبور إذا کان معلوماً عدم حجّیة العامّ بالنسبة إلی مصادیقه، یعدّ من کلام الشرع عرفاً وممضیّاً عند الشرع عقلاً، واختلاف دلیل ذلک العنوان الخارج لایورث فرقاً فی المسألة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 244
وبعبارة اُخریٰ : المخصّص إن کان عذراً بالنسبة إلیٰ ترک العمل بالعامّ، فلابدّ من العمل به فی مورد الشبهة حتّیٰ یعلم العذر، من غیر فرق بین اللبّی واللفظیّ، وأمّا إن کان المخصّص دلیلاً علیٰ عدم الحکم الفعلیّ فی مورده من الأوّل، فلا فرق أیضاً بینهما.
ومن هنا یظهر : أنّ تقریب التمسّک بالعامّ فی اللبّیات العقلیّة؛ هو أنّ فی اللفظیّات کان إلقاء الکبری الکلیّة المخرجة وظیفة الشرع، بخلاف العقلیّة، فإنّ الشرع مستوی النسبة، فیکون العامّ حجّة حتّیٰ یحرز مصداق العنوان العقلیّ.
إن قلت : فیما إذا کان الإجماع قائماً علی العنوان المزبور، فهو دلیل کونه من السنّة، فإن کان مطلقاً أو مجملاً یؤخذ بإطلاقه، ویطرح مورد إجماله، کما فی السنن، بخلاف ما إذا کان عنوان «العاجز» مثلاً خارجاً بحکم العقل عن الأدلّة العامّة، فإنّه لایعدّ من السنّة.
قلت : لنا أن نقول بأنّ فی موارد المخصّصات اللبّیة العقلیّة، یکون مصبّ العامّ من الأوّل مقصوداً ؛ وذلک لأنّ الأحکام العقلیّة المتّبعة هی المرتکزات العقلیّة المتّصلة والناهضة عند العقلاء محفوفة بالقوانین الکلّیة، ولا یتصوّر اللبّی العقلیّ المنفصل، بل اللبّیات العقلیّة دائمة الاتصال، فتکون أسوأ حالاً من اللبّی الإجماعیّ.
وإن شئت قلت : إنّ اللبّی من الإجماع لیس من اللبّی واقعاً، بل هو کاشف عن السنّة، فیکون من اللفظیّ، واللبّی العقلیّ لایتصوّر انفصاله عن العمومات، فلایتصوّر لمحلّ النزاع ـ وهو المخصّص المنفصل ـ فرض حتّیٰ یکون مورد البحث والکلام والنقض والإبرام.
مثلاً : خروج الید الأمانیّة عن عموم «علی الید...» حسب فهم العقلاء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 245
وارتکازهم، لایکون إلاّ متّصلاً، ولا یتصوّر هناک انفصال. ولو فرض حدوث الارتکاز المتأخّر غیر الممضیّ فهو لیس حجّة، ولا مانعاً عن التمسّک بالعموم کما لایخفیٰ. وهکذا العلم بعدم إرادة العدد فی «أکرم کلّ جیرانی» فلاحظ واغتنم.
وما ربّما یقال : من أنّ المرتکزات علی القسمین، الأوّل: ماهو الواضح الظاهر المانع عن انعقاد الظهور، والثانی: ما لا یکون بهذه المرتبة من الظهور، وعلیٰ هذا یصحّ عقد البحث المذکور، غیر تامّ؛ لأنّ الغفلة حین الاطلاع عن الارتکاز العقلائیّ أو الدرک العقلیّ، کالذهول عن الخاصّ اللفظیّ، فإنّه بعد الالتفات یتوجّه إلی القرینة الحافّة، لأنّه کان لو التفت إلی الارتکاز المذکور لاینعقد الظهور التصدیقیّ إلاّ مضیّقاً، فلیلاحظ جیّداً.
وما کان من قبیل الفرض الثانی وهو کون الخارج أفراداً، فإن أمکن أخذ الجامع فلابدّ وأن یکون ذلک الجامع مورد الحکم والخارج؛ لأنّ الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة هی عناوین موضوعاتها، فیکون مندرجاً فی الفرض الأوّل.
وإن لم یکن ذلک، وکان کلّ واحد خارجاً بخصوصه، فالشکّ یرجع إلی الشکّ فی التخصیص، فیکون خارجاً عن محطّ الکلام فی المقام.
ومن هنا یظهر ما عن الشیخ الأعظم الأنصاریّ قدس سره حیث نسب إلیه حجّیة العامّ فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص اللبّی مطلقاً، فإنّه فیما نسب إلیه خرج عن محیط المسألة.
وأمّا دعواه کما فی «تقریرات» جدّی العلاّمة قدس سره: بأنّ الأکثر فی المخصّصات اللبّیة، خروج الأفراد بلا توسّط عنوان جامع بینها یکون هو الخارج حقیقة، فغیر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 246
مسموعة أیضاً، کما اُشیر فی ضمن البحث لأمثلته.
ثمّ إنّ من الواضح أنّ المخصّص اللبّی العقلیّ لایمکن أن یکون مجملاً؛ لأنّ الإجمال ینافی حکم العقل کما تریٰ.
ومن هنا یتبیّن : أنّ فی الشکّ فی القدرة یتعیّن جریان البراءة؛ لأنّ العنوان الخارج هو عنوان «العاجز» وهو ـ مضافاً إلی أنّه بعنوانه موضوع حکم العقل دون أفراده ـ یعدّ من المرتکزات الحافّة بالکلام المانعة عن عموم حجّیة العامّ بالنسبة إلیٰ أفراده .
إن قلت : بناء العقلاء والمحقّقین علی الاحتیاط فی هذه المسألة، ویعلم منه أنّ ذلک حکم سارٍ فی جمیع المخصّصات اللبیّة العقلیّة دون الإجماعیّة؛ لرجوعها إلی اللفظیّة.
وبعبارة اُخریٰ : لابدّ من التمسّک بالعامّ حتّیٰ فی اللبّیات المتّصلة، فضلاً عن المنفصلة لو فرض له مثال، وخروج الإجماع عن اللبّیات صغرویّاً لایضرّ بما هی الجهة المبحوث عنها فی المقام.
قلت : قد مضیٰ فی مقدّمات الترتّب تفصیل الکلام فی هذه المسألة، والذی هو التحقیق أحد الاُمور علیٰ سبیل منع الخلوّ؛ وهو أنّ الوجه فی بنائهم هو أنّهم یرون ـ فی مورد العجز ـ التکالیفَ فعلیّة، وعندئذٍ لابدّ من الاعتذار، والشکّ فی القدرة یرجع إلی الشکّ فی العذر، فلابدّ من الاحتیاط، وهذا هو مختار السیّد المحقّق الوالد ـ مدّظلّه ، فلایقاس به سائر العناوین الخارجة لبّاً.
أو أنّ بین العجز وسائر العناوین فرقاً، ولا یقاس مورد الشکّ فی القدرة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 247
بالشکّ فی العداوة فیما إذا ورد «أکرم کلّ عالم» وعلمنا من حال المولیٰ أنّه لایحبّ إکرام عدوّه، فإنّ فی الصورة الاُولیٰ یکون العجز من صفات المکلّفین غیر الدخیلة فی المقتضیات، وعدم ثبوت الأمر والفعلیّة ینتهی إلیٰ عدم الاقتضاء فی ناحیة الامتثال، بخلاف الصورة الثانیة، فإنّه یرجع عدم الأمر فیها إلیٰ حال المولیٰ، وعدم ثبوت المقتضی للتکلیف، وعدم حصول ملاک بالنسبة إلیه فی ناحیة الجعل، وهذا هو الموجب لبناء العقلاء علی الاحتیاط فی خصوص الشکّ فی القدرة.
أو أنّ أصل البناء المزبور غیر محرز، ولیس هو إلاّ من الادعاء، ویستتبع الأمر ذلک المبنیٰ، وهو أنّ الأمر دائر مدار کون العجز من الأعذار، أو یکون التکلیف فی مورد العجز غیر موجود، فعلی الأوّل لابدّ من الاحتیاط، وعلی الثانی تجری البراءة ولو شرعیّة لو استشکل فی العقلیّة منها، وبناء العقلاء غیر واضح نهجه وحدوده، فلاحظ واغتنم.
وبالجملة : لایمنع بناؤهم المزبور عن إجراء البراءة الشرعیّة إذا لم یکن العامّ دلیلاً فی مورد الشکّ والشبهة.
وبالجملة : ماهو المعلوم من العرف هو الاحتیاط، وأمّا منشأه فهو غیر محرز، وماهو النافع هو إحراز کون احتیاطهم مستنداً إلی الأخذ بعموم العامّ، مع عدم فعلیّة التکلیف عندهم فی مورد العجز، فلاحظ جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 248