وجه عدم وجوب الفحص
إذا تبیّنت حدود محلّ البحث ومحطّ النزاع، فغایة ما یمکن أن یستند إلیه لإنکار وجوب الفحص؛ هو أنّ الأدلّة اللفظیّة بما لها من المعانی تکون مرادة، إلاّ مع قیام القرینة علیٰ خلافها، وعند الشکّ فی وجود القرینة لابدّ من اتباعها؛ حذراً من الوقوع فی الخلاف بلا عذر.
ویشهد لذلک بناء الأصحاب الأقدمین، حیث إنّهم بعد سماع العامّ والمطلق من أحد المعصومین، کانوا یعملون بها من غیر انتظار المخصّص والمقیّد والقرینة وغیرها، وقد کثرت المطلقات المتمسّک بها فی الفقه فی کلمات الرواة، وفی الأجوبة بعد الأسئلة الجزئیّة، فإنّ السائل کان یعمل بالإطلاق إلیٰ أن یصل إلیه القید، من غیر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 285
بناء منهم علی الفحص، ومن غیر انتظارهم إلیٰ حال الیأس عن الظفر بالقید، أو صدوره عن الإمام المسؤول، أو المعصوم الآخر.
وبالجملة : کان فی ابتداء الأمر العمل بالأدلّة قبل الفحص متعارفاً بلا شبهة، ولو کان الفحص واجباً لبان؛ لکثرة الابتلاء به، وقد عرفت أنّ المسألة عنونت عند المتأخّرین عنهم فی المائة الرابعة.
ولاینبغی المقایسة بین القوانین والکبریات الملقاة للعمل؛ علیٰ ماهو المتعارف فی الإسلام، وبین الکیفیّة المتعارفة فی القوانین العرفیّة الدولیّة، فإنّ المتعارف فی القوانین العرفیّة علیٰ ضبط العامّ أوّلاً ، ثمّ ذکر المخصّصات والمقیّدات، ثمّ تنشر تلک الکتب المشتملة علیها للعمل والتنفیذ والتطبیق، بخلاف الإسلام فإنّ المتعارف فیه علیٰ نشر العموم والمطلق، ثمّ ذکر المقیّد والقرائن الصارفة والمعیّنة.
ومن هنا یظهر ما فی کلمات السیّد الوالد ـ مدّظلّه تبعاً لجمّ غفیر منهم؛ من التشبّث بالبناءات العرفیّة أوّلاً، وبالمتعارف فی القوانین العقلائیّة ثانیاً، وأنّ المقایسة فی غیر محلّها، والبناءات العرفیّة فی مثل العمومات الملقاة من قبل الموالی إلیٰ عبیدهم علیٰ عدم الفحص، کما هم ملتزمون به، ولیس ذلک إلاّ لأجل ما اُشیر إلیه فی القوانین الإلهیّة التی تصل إلی العبید علیٰ نعت التدریج، فکان للشرع طریق خاصّ فی التقنین والنشر، وبه یمتاز عن المتعارف الیوم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 286
وبالجملة : لاننکر وجوب الفحص فی صورة واحدة؛ وهی ما إذا کان الکتاب المنشور والرسالة المنشورة، مشتملة علیٰ مخصّصات ومقیّدات فیها غیر معلومة أماکنها، وأمّا الکتب الروائیّة الموجودة فیما بأیدینا فهی من علمائنا، وهذا غیر کافٍ لإیجاب الفحص بعدما کان بناء السابقین علی العمل بالعموم الواصل إلیهم المسموع عن المعصوم علیه السلام وهکذا الإطلاق وغیره، فلاحظ وتدبّر.
أقول : الأمر کما تحرّر، إلاّ أنّ هنا بیاناً آخر؛ وهو أنّ هذه المسألة لیست من قبیل المسائل التی إذا اُحرز بناء العقلاء فی السلف، أو بناء المتشرّعة فی السابق علیها، فلاتنقلب عمّا کانت علیه، کحجّیة الخبر الواحد، والید، والظواهر، فإنّ استکشاف بنائهم علی اعتباره یوجب لزوم الحکم بحجّیته فی عصرنا، وأمّا هذه المسألة فهی من المسائل التی ینقلب میزانها؛ لاختلاف مبادئها.
وإن شئت قلت : إنّ العقل حاکم بلزوم اتخاذ الحجّة؛ حتّیٰ تکون عذراً عرفیّاً وعقلائیّاً، ولا دلیل لفظیّ ولا لبّی علیٰ أنّ کلّ ما کان علیه السلف فی اتخاذ الحجّة، فهو المرضیّ والمتّبع، بل غایة ما ثبت هو بناء السابقین عملاً علی العمل بالعمومات والمطلقات قبل الفحص، ورضا الشرع به من غیر ردع عنه، وأمّا أنّ هذه الطریقة ممضاة شرعاً مطلقاً وفی الأعصار المتأخّرة، فهی غیر واضحة، بل ممنوعة.
وعلیٰ هذا، فلو کان بناء العقلاء والعرف ـ بعد اجتماع العمومات والمخصّصات فی الکتب الموسّعة، والرسائل والدفاتر المعلومة، والذخائر المعیّنة ـ علی الفحص فلابدّ من ذلک، وهذا ممّا لاشبهة فیه، ولا إشکال علیه بالضرورة، فإنّ دیدن العقلاء فی هذه العصور وعادتهم فی جمیع الأمصار والممالک؛ علی الفحص عن قیود القوانین المنتشرة فی الدفاتر الأساسیّة والمنشورات العامّة بلا مناقشة، وحیث إنّ الأصحاب الأوّلین ـ قدّس الله أسرارهم وجزاهم الله أحسن الجزاء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 287
اتعبوا أنفسهم، وتحمّلوا مصائب کثیرة، فدوّنوا الکتب الموجودة التی بین أیدینا المشتملة علی العمومات والمخصّصات والمقیّدات والقرائن المنفصلة، ولایعذر أحد إن اتخذ رأیاً بمراجعة العامّ قبل الفحص عن محالّه، أو إن عمل علیٰ طبق الظاهر قبل الفحص عن القرائن المحتملة المنتشرة فیها.
وبالجملة : إنّ الظواهر فی عصر المعصومین علیهم السلام کانت حجّة قبل الفحص؛ سواء استقرّ ظهورها، أو کانت غیر مستقرّة الظهور، وأمّا فی عصرنا فمادام لم یستقرّ الظهور، لایصحّ الاعتماد علیها والاحتجاج بها.
ولو قیل : إنّ فی عصرهم علیهم السلام أیضاً کان جماعة من الأصحاب یکتبون الاُصول والفروع علی حسب تدوین القوانین، وتلک الاُصول الأربعمائة وصلت إلیٰ أیدی أرباب المجامع الأخیرة ومؤلّفیالکتب الأربعة، وکذا یکون الأمر کذلک بالنسبة إلی الجوامع المتأخّرة للمحمّدین بعد الألف، وعلیٰ هذا فلا فرق بین الحالین.
قلنا : لا منع منه إجمالاً، إلاّ أنّ کثیراً من المطلقات والعمومات، قد اُلقیت إلی السائلین فی مقام العمل قطعاً، وما کان یجب الفحص فیها عن القرائن الآتیة أو المتقدّمة، ولا وجه للقول بالتفصیل، فتعیّن القول بعدم وجوب الفحص.
والأمر بعدما عرفت منّا، سهل جدّاً؛ لما أنّ الوجه الوحید لإیجاب الفحص هو المراجعة إلیٰ دأب العرف والعقلاء فی کیفیّة اتخاذ الرأی والحجّة والدلیل، ولا شبهة فی أنّ المراجعة فی هذه العصور إلی الظواهر مع وجود القرائن والمخصّصات من غیر فحص عنها، لیست مقبولة عندهم، ولا العامل بها معذوراً.
ولو رجع ما فی «الکفایة» من المعرّضیة للتخصیص إلیٰ ما ذکرنا فهو، وإلاّ فالمعرضیّة بمعنی القابلیّة هی باقیة بعد الفحص، والمعرضیّة بمعنی الظنّ أو العلم أو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 288
الوثوق هی الوجوه الآتیة إن شاء الله تعالیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 289