الجانب الأوّل : فی المفهوم الموافق
فقد اشتهر وادعی الاتفاق علیٰ تقدّمه علی العامّ ولو کانت النسبة بینه وبین العامّ عموماً من وجه؛ وذلک لأقوائیّة المفهوم فی محلّ التعارض من العامّ فی الظهور.
والذی هو التحقیق : أنّ المفاهیم الموافقة لابدّ وأن تکون مستندة إلی الدلالة اللفظیّة؛ بحیث تقع المعارضة والمکاذبة بینها وبین المنطوق المخالف معها بالتباین، کما فی نحو قوله تعالیٰ: «فَلاَتَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ» ونحو «لابأس بضربهما» فإنّه لایتفاهم عرفاً منهما ولایجمع بالالتزام بهما بدعویٰ إمکان حرمة القول بالاُفّ، وجواز الضرب، فإنّه وإن أمکن عقلاً، ولکنّه غیر مقبول عرفاً، فإذا کان کذلک ففی صورة المخالفة بالعموم والخصوص المطلق یجمع بینهما بالتخصیص، وفی صورة کون النسبة بینهما العموم من وجه، فإن کانت النسبة بین المنطوق والعامّ أیضاً عموماً من وجه، فلیعامل معهما معاملة تلک المسألة.
وحدیث أظهریّة المفهوم من العامّ بعد کونه مستنداً إلی اللفظ، لا أساس له؛ لما تحرّر منّا فی محلّه: من أنّه لایعقل الأظهریّة فی محیط الدلالات الوضعیّة بما هی هی .
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 367
وأمّا حدیث وقوع التعارض أوّلاً وبالذات بین المنطوق والعامّ، وثانیاً بین العامّ والمفهوم، فهو ممّا لایرجع إلیٰ محصّل أیضاً، وحرّرناه فی المفاهیم، فإنّ مصبّ التعارض نفس المفهوم.
نعم، یلزم من التدخّل فی حدود المفهوم تصرّف لبّاً فی المنطوق، ولاینبغی الخلط بین محطّ المعارضة والدعویٰ، وبین لوازمها العقلیّة واللبّیة، کما خلطوا مراراً.
وأمّا إذا کانت النسبة بین العامّ والمنطوق عموماً مطلقاً، مع أنّ النسبة بین العامّ والمفهوم عموم من وجه بناءً علیٰ تصوّره، کما فی نحو «أکرم فسّاق خدّام العلماء» و«لاتکرم الفسّاق» فإنّه لمکان المعارضة المستقلّة بین العامّ والمنطوق وتقدّم المنطوق ترتفع المعارضة بین العامّ والمفهوم بالطبع وبالتبع.
ولکن الشأن فی أنّ المفهوم الموافق فی أمثال هذه الأمثلة غیر تامّ؛ لما لایستند إلی الوضع، وحدیث الأولویّة القطعیّة ممّا لا شأن له فی فقهنا، ولایجوز إطالة البحث حوله، ولا تضییع العمر بتکثیر الأمثلة فی أمثاله.
فبالجملة تحصّل : أنّ میزان تشخیص المفهوم الموافق عن غیره هو العرف، وذلک یحصل فی صورة فرض الدلیل المخالف له فی تمام المضمون، فإنّه إذا کان التکاذب بینهما غیر قابل للجمع عرفاً فهو، وإلاّ فلایعدّ من المفهوم الموافق، ولایکون حجّة.
وأمّا کیفیّة حدوث هذا المفهوم فربّما تختلف باختلاف القرائن والآفاق؛ لأنّ المسألة لغویّة وضعیّة، لا عقلیّة وشرعیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 368
وما فی «تهذیب الاُصول» من عدّ بعض الفروض ـ کإلغاء الخصوصیّة ـ من المفهوم الموافق، لایخلو من تسامح، والأمر سهل.
کما أنّ مسألة إثبات الحرمة لأجل العلّة المنصوصة، لیست عند کثیر منهم من المفهوم الموافق؛ لأنّ العرف یجد منه أنّ عنوان «المسکر» حرام، وفی المفهوم لابدّ من إثبات الحکم لموضوع آخر غیر مذکور.
نعم، بناءً علیٰ ما اخترناه فی باب منصوص العلّة؛ من أنّ المحرّم هو الخمر، وأمّا الفقّاع ونحوه فهو بعنوانه أیضاً محرّم لأجل الإسکار، ولایکون الحکم موضوعه المسکر، فهو حینئذٍ یعدّ من المفهوم الموافق المستند إلی الدلالة الوضعیّة، ولذلک لو قام دلیل علیٰ حلّیة المسکر مطلقاً، تقع المعارضة بین الدلیلین.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ ظهور «اللام» فی العلّیة ظهور إطلاقیّ وتعلیقیّ، فیخرج هذا أیضاً من باب المفهوم الموافق، ولذلک یتعیّن الأخذ بالمعارض المزبور.
وفذلکة البحث أنّه لابدّ أوّلاً: من تشخیص المفهوم الموافق، وقد عرفت أنّ القضیّة المستفادة من القضیّة المذکورة مسانخة معها، ومماثلة لها فی المحمول، ومخالفة معها فی الموضوع، وبذلک یخرج مثل إلغاء الخصوصیّة ومسألة العلّة المنصوصة ـ علیٰ ما فهم منها المشهور ـ عن المفهوم الموافق.
وثانیاً : لابدّ من تشخیص کونه مستنداً إلی الوضع والدلالات الوضعیّة؛ سواء کانت لأجل الوضع التعیّنی، أو الوضع التعیینیّ، وطریق تشخیص ذلک فرض الدلیل المخالف معه فی المفاد علیٰ نحو التباین، فإنّه لایمکن الجمع بینهما عرفاً، فهو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 369
مستند إلی الوضع، وإلاّ فهو مستند إلی الاُمور الاُخر، فیکون خارجاً عن المفهوم الموافق الحجّة شرعاً، وبذلک تخرج الأولویّة القطعیّة عن أقسام المفهوم الموافق، بل والعلّة المنصوصة علیٰ رأینا أیضاً؛ ضرورة أنّه لو صرّح المولیٰ بعدم وجوب إکرام العدول من الفقهاء، وصرّح بإیجاب إکرام الفسّاق منهم، یجوز الأخذ بهما من غیر تنافٍ عرفیّ بینهما؛ لإمکان المصالح الواضحة کما تریٰ، ومنها: أنّ العدول لمکان وجهاتهم فی الاجتماع لایحتاجون إلی الإیجاب فی أمر معاشهم، بخلاف الفسّاق منهم، وغیر ذلک.
ثمّ بعدما عرفت هاتین الجهتین ولاحظتهما، لابدّ من الجمع بینهما إن أمکن عرفاً، وإلاّ فیعالج بینهما علاج باب التعارض أو التزاحم، وفی المسألة بعض صور اُخر یظهر حالها من هذه الصور، ویکفیک ذلک إن شاء الله تعالیٰ.
تذنیب : لو فرضنا استفادة المفهوم الموافق من مقدّمات الإطلاق، فیختلف حکم الکلام الواحد والکلامین، کما تختلف المسألة باختلاف المبانی فی احتیاج العامّ إلی المقدّمات المزبورة وعدمها، والأمر واضح، وقد عرفت المسألة بحدودها فی تعارض العامّ والخاصّ منطوقاً، فلا حاجة إلیٰ إعادتها.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 370