المقصد الخامس فی العامّ والخاصّ

الجانب الأوّل : فی المفهوم الموافق

الجانب الأوّل : فی المفهوم الموافق

‏ ‏

‏فقد اشتهر‏‎[1]‎‏ وادعی الاتفاق‏‎[2]‎‏ علیٰ تقدّمه علی العامّ ولو کانت النسبة‏‎ ‎‏بینه وبین العامّ عموماً من وجه؛ وذلک لأقوائیّة المفهوم فی محلّ التعارض من‏‎ ‎‏العامّ فی الظهور.‏

والذی هو التحقیق :‏ أنّ المفاهیم الموافقة لابدّ وأن تکون مستندة إلی الدلالة‏‎ ‎‏اللفظیّة؛ بحیث تقع المعارضة والمکاذبة بینها وبین المنطوق المخالف معها بالتباین،‏‎ ‎‏کما فی نحو قوله تعالیٰ: ‏‏«‏فَلاَتَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ‏»‏‎[3]‎‏ ونحو «لابأس بضربهما» فإنّه‏‎ ‎‏لایتفاهم عرفاً منهما ولایجمع بالالتزام بهما بدعویٰ إمکان حرمة القول بالاُفّ،‏‎ ‎‏وجواز الضرب، فإنّه وإن أمکن عقلاً، ولکنّه غیر مقبول عرفاً، فإذا کان کذلک ففی‏‎ ‎‏صورة المخالفة بالعموم والخصوص المطلق یجمع بینهما بالتخصیص، وفی صورة‏‎ ‎‏کون النسبة بینهما العموم من وجه، فإن کانت النسبة بین المنطوق والعامّ أیضاً‏‎ ‎‏عموماً من وجه، فلیعامل معهما معاملة تلک المسألة.‏

‏وحدیث أظهریّة المفهوم من العامّ بعد کونه مستنداً إلی اللفظ‏‎[4]‎‏، لا أساس له؛‏‎ ‎‏لما تحرّر منّا فی محلّه: من أنّه لایعقل الأظهریّة فی محیط الدلالات الوضعیّة بما‏‎ ‎‏هی هی .‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 367
‏وأمّا حدیث وقوع التعارض أوّلاً وبالذات بین المنطوق والعامّ، وثانیاً بین‏‎ ‎‏العامّ والمفهوم‏‎[5]‎‏، فهو ممّا لایرجع إلیٰ محصّل أیضاً، وحرّرناه فی المفاهیم‏‎[6]‎‏، فإنّ‏‎ ‎‏مصبّ التعارض نفس المفهوم.‏

‏نعم، یلزم من التدخّل فی حدود المفهوم تصرّف لبّاً فی المنطوق، ولاینبغی‏‎ ‎‏الخلط بین محطّ المعارضة والدعویٰ، وبین لوازمها العقلیّة واللبّیة، کما خلطوا مراراً.‏

‏وأمّا إذا کانت النسبة بین العامّ والمنطوق عموماً مطلقاً، مع أنّ النسبة بین العامّ‏‎ ‎‏والمفهوم عموم من وجه بناءً علیٰ تصوّره، کما فی نحو «أکرم فسّاق خدّام العلماء»‏‎ ‎‏و«لاتکرم الفسّاق» فإنّه لمکان المعارضة المستقلّة بین العامّ والمنطوق وتقدّم‏‎ ‎‏المنطوق ترتفع المعارضة بین العامّ والمفهوم بالطبع وبالتبع.‏

‏ولکن الشأن فی أنّ المفهوم الموافق فی أمثال هذه الأمثلة غیر تامّ؛ لما‏‎ ‎‏لایستند إلی الوضع، وحدیث الأولویّة القطعیّة ممّا لا شأن له فی فقهنا، ولایجوز‏‎ ‎‏إطالة البحث حوله، ولا تضییع العمر بتکثیر الأمثلة فی أمثاله.‏

فبالجملة تحصّل :‏ أنّ میزان تشخیص المفهوم الموافق عن غیره هو العرف،‏‎ ‎‏وذلک یحصل فی صورة فرض الدلیل المخالف له فی تمام المضمون، فإنّه إذا کان‏‎ ‎‏التکاذب بینهما غیر قابل للجمع عرفاً فهو، وإلاّ فلایعدّ من المفهوم الموافق،‏‎ ‎‏ولایکون حجّة.‏

‏وأمّا کیفیّة حدوث هذا المفهوم فربّما تختلف باختلاف القرائن والآفاق؛ لأنّ‏‎ ‎‏المسألة لغویّة وضعیّة، لا عقلیّة وشرعیّة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 368
‏وما فی «تهذیب الاُصول» من عدّ بعض الفروض ـ کإلغاء الخصوصیّة ـ من‏‎ ‎‏المفهوم الموافق‏‎[7]‎‏، لایخلو من تسامح، والأمر سهل.‏

‏کما أنّ مسألة إثبات الحرمة لأجل العلّة المنصوصة، لیست عند کثیر منهم من‏‎ ‎‏المفهوم الموافق‏‎[8]‎‏؛ لأنّ العرف یجد منه أنّ عنوان «المسکر» حرام، وفی المفهوم‏‎ ‎‏لابدّ من إثبات الحکم لموضوع آخر غیر مذکور.‏

‏نعم، بناءً علیٰ ما اخترناه فی باب منصوص العلّة؛ من أنّ المحرّم هو الخمر،‏‎ ‎‏وأمّا الفقّاع ونحوه فهو بعنوانه أیضاً محرّم لأجل الإسکار، ولایکون الحکم‏‎ ‎‏موضوعه المسکر‏‎[9]‎‏، فهو حینئذٍ یعدّ من المفهوم الموافق المستند إلی الدلالة‏‎ ‎‏الوضعیّة، ولذلک لو قام دلیل علیٰ حلّیة المسکر مطلقاً، تقع المعارضة بین الدلیلین.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ ظهور «اللام» فی العلّیة ظهور إطلاقیّ وتعلیقیّ، فیخرج‏‎ ‎‏هذا أیضاً من باب المفهوم الموافق، ولذلک یتعیّن الأخذ بالمعارض المزبور.‏

‏وفذلکة البحث أنّه لابدّ أوّلاً: من تشخیص المفهوم الموافق، وقد عرفت أنّ‏‎ ‎‏القضیّة المستفادة من القضیّة المذکورة مسانخة معها، ومماثلة لها فی المحمول،‏‎ ‎‏ومخالفة معها فی الموضوع، وبذلک یخرج مثل إلغاء الخصوصیّة ومسألة العلّة‏‎ ‎‏المنصوصة ـ علیٰ ما فهم منها المشهور‏‎[10]‎‏ ـ عن المفهوم الموافق.‏

وثانیاً :‏ لابدّ من تشخیص کونه مستنداً إلی الوضع والدلالات الوضعیّة؛ سواء‏‎ ‎‏کانت لأجل الوضع التعیّنی، أو الوضع التعیینیّ، وطریق تشخیص ذلک فرض الدلیل‏‎ ‎‏المخالف معه فی المفاد علیٰ نحو التباین، فإنّه لایمکن الجمع بینهما عرفاً، فهو‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 369
‏مستند إلی الوضع، وإلاّ فهو مستند إلی الاُمور الاُخر، فیکون خارجاً عن المفهوم‏‎ ‎‏الموافق الحجّة شرعاً، وبذلک تخرج الأولویّة القطعیّة عن أقسام المفهوم الموافق، بل‏‎ ‎‏والعلّة المنصوصة علیٰ رأینا أیضاً؛ ضرورة أنّه لو صرّح المولیٰ بعدم وجوب إکرام‏‎ ‎‏العدول من الفقهاء، وصرّح بإیجاب إکرام الفسّاق منهم، یجوز الأخذ بهما من غیر‏‎ ‎‏تنافٍ عرفیّ بینهما؛ لإمکان المصالح الواضحة کما تریٰ، ومنها: أنّ العدول لمکان‏‎ ‎‏وجهاتهم فی الاجتماع لایحتاجون إلی الإیجاب فی أمر معاشهم، بخلاف الفسّاق‏‎ ‎‏منهم، وغیر ذلک.‏

‏ثمّ بعدما عرفت هاتین الجهتین ولاحظتهما، لابدّ من الجمع بینهما إن أمکن‏‎ ‎‏عرفاً، وإلاّ فیعالج بینهما علاج باب التعارض أو التزاحم، وفی المسألة بعض صور‏‎ ‎‏اُخر یظهر حالها من هذه الصور، ویکفیک ذلک إن شاء الله تعالیٰ.‏

تذنیب :‏ لو فرضنا استفادة المفهوم الموافق من مقدّمات الإطلاق، فیختلف‏‎ ‎‏حکم الکلام الواحد والکلامین، کما تختلف المسألة باختلاف المبانی فی احتیاج‏‎ ‎‏العامّ إلی المقدّمات المزبورة وعدمها، والأمر واضح، وقد عرفت المسألة بحدودها‏‎ ‎‏فی تعارض العامّ والخاصّ منطوقاً‏‎[11]‎‏، فلا حاجة إلیٰ إعادتها.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 370

  • ))معالم الدین: 146 / السطر 7، الفصول الغرویّة: 212 / السطر 27، مطارح الأنظار : 209 / السطر25 ، کفایة الاُصول : 272 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 555 ـ 557 .
  • ))کفایة الاُصول: 272، مناهج الوصول 2 : 297.
  • ))الإسراء (17) : 23 .
  • ))مطارح الأنظار: 209 / السطر 25 ـ 30 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 2 : 556، حقائق الاُصول 1: 530، محاضرات فی اُصول الفقه 5 : 293 ـ 294 .
  • ))تقدّم فی الصفحة 140 ـ 141 .
  • ))تهذیب الاُصول 1 : 511 ـ 512 .
  • ))فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 555، تهذیب الاُصول 1: 512.
  • ))تقدّم فی الصفحة 140 ـ 141 .
  • ))أجود التقریرات 2 : 498، فوائد الاُصول 2 : 555 ـ 556.
  • ))تقدّم فی الصفحة 361 ـ 363 .